لا أعلم عالما بالشرع في العصر الحديث تخصص في التربية دراسة وخبرة وممارسة مثل الشيخ محمد أمين المصري رحمه الله… ومن يقرأ بعض بحوث الشيخ يرى نبوغه في علوم التفسير والحديث وقضايا الإيمان والاعتقاد، ومن يقرأ له كذلك يعلم كيف أنه تخصص في دراسة علم النفس وعلاقته بالتربية والمقارنة بين المنهج التربوي الإسلامي والمناهج الأخرى الغربية وغيرها، وله في ذلك اطلاعات وأبحاث عميقة.
أبو بكر ناجي – «إدارة التوحّش»

ربّما لم يحظ كتابٌ توجيهيّ صادرٌ عن الأيديولوجيات الجهادية، بمثل ما حظي به كتاب «إدارة التوحّش» من الاهتمام في دوائر البحث الأمريكية والغربية، والنفاذ إلى تحليل أدقّ تفاصيله. يأتي الاقتباس المذكور أعلاه، علامةً لافتةً في هوامش الكتاب، حيث اعتنى مؤلّفه المجهول «أبو بكر ناجي» بالتنويه عن الدكتور محمد أمين المصري ومكانته العلمية والمعرفية.

الأمر اللافت: أنّ الضوءَ لم يُسلّط بقدر كافٍ في الكتابات العربية حول شخصية الدكتور محمد أمين المصري – الذي توفّي أصلاّ قبل ظهور هذه الأيديولوجيات الجهادية-، وحول أفكاره وجهوده العلمية. فيما يلي، وبمنحى عن التعرّض للأيديولوجيات الجهادية، نلقي لمحاتٍ سريعة على حياة الدكتور محمد أمين المصري، وأهم أفكاره ورؤاه المنهجية، وأبرز نتاجه العلمي والمعرفيّ.


لمحاتٌ من حياةٍ عابرة

ولد «محمد أمين المصري» في دمشق، عام (1333هـ / 1914م)، ونشأ بها، ودرس على أيدي علمائها من أمثال الشيخ بدر الدين الحسني والشيخ أبي الخير الميداني.

في عام (1941م)، سافر إلى القاهرة للدراسة بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، وحضر محاضرات للأستاذ حسن البنا والعلامة محمد الخضر حسين، وحصل على الشهادة العالمية من كلية أصول الدين عام (1945م)، ورجع إلى سوريا مدرسًا في مدارسها الثانوية.

عين ملحقاً ثقافياً في السفارة السورية في باكستان عام (1951م)، قبل أن يسافر إلى بريطانيا عام (1956م) للتحضير لرسالة الدكتوراه في (نقد المستشرق شاخت)، ولكن أساتذته رفضوا الموضوع، فاختار موضوعًا في «معايير النقد عند المحدثين»، وحصل على الدكتوراه في (1959م)، وعاد للتدريس في كلية الشريعة بجامعة دمشق.

ونظرا للاضطهاد الذي مارسه حكم حزب البعث على شرائح منتقاة من الشعب السوري، اضطر الدكتور محمد أمين المصري إلى مغادرة سوريا في عام (1965م)، وسافر للسعودية للتدريس في كلية الشريعة بجامعة الملك عبد العزيز في مكة المكرمة، وشارك في تأسيس قسم الدراسات العليا فيها.

وفي عام (1974م)، انتقل إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وعمل رئيسًا للدراسات العليا فيها، وشارك في وضع مناهجها.


النقدُ معراجًا إلى الحقيقة

[مقدمة محمد سليمان على كتاب المسئولية للدكتور محمد أمين المصري]

المسلمون مصابون بأمراض نفسية وعقلية، يجنحون إلى الاعتمادية وإلقاء التبعة على الغير دائمًا، وتبرير الأخطاء وخداع النفس، واليأس، والاستسهال في التعامل مع المعضلات؛ هذا هو السبب الرئيسي لما حصل للمسلمين على مر العصور من تخلف.

حقائق نقدية يؤكّدها الدكتور محمد أمين المصري، ويعتبرها من جملة الأمراض الاجتماعية التي تمثّل في حقيقتها بعضًا من الأخطار الداخلية التي تجب مواجهتها أولاً قبل مواجهة العدو الخارجي، يقول على سبيل المثال: «اليأس القتِّال والخوَر المميت والثقة المفقودة كل هذه هي العدو الحقيقي والعقبة الكبرى التي تواجه المسلمين، أما العدو الخارجي فأمره يهون إذا استطعنا أن نغير ما بأنفسنا».

لم تقتصر الرؤية النقدية للمصري على المجتمع وأمراضه، وإنما امتدّت إلى ممارسات الدعوة والوعظ ورجالاتهما، فكان شديد النقد لنفسه ولحاملي لواء الدعوة الإسلامية بأنهم ليسوا على المستوى المطلوب، وأنهم لم يقدموا كل ما عندهم في سبيلها، ولو قدموا لكانوا معذورين، وأكّد رفضه لمحاولات الاعتذار والتذرّع بالواقع وأنه ليس في الإمكان أفضل مما هو قائم!

الأمر ذاته في رؤيته لطبيعة الوعي المأزوم لدى جمهور حاملي الديانة الإسلامية؛ فقد انتقد كثيرًا الفهم غير الصحيح للنصوص التشريعية المؤسِّسة «القرآن والحديث النبوي»، ونعى عليهم توظيفهم لهذه النصوص في تبرير عجزهم وضعفهم فيوردون أحاديث الفتن، وفي الاتّكاء الاستسلاميّ عليها وأن الأمر ليس له مرد، وأن كل زمان أسوأ من الذي قبله.. ولذلك فلا داعي للعمل والتبليغ، هذا فضلاً على احتجاجهم بالأحاديث الضعيفة أو الموضوعة التي توهن العزائم وتبرر الخمول. ومن هنا جاءت دروسه ومحاضراته ومؤلفاته منصبّة في اتجاه تصحيح الفهم وإيقاظ العقول وتربية النفوس على الوعي السليم.

من ذلك ما قرّره في كتابه «سبيل الدعوة الإسلامية» قائلاً: «إن الإنسان – من بين المخلوقات جميعها- أبى إلا أن يقوم في وجه أخيه الإنسان يستعبده ويذلّه ويسخّره لطاعته وخدمته ويدّعي الألوهية فوقه، يدفعه إلى ذلك نهمه إلى السلطان وجشعه إلى الاستعلاء… لقد تطورت معاني استعباد الإنسان للإنسان واتخذت في الأيام الأخيرة مظهر العلم، ولبست لبوس البحث الحرّ، وادّعت أن الحقائق العلمية تؤيدها. وأشدّ أنواع وثنية هذا العصر: وثنية الشيوعية ووثنية الفاشية والنازية».


التربية معراجًا إلى النهضة

وسط نتاجٍ أصيلٍ ولافت، حفلت به مؤلفات الدكتور محمد أمين المصري، يمكننا أن نستخلص هذه المعالِم التربوية التي تضمّنتها كتبه، والتي لا زالت تستحقّ تسليط أضواء التحليل عليها أكثر ممّا تسمح به هذه الإشارات الموجزة:

– ضرورة الأخذ في التربية الدينية بإضافات المدرسة الحديثة في التربية (تتضافر من البنيوية والوظيفية والسلوكية)، حيث تعتمد على الفاعلية وإنماء الخبرة الشخصية وتراعي ميول الفرد وتعنى بنموّه الداخلي وتقوّي تفكيره ومهاراته وتقوم على الخبرة والتجريب.

– التركيز على تربية المنزل وتربية الأم بالذات، ولذلك كان يكثر من الحديث عن غزوات الرسول – صلى الله عليه وسلم- وسيرة حياته وسيرة أصحابه، ويستشهد بصحابيات قدمن أولادهن للمعارك الإسلامية مثل الصحابية الجليلة عفراء، وكان يقول: «إن الطفل في الأسرة المسلمة يجب أن ينام على أحاديث الجهاد ويستيقظ عليها».

– نقد تربية المَدرسة وطرقها التقليدية التي لا تزال في مدارسنا وجامعاتنا التي تبلد الطالب ولا تجعله ينطلق علمياً وتربوياً، كنظام الامتحانات الذي يجعل الهدف من التعليم هو النجاح والشهادة بدل أن يجعل الهدف هو حب العلم.

– تربية الشباب في المدرسة والمسجد والمجتمع بالتربية القرآنية كما ربى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أصحابه تربية القادة لا تربية العبيد، تربية الاستقلال لا تربية الخضوع والخنوع والمريدين بكل ما في الكلمة من معنى.

– تربية الكوادر القيادية لأداء الأدوار الرسالية، وهو يؤكد في هذا «أن حمل الرسالة يعطي الفرد قوة ما كان ليحلم بمثلها في الحالات العادية، والشعب إذا حمل الرسالة يستمر في النهوض، فإذا فترت هذه الروح كان سيره بقوة الدَفعة الأولى إلى حين».

– رأى أن التربية الجهادية لابدّ أن تتمّ منذ الصغر «إن الطفل في الأسرة المسلمة يجب أن ينام على أحاديث الجهاد ويستيقظ عليها»، وأن تلازم الفرد في مراحل نضجه، ولذا كان يكثر من تدريس تفسير سور: آل عمران والتوبة والأنفال والأحزاب، لتضمّنها هذه المبادئ التربوية التي يرجوها.

– رأى الدكتور محمد أمين المصري أن الجهاد شرط نهضوي لازم، لا تصحّ النهضة إلا به، بل لا تصحّ التربية والتقويم السلوكي إلا من خلال ممارسته، معتبرًا الجهاد الميدان الأمثل للاكتساب والخبرة والتقويم.

– رأى أن الجهاد أمانة رسالية لابدّ أن تضطلع بها نخبة تشقّ الطريق، وصفها بأنها «قلة تنقذ الموقف، قلة هي النخبة التي تستطيع حمل الأمانة، وحمل الأمانة بنفسه يفجّر الطاقات». ويأتي بعد ذلك دور الأمة ككل في متابعة حمل هذه الأمانة «فالأمة التي يفقد أبناؤها حمل الرسالة تفقد معاني الجهاد وتفقد قيمة الحياة، وحين لا يكون للأفراد رسالة يشغل الخواء القلب، وتمتد الشهوات وتستعلي الغرائز».

وربّما يكون هذا البند الأخير ممّا يتصّل اتصالاً وثيقًا بأوضاع الأيديولوجيات الجهادية التي نشأت بعد وفاة الدكتور محمد أمين المصري بعقود، وتمّ تفعيلها لاحقًا، وحتى اليوم، وهو ما لا يتّسع المجال لتتبّعه واستقرائه.


بعضٌ مما تبقّى منه

لقد كان شديد النقد لنفسه ولحاملي لواء الدعوة الإسلامية بأنهم ليسوا على المستوى المطلوب، وأنهم لم يقدّموا كل ما عندهم في سبيلها، ولو قدّموا لكانوا معذورين. والفكرة التي كانت تؤرقه هي: أين الرجال الذين يتحملون المسئولية، الذين بلغوا من الإخلاص والفهم والتضحية والثقافة مبلغا يرفعون به هذه الأجيال إلى المستوى المطلوب.
كتابه «تربية القادة»… يترجم ثقافة الكاتب التي تجمع بين التعمّق في علوم الشريعة، والاعتزاز بالانتماء إلى الإسلام، وبين الاختصاص في العلوم التربوية؛ هذا الاختصاص الذي يمكّنه من معرفة الدوافع النفسية وأصول بناء الشخصية.
د. محمد عادل فارس – عضو رابطة العلماء السوريين

ترك الدكتور محمد أمين المصري كتبًا في اللغة العربية وتدريسها، وفي التربية والدعوة والتفسير، نذكرها فيما يلي:

– طريقة جديدة في تعليم العربية باللغتين العربية والإنجليزية، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1395هـ.

– لمحات في وسائل التربية الإسلامية وغاياتها، بيروت، دار الفكر، الطبعة الرابعة، 1978م/ 1398هـ.

– من هدي سورة الأنفال، دار الأرقم، الكويت، الطبعة الأولى، 1400هـ.

– سبيل الدعوة الإسلامية، دار الأرقم، الكويت، الطبعة الأولى، 1400هـ.

– المسئولية، طبعة الكويت دار الأرقم، الطبعة الثانية، 1400هـ.

– المجتمع الإسلامي: وجهة التعليم في العالم الإسلامي، الكويت، دار الأرقم، الطبعة الرابعة، 1406هـ.

– الطفل السويّ وبعض حالات شذوذه، عدد خاص من مجلة «المعلم العربي» الدمشقية، بدون تاريخ.

– وله أيضاً: محاضرات في فقه السيرة، ومحاضرات في العقيدة لم تطبع حتى الآن. (ذكره الشيخ مجد مكي في مقالة له عنه).

– وله أيضًا «مذكرات» مخطوطة لم تطبع، ذكرها ونقل عنها عمر رضا كحالة في «معجم المؤلفين»، الجزء الثالث، ص147.


أخيرًا، وفي عام (1977م)، وتحديدًا في شهر رمضان 1397هـ، توفي الدكتور «محمد أمين المصري» على إثر عملية جراحية أجراها في سويسرا، وحضره صديقه الشيخ «ناصر الدين الألباني» هناك، وغسّله وكفّنه، ونقل جثمانه إلى مكة المكرمة، ودفن هناك.

وقد توفّي الرجل ساخطًا على نفسه، كارهًا لما اضطرته إليه ظروف الحياة وتقلّباتها ومواءماتها، وقد قال فيما قال عن نفسه: «وإني – وايم الحق- لأجد أيامي هزيلة ونفسي رخيصة لم ترتق عن مرحلة الطفولة، ولم تبلغ درجة الرشد ولم تذق معاني الرجولة، ولو طُلب إلي أن أكتب تقريراً بشأن نفسي لقلت:

(1) إنه ليس براض عن مستواه الإيماني، ولا يرى أن مثل هذا المستوى يمكن أن يحدث تأثيراً واضحاً في طلابه.

(2) ليس براض عن عمله، ولا يؤديه، وهو واثق بأن السبيل التي يسلكها هي التي تؤدي إلى نجاة الأمة، فلا المناهج ولا الطرائق التي يتخرج بها الطلاب بالتي تخرج للأمة أبطالاً ودعاة، ولذا فهو يعتبر نفسه أجيراً يعمل ما يرضي صاحب العمل في سبيل العيش، وربما يعجب الكثيرون من هذا القول».

المراجع
  1. موسوعة «علماء ومفكرون معاصرون»، المركز العربي للدراسات الإنسانية، تحت الطبع.
  2. المسئولية، د. محمد أمين المصري، دار الأرقم، الكويت، الطبعة الأولى، 1979م.
  3. علماء الشام في القرن العشرين وجهودهم في إيقاظ الأمة والتصدي للتيارات الوافدة، محمد حامد الناصر، دار المعالي للطباعة، الكويت، الطبعة الأولى، 1424هـ، ص193/ـ199.
  4. معجم المؤلفين.. تراجم مصنّفي الكتب العربية، عمر رضا كحالة، الجزء الثالث، ترجمة رقم 12282، ص147، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1993م.
  5. تكملة معجم المؤلفين، محمد خير رمضان يوسف، ص451، دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الأولى، 1997م.
  6. فقيد الإسلام محمد أمين المصري، د. محمد الصباغ، مجلة المجتمع، عدد 369، 1397هـ.
  7. تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري، د. محمد مطيع الحافظ ونزار أباظة، دار الفكر، بدمشق، الطَّبعة الأولى، 1406هـ/ 1986م.