هناك خاصية مرعبة في عالم فيسبوك استحدثتها الشركة قبل عدة أعوام، هذه الخاصية تقوم بتذكيرك بما كنت تفعله في نفس التاريخ في الأعوام السابقة منذ إنشائك لحسابك على الموقع، ذكرياتك وكلماتك والأغنيات التي استمعت إليها في ذلك التاريخ تقفز أمامك على الشاشة فجأة، والسنوات الخمس الماضية في حياة المصريين خاصة مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي حافلة جدًا بالذكريات، أحداث قمت بمشاركتها مع أصدقائك كانت طازجة وقتها، واليوم عندما تراها لابد أن تشعر بشيء ما.


حدوتة مصرية

من ضمن الذكريات التي لا يجب أن تمتلك فيسبوك لتتذكرها هي أيام الثورة المصرية وميدان التحرير، بالتحديد الفيديوهات التي قام الشباب بتصويرها وهم جلوس على الأرض يدندنون بأغنيات وطنية حماسية، وبعيون متأثرة، لابد أنك تتذكر هذا المقطع الذي كان يصور دائرة من الشباب يغنون غناء أشبه بالهتاف مرددين «يهمني الإنسان ولو مالوش عنوان» من أغنية «محمد منير» الشهيرة «حدوتة مصرية».

هل تذكر وجوه هؤلاء الأصدقاء وهم يرددون جملة «يا ناس يا ناس يا مكبوتة هي دي الحدوتة.. حدوتة مصرية»، ثم يدخل صوت منير في الخلفية وهو يقول «حدوتة مصرية» بصدى صوت أضافه من قام بمكساج الفيديو، حسنًا، يجب علينا جميعًا الآن أن ننسى.


طول العمر العكسر عسكر.. بس الناس كانت ناس

شباب هذا الجيل الذين كبروا في الثمانينات والتسعينات مقتنعون تمامًا أننا «بنتولد صافيين» كما قال لهم أسطورتهم السمراء «محمد منير»، هذا جيل شب وكبر على أغنيات رقيقة تخاطب قلبه الغض المؤمن بالحرية والحب والجمال، كان «الكينج» كما كنا نسميه رائد مدرسة الأمل، المدرسة التي تخرج منها جيل قام بثورة نبيلة مرددين كلمات عرابهم الأسمر. المشكلة الآن أن هذا الجيل أصبح يستشعر ذنبا معينا إذا ما قام بتشغيل قائمة أغانيه المفضلة ثم صدمته إحدى أغنيات الكينج أيام كان الكينج بحق.

هناك عقدة ذنب تتحرك في القلوب عندما يدندن معه «يا عروسة النيل يا حتة من السما ياللي صورتك جوة قلبي ملحمة»، رغم جمال الأغنية وصدق الكلمات واللحن العذب، أصبحت بصمة منير على قلوب محبيه ذنبا يستغفرون الله منه،. بدأت العقدة على استحياء في 2008 تقريبا عندما غنى منير أمام الرئيس المخلوع «محمد حسني مبارك» ثم عانقه بحرارة شادا على يديه وشكره في نهاية الأمسية، يومها بهت الذين أحبوه محرضا على التغيير كما كان يقول عن نفسه، نائيا بصوته عن أي جدل سياسي، مدعيا أنه يفعل ما بوسعه بالغناء ويثور بصوته.

ثم تفاقمت أحاسيس الذنب مع اندلاع الثورة المصرية في 2011 وصمت منير التام أثناءها رغم تواجد صوته في الميدان، يومها أقنع الشباب أنفسهم أنه – فقط – محرض لا يجب أن يتواجد بشخصه، يكفي أنه قام بشحننا سنوات وسنوات حتى اقتنعنا بضرورة أن نحصل على الحرية، ثم خرج منير بعد خلع الرئيس وقتها في الإعلام ليدعم الثورة المصرية، وتعامينا جميعًا عما يعنيه هذا ورددنا وراءه «أنا لو عاشقك متخير كان قلبي زمانه اتغير»، ثم تفاقمت الأمور رويدا رويدا حتى وصلنا للحظة التي وقف فيها «محمد منير» الكينج على المسرح منذ بضعة أيام يدعو الشعب أن يستخدم العسل الأبيض بديلاً عن السكر، هنا أصبحت عقدة الذنب وسواسا قهريا يستلزم علاجا نفسيًا حقيقيا.


سو يا سو.. حبيبي حبسوه

منير يطلب من الشباب الذين يحضرون حفلته تلك أن ينشروا الوعي بضرورة استخدام العسل بدلاً من السكر، هذا هو منير الذي يعرف أن «الواد بياع السكر حبسوني وحبسوه»، أو كان يعرف هذا من قبل، تلك ليست غلطته بالطبع، تلك غلطة جيل ظن أن المطرب يغني أغنياته لأنها دين يعتنقه، ولا يغنيها لأنها «بتبيع».

كان «محمد منير» ذكيا بالقدر الكافي الذي جعله يلعب طوال تاريخه الفني لعبة مضمونة، ويراهن على الحصان الرابح، حصان يسمى الأمل والرغبة في التغيير، وكان المناخ يساعده، مناخ يترك من يتكلم يتكلم دون فرض جمارك على الكلام، كلماته لم تكن إيماناً ولكنها كانت بيزنس. كان يبيع بضاعة الأمل للشباب وكان الأمل مربح جدًا، وعندما يفرضون جمركا على الكلام لابد أن يتراجع، لابد أن يطالبنا باستخدام العسل بدلاً من السكر، هذا هو الحصان الرابح الآن، ويجب أن يراهن عليه منير لأنه تعود ذلك منذ كان فتيا «لسة قلبه لم يتعب من المشاوير».

كان «محمد منير» مطربا له مشروع فني ضخم دمج فيه الموسيقى الحديثة مع التراث مع الثقافة النوبية، أغنيات مختلفة لابد أن تجذب أذنك عندما تسمعها. من أحبوه هم من خلعوا عليه صفات وهمية، وكبر الوهم حتى اقتنع به الفنان نفسه وأصبح يصدر صوته كقضية قومية يجب دعمها. ربما لو لم يجد صدىً عند المستمعين كنا سنسمع منه أغنيات عاطفية عادية، مثل تلك التي تزخر بها ألبوماته الأخيرة، ولم يكن ليصبح الكينج من الأساس.

الآن فقط نفيق من أسطورة الكينج، الفواق احتاج وقتًا ومراحل كثيرة، لم نكن لنتحمل أن نتلقى الصدمة دفعة واحدة، ولكنها جاءت بالتدريج. قطعا فهم كثيرون من الجيل الذي «مكانش برة ولا مهاجر»، الأمر سريعًا، وآخرون ظلوا يفقدون اهتمامهم بالتدريج، حتى أصبحت فئة واحدة هي من تحضر حفلاته في الخمس أو الست سنوات الأخيرة، بالتأكيد تلك الفئة يجب أن يكونوا أحياء لم يقتلهم رصاص أحد، ويجب ألا يكونوا معتقلين ولا لديهم أصدقاء مختفين قسريا حتى يمتلكوا المزاج لحضور حفلات فنانهم المفضل. أما الفئة الأخرى التي فهمت الأمر بالكامل من أول كبوة أو من فهموه بالتدريج فهم يتغنون الآن بأغانيه مرددين أن «عدى الزمان وخلاص أهو بان.. مين حب مين ادعى».