في أكتوبر/تشرين الثاني 2016، وقف «محسن فكري» بائع السمك المغربي «30 عامًا» مشدوهًا أمام حصاد يومه من السمك وتروس عربة النفايات تأكله. اعتقد أن محاولته لم السمك من بين فكي المفرمة ستنجح؛ لكنه لم يفكر لحظة في أن الفكين نفسهما سيبتلعانه هو الآخر.فبعدما أمر الشرطي سائق العربة بفرم أسماك محسن أمام أهالي منطقة الحسيمة الريفية، لم يقف أمام محاولة محسن إنقاذ مكسبه وأمر السائق بطحنه قائلًا له: «طحن مو» أو اطحن أمه؛ وهما الكلمتان اللتان ظلتا تترددان في سماء الريف المغربي بعد انتشار فيديو «طحن» بائع السمك.مثل القش الذي قسم ظهر بعير البلدان العربية؛ لم تمر جنازة بائع السمك إلا وبدأت تظاهرات صغيرة من مناطق ريفية وحتى في مراكش والرباط والدار البيضاء يهتفون: طحن مو، كلنا محسن، مجرمون، قتلة، إرهابيون، كرامة، حرية، عدالة اجتماعية؛ نعم هو شعار ثورات الربيع العربي الذي وقف كحركة 20 فبراير الاحتجاجية في المغرب مزامنًا لتونس ومصر والبحرين.ولكن الأهم ليس هنا؛ ولكنه في رفع المتظاهرين الذين وصل اليوم عددهم للآلاف المهددة للسلطة لعلم «جمهورية الريف» الأحمر.


ما هي جمهورية الريف المغربي؟

الريف المغربي -موقع حادث بائع السمك- هو منطقة جبلية معزولة شمال المغرب على ساحل البحر المتوسط. منطقة فقيرة، استثمارها شبه منعدم، وبسبب ذلك تفقد كل يوم من شبابها المهاجرين لعدم توفر أسباب المعيشة في المنطقة على عكس باقي المدن المغربية الأخرى المتمتعة بالبنية التحتية والخدمات الاجتماعية وتوافر فرص العمل لزيادة الاستثمارات.يعيش في الريف المغربي أمازيغيون، قاوموا الاستعمار الإسباني في حرب عصابات، مستخدمين الغازات السامة بزعامة الأمير عبد الكريم الخطابي لمدة خمس سنوات، وأسسوا جمهوريتهم «جمهورية الريف» عام 1921.وهي الجمهورية التي لم تصمد طويلًا أمام اتحاد فرنسا وإسبانيا لاحتلالها؛ ما يشعرهم بالعزة والشدة رغم فقرهم الذي يرجعون سببه إلى الملك الراحل، الحسن الثاني، الذي يبدو أنه لم يغفر لهم ثورتهم على والده في عامي 1958، 1959.ولم تكن هذه المرة الوحيدة التي قاوم فيها أهل الريف؛ ولكن يستمر اعتزازهم بوقوفهم أمام السلطة في احتجاجات «انتفاضة الخبز» عام 1984، بل كان الريف المنطقة الوحيدة التي شهدت سقوط قتلى في 2011.


احتجاج شعبي قام ولم يقعد

بدأ الاحتجاج مشتعلًا في جنازة بائع السمك خلف عربة الإسعاف الصفراء، غضب المغربيون في وجه الشرطة بالهتاف والحجارة، ونصبوا اعتصامهم في الحسيمة. كانت أولى المواجهات العنيفة في أول يناير 2017 حين تدخلت الشرطة لتفريق الاعتصام، وجرت المواجهات بين المتظاهرين وقوات الأمن ما أسفر عن سقوط قرابة 30 جريحًا من رجال الشرطة.بيد أن المتظاهرين لا ينفكون عن رد الضربات؛ ففي أواخر مارس 2017 هاجم المتظاهرون مقرًا للشرطة بالحجارة في أمزرون -المدينة المجاورة للحسيمة موقع الحادث- وأشعلوا النار في محيط المبنى، واعتقلت الشرطة 14 شخصًا في هذه الواقعة وأقيل والي إقليم الحسيمة؛ وأصبحت الاحتجاجات منتظمة أسبوعيًا وتطورت المواجهات إلى حرق أربع سيارات كبيرة وحافلة لنقل الشرطة.راهنت السلطة لأول مرة على الحوار بدلًا من العنف، فزار وزير الداخلية عبد الوافي رسميًا منطقة الحسيمة لأول مرة في أبريل، وفي نفس الشهر صدرت أحكام بالسجن لمدد تتراوح بين خمسة وثمانية أشهر على 7 متهمين في قضية موت بائع السمك من بين 11 شخصًا بينهم مسئولون في إدارة صيد السمك وموظفون في وزارة الداخلية وفي شركة التنظيف؛ ولكن هذه الإجراءات لم تكن كافية لإرضاء طلبات المتظاهرين التي باتت في ازدياد.


مطالب اجتماعية متولدة لن يطفئها الثأر

في مطلع مايو/أيار اعتبرت الصحف المحلية ما يحدث على أرض المغرب «زلزال اجتماعي»؛ فقد حرص متزعمو الاحتجاجات على التخلي عن الشعارات التي قد تشير إلى ما هو سياسي أو فئوي والتركيز فقط على مطالب اجتماعية محضة في وجه من ينعت سكان الريف بالراغبين في الانفصال لتخويفهم وتفتيت المطالب الاجتماعية وأخذ الاحتجاج في طريق آخر؛ ولكن سكان الريف في المقدمة ذهبوا للتنديد بهذه الخطابات وتوحيد هتافاتهم.تبنى الشارع المغربي القضية محتجين على الأوامر التعسفية ومطالبين بإحقاق العدل والقصاص، وانضم للقائمة طلب الخروج من حالة الخصاصة التي يعيشها سكان الريف والبطالة والفقر ونقص الخدمات الاجتماعية بمنطقة الريف أفقر مناطق المغرب.ويقول نشطاء الريف المغربي قائدي الحراك منذ عدة أشهر، إن حراكهم ذو مطالب مشروعة، تتعلق جميعها بالتهميش الذي تتعرض له المنطقة منذ عقود، وهي تطالب بالتخلي عن سياسة التهميش، والحصار الاقتصادي التي تتعامل بها الدولة المغربية مع الريف، وربطه بخطوط السكك الحديدية المغربية، والشبكة الوطنية للطرق، إضافة إلى مطالب أخرى منها بناء جامعات ومعاهد.وتتكتم وسائل الإعلام الرسمية والمسئولون السياسيون إلى حد كبير بشأن أحداث الريف، لكن الفروع المحلية لثلاثة أحزاب بينها حزب العدالة والتنمية الحاكم أصدرت بيانًا مشتركًا حذرت فيه من خطورة الوضع وانتقدت ردود السلطات.


#كلنا_ناصر_الزفزافي

«ناصر الزفزافي» شاب عاطل عن العمل، أصبح رمزًا للحركة الشعبية في الريف يتحدث باسمهم، ويعبر عن معاناتهم، ويسرد مطالبهم؛ سواء على الأرض في الاحتجاجات، أو في رسائله وفيديوهاته على موقع فيسبوك، و يندد بـالديكتاتورية والقمع والدولة الأمنية.وعن مطالب الريف يقول ناصر:

منذ ستة أشهر مطالبنا واضحة وشرعية في إطار القانون: بناء مستشفيات وجامعات وبنى تحتية، مكافحة لوبيات العقارات ومحاربة اللوبيات الذين يسرقون الثروة السمكية

وأضاف: «نحن أبناء البسطاء الفقراء نقول لا للظلم لا للفساد. لا نطلب شيئًا استثنائيًا بل مجرد إعادة تأهيل لمنطقتنا المنكوبة بالكامل اليوم… مطالبنا اقتصادية واجتماعية ولم نطرح يومًا إقامة دولة مستقلة».في 26 مايو/أيار ظهر تسجيل فيديو على فيسبوك مأخوذًا بكاميرا هاتف محمول يهاجم فيه الزفزافي إمام مسجد هاتفًا «هذه المساجد لله أم للمخزن (في إشارة إلى الدولة). الإمام جاء ليغتصب أمهاتنا ونساءنا ومحاصرة شبابنا واعتقالهم باسم الدين، والدين بريء من هذا».وأكمل: «يقولون لنا الفتنة. هناك شباب لا يجدون قوت يومهم، وهناك شباب هجروا خارج البلد». وتابع أن: «الفتنة هي (مهرجان الموسيقى) موازين، الفتنة هي الأجساد العارية التي تبث على قنوات الدولة التي تتكلم عن نفسها أنها إسلامية».منذ انتشار هذا الفيديو؛ أصبح الزفزافي مطلوبًا من القضاء بتهم «إهانة إمام» مسجد في مدينة الحسيمة خلال خطبة الجمعة، و ارتكاب جنايات وجنح تمس بالسلامة الداخلية للدولة، وكذلك إلقاء خطاب استفزازي وزرع البلبلة، كما جاء في محضر قضائي صدر بحقه. وهي تهم يحكم عليه بالسجن بسببها لمدة تتراوح بين ستة أشهر وثلاث سنوات.مَثل اعتقال الزفزافي ذروة الاحتجاجات في منطقة الريف المغربي، ما أدى إلى اندلاع مزيد من الاحتجاجات والاعتصامات التضامنية التي امتدت إلى العديد من المدن المغربية، بينها العاصمة الرباط ومدن الدار البيضاء ومراكش؛ في الوقت الذي يرى فيه معظم الناشطين في حراك الريف أن اعتقال الزفزافي يمثل محاولة لإسكات صوت الاحتجاجات في المنطقة. وتستمر المناوشات العنيفة كل ليلة بين المحتجين والشرطة، وكأنما كان اعتقال الزفزافي بمثابة طرقة على حديد ساخن، مع تراجع أفكار استخدام الحوار من قبل السلطات، بعد اتهام الحركات الاحتجاجية بالخروج عن المطالب الاجتماعية، وأنها أصبحت حركة ذات مطالب انفصالية، متهمين الزفزافي بتلقي تمويل من جهات خارجية.ومقابلهم دخل المغربيون في إضراب عام منذ مطلع يونيو/حزيران الجاري، انضم فيه إليهم أصحاب المحال التجارية بمطالب أوسع، مؤكدين أن إضرابهم لن ينتهي إلا بإطلاق سراح السجناء مرددين: «كلنا الزفزافي.. كلنا نشطاء»، ولم تظهر حتى الآن فرصة لفك القلق الملبد في سماء المغرب، سواء من المحتجين أو السلطة، فهل سيغلق المغرب قوس الربيع العربي؟