احتلت الرواية مكانة كبيرة في الأدب العربي الحديث منذ بداية القرن العشرين، وحققت -وهي الجنس الأدبي حديث النشأة- ذيوعا وانتشارا عظيما؛ حتى لتبدو لشدة سطوتها وقوة انتشارها أنها حَلَّتْ محل الجنس الأدبي الأشهر عند العرب وهو «الشعر». فالراجح أنه لم يعد ديوان العرب المحدثين؛ لأن الرواية طغت عليه، وكسرت نفوذه، واحتلت الصدارة، وأصبحت هي ديوان العرب، وأصبحنا اليوم في «زمن الرواية». لأنها الجنس الأدبي الأقدر على تصوير عالمنا المعاصر، وتجسيد همومه المؤرقة، حتى لتكاد تعد من هذه الناحية ملحمة العرب في العصر الحديث.


الحساسية الجديدة!

بدأت إرهاصات الرواية العربية في أخريات القرن التاسع عشر، بأثر من الاتصال بالغرب، فشرع بعض الكتاب في النسج على منوال الغرب في الحكي، وعمد آخرون إلى الترجمة فنقلوا إلى العربية طرفا من الإبداع الغربي في ميدان السرد. ثم بدأ جيل الرواد مثل محمد حسين هيكل وتوفيق الحكيم والمازني وطه حسين يرسون دعائم هذا الفن ويرسمون تقاليده وقوانينه، وآزارهم في هذا كتاب كثيرون آخرون. وما إن انتهوا من هذه المهمة حتى جاء جيل الستينيات الذي حمل لواء الحداثة فأحدث هزة كبيرة في تقاليد هذا الفن، على مستوى البنية والشكل وطرائق إنتاج الدلالة. وسيطر على إنتاجهم نقد الواقع السياسي المعاصر، وبخاصة ما يتصل بألوان القهر والقمع وفساد السلطة. وغلبت عليهم محاولات التجريب.

وقد أطلق إدوار الخراط على روايات هذه الحقبة من عمر الرواية العربية مصطلح «الحساسية الجديدة» في مقابل «الحساسية القديمة» أو «الحساسية التقليدية»، التي نجدها عند جيل الرواد في العقود الأولى من القرن العشرين. ويقصد بالحساسية الجديدة هذه النقلة التي حققتها الكتابة الإبداعية في مصر منذ الستينيات، فتخلصت من أسر التقليد الصريح لجيل الرواد. فقد شهدت هذه الحقبة تغيرات عميقة في بنية المجتمع بعد هزيمة 1967؛ أدت إلى ظهور اتجاهات حداثية حلت محل المنحى الواقعي الاجتماعي القديم. ولم تعد الكتابة الإبداعية تقليدا، وإنما انكسرت خطية السرد المتنامي، وتحطمت سلسلة الزمن السائر في خط مستقيم، وجنحت الروايات إلى طرح الأسئلة أكثر من تقديمها للأجوبة، ودمرت سياق اللغة التقليدية السائدة، وجنح الكتاب إلى الغوص في الباطن بدلا من التعلق بالظاهر.[1]

وتتسم كتابات هذا الجيل في مجملها بطغيان محاولات التجديد والتجريب والمغامرة الروائية، حتى إن القارئ ليشعر في كثير من الأحيان بأن معنى العمل الروائي قد ضاع في خضم محاولات الإبهار الشكلي. ومن أبزر روايات هذا الجيل، «تلك الرائحة»، و«اللجنة» و«نجمة أغسطس» لصنع الله إبرهيم، و«الزيني بركات» لجمال لغيطاني، و«زهر الليمون» لعلاء الديب، و«أيام الإنسان السبعة» لعبد الحكيم قاسم، و«خالتي صفية والدير» لبهاء طاهر، و«يحدث في مصر الآن» و«الحرب في بر مصر» ليوسف القعيد، و«مالك الحزين» لإبراهيم أصلان، وغيرها.


روايات القراءة وروايات الكتابة

ولعل أبلغ تفرقة بين السرد التقليدي والسرد الحداثي، يمكن الوقوف عليها بطرح تفرقة الناقد الفرنسي رولان بارت بين نوعين من الروايات هما: «روايات القراءة» Texte Lisible و«روايات الكتابة» Texte Scriptable. فأما «روايات القراءة» فيقصد بها تلك الروايات التي تكتب للقراءة التقليدية السهلة التي لا تتطلب جهدا كبيرا من المتلقي، لأن أساليب السرد فيها غدت مألوفة لدى القارئ، من خلال ما سبق أن قرأه من نصوص، وفطن إلى طرائق السرد فيها، أي النصوص التي تتتابع فيها الأحداث وتتنامى بطريقة تقليدية، في نمط خطي متصاعد، وما إن يبدأ حدث حتى يتوقع القارئ أنه سيكتمل ويصل إلى نهاية، وقد يحدس القارئ، إذا كان حصيفا مدربا، بالطريقة التي يكتمل بها هذا الحدث.

لا تنتمي روايات السرد الحداثي إلى هذا النمط الحكي، وإنما تنتمي إلى ما أطلق عليه رولان بارت «روايات الكتابة»، ويقصد بها تلك الروايات التي ينفق الروائي جهدا عظيما في وضع هندسة بنائها، وصناعة قوانين السرد، فتتطلب قراءتها جهدا كبيرا من القارئ، إذ تجبره على المشاركة في لملمة شعث أحداثها، والإسهام في إنتاج دلالتها، فتصبح قراءتها على هذا النحو نوعا من الكتابة الموازية، يقوم بها القارئ نفسه، فهو لا يتابع في هذا النمط من السرد الأحداث اليسيرة السهلة مسترخيا ناعم البال، وإنما عليه أن يعمل عقله لفك شفرات النص وتفسير علاقاته المعقدة المتشابكة لخلق المعنى والوصول إلى الدلالة المقصودة.


الرواية التسعينية وتدمير منطق الحكي

ثم خلف جيل الستينيات جيل آخر هو جيل التسعينيات. وهو جيل لم يعان مرارة الهزيمة العسكرية وويلاتها في الستينيات، ولكنه قاسى ما هو أشد منها، إذ رزحت روحه تحت وطأة الواقع المر، الذي عانى فيه من التهميش، وضياع حقوق الإنسان، فشعر بأنه لا قيمة له ولا يعتد به في أي شيء. في زمن نودي فيه بالخصخصة، وارتفعت معدلات البطالة، وانتشرت العشوائيات وزادت الكثافة السكانية، وانتشرت الأمراض الاجتماعية والأخلاقية، وغامت رؤية المستقبل وتردى الدور الثقافي للدولة، فتفاقم شعور عند هذا الجيل بالإحباط والعجز واليأس والمهانة، وانسداد الأفق. فكل شيء حوله يهمشه ولا يعبأ به. وكل شيء يشعره بالعجز، ويجعله يحس بانعدام قدرته على إنفاذ إرادته إلى أقصى حد.

ولما كان الواقع عند هذا الجيل على هذا القدر من القسوة، فقد خطا خطوة أبعد من تلك التي خطاها جيل الستينيات في تدمير البنية التقليدية للرواية. لتكون معادلا موضوعيا لهذا التدمير الذي لحق ببنية المجتمع والواقع المعيش. فأصبحت الرواية الجديدة عند أبناء هذا الجيل تبدو وكأنها لا تعتمد على تخطيط منطقي مسبق له تقاليده ومواضعاته السردية المعروفة كما كان الحال من قبل، إذ تتحرر الرواية التسعينية من تقاليد الرواية التقليدية والحديثة جميعا، وتضرب عرض الحائط بقوانين السرد، والتطور المنطقي للأحداث. لقد نفت هذه الرواية عن عالمها قانون الترابط السببي التقليدي، ونبذت كل محاولات الهندسة والتخطيط، وغدت أقرب إلى المتاهة النصية التي لا دليل تخطيطيا أو عمرانيا لها كالمدينة التي صدرت عنها. لكن هذا الغياب الظاهري للتخطيط لا ينفي وجود بنية ما للنص الروائي الجديد، ومنطق ما لعلاقات أجزائه بعضها بالبعض الآخر.[2]

ومن أشهر أبناء هذا الجيل من الروائيين والروائيات مصطفى ذكري ومن رواياته «هراء متاهة قوطية»، و«ما يعرفه أمين»، و«الخوف يأكل الروح»، و«لمسة من عالم غريب»، ونورا أمين في روايتها «قميص وردي فارغ»، وسحر الموجي في «دارية»، وميرال الطحاوي في «الخباء» و«الباذنجانة الزرقاء»، ومي التلمساني في «دنيا زاد»، وعزت القمحاوي في «مدينة اللذة»، ومحمود حامد في «الصفر الحادي والعشرون»، وشحاتة العريان في «دكة خشبية تسع اثنين بالكاد»، وسيد الوكيل في «فوق الحياة قليلا»، ووائل رجب في «داخل نقطة هوائية»، وغيرهم.

وقد استطاع هذا الجيل بموهبته أن يقدم بنية روائية أقرب إلى الرواية الشعرية، التي تنهض على بنية فريدة تتجاوز التطور السببي والحركة الزمنية للسرد. وهي جنس أدبي هجين، يستخدم الرواية ليشارف بها وظائف القصيدة. وهذه الطبيعة الهجينة هي التي تتسبب في بعض إشكاليات تلقي هذه الرواية، وتصيب قارئها الذي اعتاد السرد التقليدي وتطوره السببي بالإحباط واضطراب التلقي. لأنها تجهض التوقعات التقليدية التي اعتاد أن يتلقى بها العمل الروائي[3]، فيغدو النص وكأنه متاهة كبرى لا حدود لها، ولا يكاد يهتدي السائر فيها إلى شيء.

ثم إنك تجد أبناء هذا الجيل على وعي شديد بما يصنعون، إذ يكتبون نصوصا تلفت النظر إلى نفسها، وإلى قيمها الجمالية الجديدة، وتخاطب القارئ بهذا على نحو مباشر، لتبصره بهذه البنية الغريبة والهدف منها. ومن ذلك ما ذكره مصطفى ذكري في روايته «هراء متاهة قوطية»، وهي من أبرز روايات هذا الاتجاه، إذ يقول:


سمات السرد ما بعد الحداثي

ستقول أيها القارئ إنني كاتب مراوغ وإن لي قَدَمَ تِيهٍ وزَيْغ، أقول لك نعم، أنا مولع بالمتاهات والدهاليز العميقة المعقدة التي لا تفضي إلى شيء. سأقص عليك الآن قصة كنت قد كتبتها منذ زمن وهي تتعلق بأمر المتاهات.[4]

بناء على ما سبق بيانه من الخلفية النفسية والاجتماعية التي يكتب هذا الجيل تحت تأثيرها، فقد كان التناقض أظهر استراتيجيات الكتابة في سرد ما بعد الحداثي، حيث يبدو النص متناقضا مع نفسه، لا يريد الالتزام بالمقاييس الجمالية أو معايير الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه، ولكنه ينضوي في الوقت نفسه تحت هذه المقاييس ويقدم نفسه على أنه «رواية». وهذا التناقض الجوهري هو الذي يسم السرد الجديد بالتوتر المستمر بين الالتزام الظاهري بقواعد السرد ومسلماته، وبين قلب هذه المسلمات والقواعد رأسا على عقب. كما أن هذا التناقض والتفكك الظاهر في بنية النص ينبئ عن وعي ضمني بتفكك بنية المجتمع وتناقضات الوضع الراهن. ونجد النص الروائي التسعيني يجنح إلى التعبير بالتضاد وقلب البنى والمعايير رأسا على عقب، والتطرف في استعمال الرمز، ويميل إلى التقطع وعدم الاستمرارية، عن طريق خلق فجوات مستمرة في السرد، وترك هذه الفجوات للقارئ لملئها بنفسه واجتهاداته من ناحية، أو لاستخلاص المضمر فيها من ناحية أخرى.[5]

وتبلغ هذه السمة في بعض النصوص حدا يجعل تلقيها عملية مجهدة القارئ، كما هو الحال مع نصوص مصطفى ذكري في «هراء متاهة قوطية» وعادل عصمت في «هاجس موت» و«الرجل العاري»، وحسني حسن في «اسم آخر للظل»، و«المسرنمون»، وعاطف سليمان في روايته «استعراض البابلية»، وغيرها.

ومن سمات السرد الحداثي التسعيني كذلك الاعتباطية والعفوية والجزافية المفرطة. حيث يبدو وكأنه لا يعتمد على شيء، ولا يعبأ بتقاليد الفن وإنما يعصف بها في وحشية، وكل ما يرويه النص هو مجرد استرسالات عفوية أو جزئيات تتجاور كيفما اتفق من غير منطق يجمع بينها. ويتقلص فيه الحد الفاصل بين الوعي واللاوعي، مما يؤدي إلى ضياع الخيط السردي التعاقبي للأحداث، والإغراق في الغموض، ومجافاة الذوق السائد، وهو ما يجعل هذه النصوص صادمة للقارئ، وكاسرة لأفق التوقع بشكل مبالغ فيه.

وفي ظل ما عاناه هذا الجيل شاع نمط من الكتابة أطلق عليه «كتابة الجسد»، بوصفها محاولة للتعبير عن الإحباط والوجع بعد أن تم القضاء على مركزية الإنسان في المجتمع الحديث، فلم يعد يملك الإنسان إلا جسده. فراح الكتاب يكتبون أجسادهم ويصورون ما يتعرضون له في المجتمع. لقد كتبوا عن أجسادهم لأن الجسد هو المنطقة الوحيدة التي يستطيع هذا الجيل تحقيق إرادته فيها. وقد عمد كثير منهم إلى الحديث عن المسكوت عنه وما يستقبح ذكره في العوالم السفلى.


[1] ينظر: إدوار الخراط، الحساسية الجديدة: مقالات في الظاهرة القصصية، 1993، ص 7 وما بعدها.[2] صبري حافظ، جماليات الرواية الجديدة: القطيعة المعرفية والنزعة المضادة للغنائية، مجلة ألف، العدد 21، 2001، ص 196 – 197.[3] ينظر: السابق، ص 237.[4] مصطفى ذكري هراء متاهة قوطية، دار شرقيات، 1997، ص 71.[5] ينظر: صبري حافظ، جماليات الرواية الجديدة، ص 209.