إن عبادة القصور شكّلت على امتداد العصور ديانة خسيسة عززها الحكم الفردي بالأقزام والأفاكين، ديانة هزمت الإسلام الحق في ميدان الحياة العملية، وجعلت العبقريات تتوارى، والإمعات تتكلم بصوت جهير.

هكذا يقول الشيخ محمد الغزالي في كتابه «أزمة الشورى في المجتمعات العربية والإسلامية»، الذي اعتبره صيحة تحذير من غياب الشورى، واستخفاء الحريات العامة، وإهدار كرامات الشعوب.


ما فعله حُكم الفرد بالعرب والمسلمين

يرى الغزالي أن حكم الفرد أفسد أرجاء العالم الإسلامي، وهو يناقض توجيهات الإسلام الذي أمر بإعمال العقل ومشاورة الرأي الآخر وتبادل الحجج ومنع تكميم الأفواه، وأعزى الرجل – الذي رحل عن دنيانا في مثل هذه الأيام قبل 21 عامًا – تقدم الدول العظمى وتأخر العالم الإسلامي إلى غياب الحرية التي تجدد الأمم وتنميها، وانفراد الحاكم بالقرار زاعمًا العلم بكل شيء، ومتهمًا الناس كلهم بأنهم دونه وعيًا وفهمًا، فيبيد باستبداده كل أسباب الارتقاء والتقدم، وهو يؤكد أن دولة الخلافة الأولى ما نهضت إلا على دعائم الشورى، عندما كان المبدأ الحاكم للخليفة «إن رأيتم خيرًا فأعينوني وإن رأيتم شرًا فقوموني»، أما التفرعن فهو سمة ملاصقة للدويلات التي لا تزال تعيش في غيبوبة التخلف والاستسلام للجلادين.

من هنا نظر الغزالي للاستبداد السياسي ليس بوصفه عصيانًا جزئيًا لتعاليم الإسلام، ولا إماتة لشرائع فرعية فيه، بل دمار شامل لعقيدته صَنَعَ وثنيات أعقد من الوثنيات التي اختلقتها الجاهلية، ويعتقد الغزالي أن الهوان والضياع الذي يعاني منه العالم العربي والإسلامي هو نتيجة حتمية لغياب الشورى الحقيقية؛ فالعالم الإسلامي تحكمه كيانات لا تعترف بحق الإنسان في الشورى والمشاركة في الحكم، ربما لأنها – أي الشورى – تقي الشعوب سيئات شتى، منها إعجاب الغبي برأيه، ورغبته في فرضه على الناس، وترد الحاكم إلى حجمه الطبيعي كلما حاول الانتفاخ والتطاول، كذلك تقي الشورى الأمة بلاء المستبدين الذين إذا أخطأوا وافتضح أمرهم قدموا غيرهم كبش فداء! وضرب مثلًا بهزيمة 67 باعتبارها سبب كل المصائب التي تحيق بالعرب الآن، ورغم ذلك لم يوجه أحد اللوم إلى صانع هذه الهزيمة أو بطلها الفذ.


بين عُمر وكينيدي

يعتقد الغزالي أن الإنسانية شهدت عصرًا من الشورى أيام الخلافة الراشدة، لا يقل حضارة عما يشهده الغرب في فن الحكم، صحيح أنه لم يكن هناك أجهزة وأبنية ومؤسسات للشورى بسبب طبيعة الحياة البسيطة وقتها، لكن المضمون واحد.

وقد أشار إلى موقف جمع بين رئيس الولايات المتحدة في الستينيات جون كينيدي وصحفي أمريكي، حيث سأله الصحفي: هل رحلة زوجتك لأوروبا على نفقتك الخاصة أم من مال الدولة؟ وأجاب كينيدي دون غضب أو تأفف، ويعلق الغزالي على ذلك الموقف، بأن مضمون هذا الحوار حدث قبل 14 قرنًا بين عمر بن الخطاب وسلمان الفارسي الذي سأل عمر: «نرى ثوبك طويلًا وكلنا كميش الأزرار، ما حصل أحدنا إلا على ملبس قصير فمن أين لك هذا؟» فأحس عمر وكأنه متهم باستغلال الحكم، فقال قم يا عبدالله بن عمر وحدِّث الناس، وقام عبدالله وقال: «لقد منحتُ أبي نصيبي من الثياب ليكمل حلته»، ليقل سلمان على الفور: «الآن قُل نسمع».

ويرى الغزالي أن معاناة الرسالة الإسلامية من سيطرة السفهاء، وما آل آليه أمر المسلمين اليوم، نتيجة حتمية للعوج الناشيء من مخالفة نمط حكم بن الخطاب، قائلًا: «والله إني أشك في إسلام عدد كبير من حكام المسلمين، بل في إسلام عدد ممن حملوا ألقابًا دينية لها رنين وبريق، وما بقاء الكفر في الأرض إلا بسبب مسالك أولئك الذين لوثوا تاريخنا ودعوتنا، وأعزوا من أذل الله وأذلوا من أعز الله.. فالويل كل الويل لأمة يكون الحكم فيها شهوة مريض بجنون العظمة، أو شهوة مسعور باقتناء المال».


كيف تلاعب خُدام السلاطين بمفهوم الشورى؟

للشورى مفهوم غامض عند بعض خدام السلاطين من الشيوخ، ومفهوم مضاد لحقيقتها عند آخرين، ولو وقع زمام الأمور في أيديهم لأرسوا دعائم الاستبداد أكثر من المستبدين أنفسهم.

هاجم الغزالي بهذه الكلمات ما أسماه «الميوعة» في مفهوم الشورى، التي لا تزيد المسلمين إلا خبلًا وفوضى، وأرجع سببها إلى ازدحام ميدان الدعوة بخدّام السلاطين، فإذا تلا أحدهم نصوص الشورى أعقبها بمقولة «ويحق للحاكم أن يمضي على رأيه لا على الشورى»!

وفي معرض كشفه لأساليب هؤلاء في التلاعب بمفهوم الشورى، أكد الغزالي أن «خدّام السلاطين» افتروا على أبي بكر الصديق في واقعة حرب الردة كي يُبرروا عصف الحكم الفردي بمبدأ الشورى، فيزعمون أن أبي بكر رفض رأي عمر بن الخطاب في تلك الحرب، وهنا تلبيس متعمد، فقد خاض ابن الخطاب تلك الحرب بعد أن بيّن له أبو بكر حقيقة الموقف، حيث أن المرتدين يخرجون على النظام العام للدولة بإحجامهم عن الزكاة.

كما ردّ الغزالي على القول بأن الإسلام أقر الشورى في الحكم وأعفى الحاكم من نتائجها، وأن البناء السياسي الإسلامي يقوم على هذا الأساس، معتبرًا أن تلك الفرضية باطلة وتلوكها ألسنة لم تحسن دراسة الإسلام، فالسقوط الأخلاقي آفة بعض رجال الدين وهم ثاني أسباب فساد الحكام في العالم الإسلامي، أما السبب الأول والأهم فيكمن في خلل التفكير الفقهي لدى أغلب الفقهاء، فتراهم يطيلون الحديث في أمور هينة ويصمتون في الأمور الجلل، فأصبح الفقه مشغولًا بمكان وضع اليدين في الصلاة أما سياسة الحكم والمال فعلاقته بها مقطوعة، وهكذا استطاع الاستبداد السياسي وخُدّامه حذف أبواب مهمة من قسم المعاملات في الفقه.

ويتساءل الغزالي: ماذا ننتظر من متحدث عن الإسلام يقول: «أجمع السلف والخلف على أن الشورى لا تقيد الحاكم»، لحساب من يُردد هذا السخف، أهذا هو تفسير «وأمرهم شورى بينهم»؟! إن ذلك الفقه لم ينتج إلا حكامًا قهروا الشعوب، وهو على النقيض تمامًا من حقيقة الإسلام التي أباحت حرية الرأي، ولم تسمح لفرد بفرض زعامته على أمة رغمًا عنها.

يواصل الغزالي هجومه على «خدام السلاطين» فيقول أن الذين يتخذون ما كُتب في عصور الاضمحلال نبراسًا ويظنونه دين الله، يضللون الأجيال الراغبة في فهم دينها، فهم يفضلون استبداد الذكر على حكم المرأة مثلًا، وعلى العكس من ذلك فإن امرأة على رأس حكم شورى أفضل من مستبد على رأس سلطة مغتصبة، فلو أن امرأة من طراز جولدا مائير أو أنديرا غاندي حكمت العرب لكان ذلك أجدى عليهم من عسكر وضعوا على صدورهم أعلى الأوسمة، فلما جد الجد تحول عمالقة الاستعراض إلى ماعز وضأن. كما هاجم الغزالي بعض الحركات الإسلامية التي رفضت مبدأ «الأمة مصدر السلطات» بحجة أن الحاكمية لله لا للشعب، معتبرًا ذلك جهل بمعنى التشريع وخدمة للاستبداد السياسي.


بين الديمقراطية والشورى

يقول الغزالي إن الرسول تنبأ بتحول الخلافة الراشدة إلى مُلك عضوض، فما من شيء يمنع الأمة التي تأذت رسالتها، وتردّت سيادتها من أن تُعيد النظر مرة تلو الأخرى في الأسلوب الذي تُحكم به، فالثابت أن نظام الحكم في الإسلام كان عادلًا وألزم الحاكم بمراعاة شئون الناس، حتى جاء نظام الوراثة الذي مكّن الأهواء البشرية من هزيمة القيم الدينية، ليتحول الخلفاء إلى أناس يحتلون الدنيا بالدين، فالمفترض أن يختار الناس بطريقة ما أفضل رجل فيهم ليكون قائدهم، بيد أن هذا الفرض اُستبعد لتفرض الوراثة على الناس رجل من بني أمية وبني العباس كسيد مطاع وإمام مهيب، ومن هؤلاء الخلفاء رجال لو جُردوا من أردية السلطة وقُدموا لقضاء عادل لأمر بضرب عنقهم، جزاء ما اقترفوه من مناكر في حق الله وعباده.

وفي سبيل البحث عن مخرج من تلك المعضلة التاريخية والوضع الراهن المأزوم، أشاد الغزالي بالديمقراطيات الغربية التي وضعت ضوابط محترمة للحياة السياسية الصحيحة، ونادى بضرورة الاستعانة بها في تعويض ذلك النقص الناتج عن إغلاق باب الاجتهاد قرابة ألف عام، فإذا سبقنا غيرنا في شئون إنسانية مطلقة فلماذا نسعى من حيث وقفنا متجاهلين كدح غيرنا نحو الكمال؟

ويؤكد الغزالي أن المبادىء التي يقترح اقتباسها من الديمقراطية الغربية ستكون في خدمة قواعد مقررة في الإسلام ابتداءً، مثل ضمانات الحرية والنقد والمعارضة ومنع الطغيان ومراعاة المستضعفين وصيانة الأموال العامة والخاصة، مشيرًا إلى أن الجمود الذي يرفض كل هذه المميزات فقط لأنها منتج غربي، لا يهدف إلا إلى بقاء الجماهير حبيسة تقاليد وضعها لصوص كبار، فلمصلحة مَن يتم رفض كل هذه المزايا لله أم للفساد السياسي؟ وتساءل: لماذا لا يستمتع رجل الشارع في القاهرة ودمشق وبغداد بالحرية ومناقشة الحكم التي ينعم بها الناس في لندن وباريس وواشنطن؟

وحذّر الغزالي من استيراد شكل النظام الديمقراطي دون جوهره، فذلك من شأنه أن يحول «الشورى» إلى أجهزة دعايا لفرد طائش، في حين أنها يجب أن تقلم أظافر الحاكم الذي إذا اطمأن لزوال سُبل الرقابة والمحاسبة مضى في بطشه لا يخشى أحدًا.


هل الإسلام ضد الانتخابات؟

يتساءل الغزالي، متهكمًا على الرأي القائل بأن «الانتخابات بدعة»، وكأن سفك الدماء واستباحة الحرمة هو السنة؟! ساخطًا على الرأي القائل بأن «الغوغاء لا رأي لهم»، وكأن هؤلاء لم يشكلوا سواد الجيوش المقاتلة في صدر الإسلام، فإذا قبلناهم مقاتلين فلماذا لا نقبلهم ناخبين؟!

وهاجم الغزالي «أهل الدين» الذين يجتمعون على أن الكذب حرام، لكنهم يسكتون سكوت المقابر عن جريمة خيانة عظمى كتزوير الانتخابات، كأن الكذب يُستنكر إذا كان بسيطًا ويُسلم له إذا كان مركبًا! وواصل الغزالي سخريته قائلًا: «عندما قال الشعب الفرنسي لديجول في الانتخابات: لا نريدك، رحل الجنرال في هدوء، وهو محرر فرنسا من الاحتلال الألماني، ولو حدث ذلك عندنا لرد الجنرال العربي على الشعب الذي يطالبه بالتنحي: إنك أحقر من أن تكون شعبًا لي».


ما العمل؟

ماذا لو أن النزاع بين علي ومعاوية بت فيه استفتاء شعبي بدلًا من إراقة الدماء؟ لماذا لم تسمح الأسرة الأموية لآل البيت بتكوين حزب سياسي معارض يصل إلى الحكم بانتخاب صحيح أو يحرم منه بانتخاب صحيح؟
أمام ركام من الموروثات الثقافية والاجتماعية لابد من جراحات جريئة لبتر البدع والأوهام التي تغلغلت في حياتنا الخاصة والعامة وأفسدت نظرتنا للدين والدنيا، يجب علينا أن نتكاتف من أجل ذلك، فأمتنا مصابة من الناحية الفكرية والأخلاقية بعلل شتى، وكل جماعة تؤخر علاج هذه العلل وتجعله في المرتبة التالية هازلة في جهادها متهمة في قصدها.

بهذه الكلمات وضع الغزالي روشتة الخروج من مأزق الاستبداد السياسي عن طريق إعادة الاعتبار للشورى، وذلك يرتبط ابتداءً بإعادة الحياة للشريعة، التي أماتها الفقه الضيق المحدود الذي سيطر على المسلمين خلال القرون الأخيرة، فلم يعالج الخلل المتوارث في علاقة الحكومات بالشعوب، ولم يساند الحريات، ولم يُنمِ القدرات على علاج الأخطاء السياسية والاقتصادية.

وفي سبيله لتحديد مواطنها، يؤكد الغزالي أن الشورى لا علاقة لها بالعقائد والعبادات، فهي لا تنشىء طاعة ولا تحل حرامًا، ولكنها تتصل بالشئون المدنية، والموازنة العامة، وأحكام الحرب والسلام، وغيرها من تلك الشئون الدنيوية والحضارية، وجميع الوسائل التي تتم بها الواجبات الدينية والأهداف الشرعية، فمن حق الأمة ألا تُفرض ضريبة إلا بإذنها ولا يُنفق قرش إلا بإشرافها ولا تُقر مصلحة إلا برضاها ولا تعلن حرب إلا بموافقتها، فتلك حقوق بديهية، وترك ذلك لتقدير فرد يظن في نفسه العبقرية هو ضرب من الانتحار.

ويضرب الغزالي مثلًا بمصر ويقول أنه لو كانت هناك مؤسسة «شورى» محترمة وملزمة للحاكم، ما سمحت له بخوض حرب اليمن التي أفلست خزائن البلاد، وخلّفت آلاف القتلى والمصابين، وأنهكت قوى الجيش فكانت هزيمة 1967. ومن المثال السابق يتضح أن كاتبنا وسّع من مفهوم الشورى ليشمل المشاركة، والمحاسبة، والرقابة، والمساهمة في عملية صناعة القرار.

وفي النهاية، يهمس الغزالي في أذن العرب والمسلمين قائلًا: «مستحيل أن تنصلح أوضاعنا السياسية إذا كان الدين في وعي الناس يهتم بفقه الحيض والنفاس، ولا يكترث لفقه المال والحكم، لذلك كل دعوة دينية لا تحارب الاستبداد السياسي وبال يجب أن ينصرف عنه المسلمون».