في مقالنا الثالث – الأخير- من حديثنا عن «موجز تاريخ تركيا الحديثة»، نعرِض لانقلاب «كنعان إيفيرن» سنة 1980م والأحداث السياسية التي مرت على تركيا منذ ذلك الحين وحتى صعود حزب الرفاه الإسلامي ورئاسة زعيمه «نجم الدين أربكان» للوزراء وحتى انقلاب العسكر «الحداثي» عليه، وظهور حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا من رحم تلك الأحداث؛ لنرى من خلال هذا التاريخ طورًا يكاد يكون مكررًا من تاريخ الأمة التركية الحديثة.


انقلاب 1980 الدموي

كان أتاتورك رجلاً عسكريًا قبل أن يكون أول رئيس للجمهورية والمخترع الأول لها؛ ومن ثم فإن الجيش التركي من بعده خوّل نفسه حق الدفاع عن هذه الجمهورية التي أنشأها زعيمه الأول، ولقد دأب هؤلاء العسكريون على التدخل في الحياة السياسية وتوجيه أو تغيير دفتها، وتجلّت هذه التدخلات العسكرية في عدة صور مختلفة، وكان «الانقلاب العسكري» أبرز هذه الصور، وأكثرها تأثيرًا في مجريات الحياة السياسية والاجتماعية.

واستمدّ جنرالات تركيا الشرعية القانونية للانقلابات العسكرية من المادة 35 من قانون الخدمة العسكرية التي تخوّل المؤسسة العسكرية حق التدخّل لحماية مبادئ الجمهورية التركية الستة عند شعورها بتعرّضها للانتهاك.

يستمدّ جنرالات تركيا الشرعية القانونية لانقلاباتهم العسكرية من المادة 35 من قانون الخدمة العسكرية، التي تخوّل المؤسسة العسكرية حق التدخّل لحماية مبادئ الجمهورية التركية الستة عند شعورها بتعرّضها للانتهاك.

ويؤكد كثير من الباحثين الأتراك أن انقلاب قائد الجيش التركي «كنعان إيفرين» في 12 سبتمبر/ أيلول 1980م، استهدف بالدرجة الأولى الاتجاه الإسلامي الذي بدأ في ازدياد نشاطه في تلك المدة، وكانت هذه المسألة واضحة في بيان الحركة الانقلابية الذي لم يُميّز بين الحركة الشيوعية والاتجاه الإسلامي. لقد تجلت هذه الحقيقة في البيان الانقلابي الذي جاء فيه: «لقد عملت الجماعات التخريبية والانفصالية على تقدم الأفكار الرجعية والأفكار الأيديولوجية المنحرفة الأخرى بدلاً من الفكر الأتاتوركي». لقد كان الفكر الأتاتوركي هو المقدس الأبرز الذي لا حيدة عنه في العقيدة العسكرية التركية، ذلك المبدأ الذي رأى أن سبب تدهور الخلافة العثمانية واندحارها عسكريًّا كان ارتباطها بالأقطار العربية والإسلامية!.

وفي إطار حركة «تطهير الجيش» لمخلفات حقبة السبعينيات، فإن انقلاب إيفيرين استمرّ هذه المرة أكثر من سابقه الذي قام به كورسيل في عام 1960م؛ فقد استمر كنعان إيفيرين ثلاث سنوات كانت الأكثر تأثيرًا في إعادة ترسيم حدود العمل السياسي والحزبي والمؤسسي، والأكثر ترسيخًا للنفوذ العسكري داخل سلطات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية.

وقد شجعت الولايات المتحدة الأمريكية هذا الانقلاب ووقفت خلفه، حيث تلقّت تركيا مبالغ مالية كبيرة من قبل منظمة التعاون والتنمية، فضلاً عن المساعدات العسكرية من حلف شمال الأطلسي، وخلال تلك السنوات الثلاث الدامية تم إعدام 50 ألف شخص، واعتقال 650 ألفًا آخرين، ووقوع 299 حالة وفاة بسبب التعذيب، وهرب ثلاثون ألفًا فضّلوا النفي على الموت أو السجن، وعُدّ هذا الانقلاب الثالث في تاريخ الجمهورية التركية الأكثر دموية في تاريخ الانقلابات العسكرية.

حارب إيفيرين كل الأحزاب التي كانت على الساحة قبل انقلابه واعتبرها «قذارة» لا يمكن السماح بعودتها، فتوارى كل من ديميريل وتوركيش وأجاويد خلف الظلال، وشرع العسكر يعتقلون كل من يهدد كيان الأتاتوركية العلمانية، ثم كانت الخطوة التالية، ففي 23 أكتوبر / تشرين الأول سنة 1981م تم افتتاح جمعية استشارية تقوم بالإعداد لدستور جديد، وصدر الدستور الجديد في العام التالي 1982م، ونصّ على فرض الحظر على جميع من كان في سدة الحكم بتاريخ 12 سبتمبر / أيلول 1982م من المشاركة في النشاطات السياسية لمدة عشر سنوات، ومن كانوا أعضاءً في المجلس الوطني التركي الكبير لمدة خمس سنوات.

وكان دستور 82 أكثر تشددًا أمام الأحزاب، فحظرت أحزاب العمل التركي، والحركة القومي، وحزب السلامة الوطني برئاسة أربكان لأنها قامت على أسس «الاشتراكية والفاشية والدينية»، وأن الأحزاب لا يجب أن تقوم على أساس «طبقة أو مجموعة».

وأصبح التعليم، وتدريس الدين، والأخلاق بموجب هذا الدستور الجديد تحت سيطرة الدولة، وخُصصت دورات إلزامية في المدارس الابتدائية والمتوسطة لتدريس الدين والأخلاق.


«إيفيرين» الحارس و«الوطن الأم» المطيع!

شيئًا فشيئًا كان الحكم المدني يعود عقب كل انقلاب عسكري، لكن القائمين بالانقلاب كانوا يتخيّرون لأنفسهم منصب رئاسة الجمهورية حماية لانقلابهم ومبادئ الكمالية، فضلاً عن حماية أنفسهم، لكن في كل مرة كانت ردة الفعل الشعبية على هذه الانقلابات مفاجئة للعسكر.

تأسّس «مجلس الدولة الرقابي» في تركيا، بغرض التفتيش على الوزارات، ومراقبة رئاسة الوزراء، وكان اختيار أعضاء هذا المجلس من قِبل رئيس الجمهورية «إيفيرين».

ورغم تلك الردّات الاجتماعية على انقلابات الجيش، فقد ظلّ العسكر الحامي والرقيب الأكبر لمبادئ للدولة وأيديولوجيتها. ومن أجل الحصانة، واستمرارية المراقبة تولى إيفرين رئاسة الجمهورية، وجعل مدة الرئاسة سبع سنوات كما نصّ الدستور، يتم بعدها إجراء انتخابات، وإمعانًا في المراقبة العسكرية على الحياة المدنية والبرلمانية قلّصت المادة 9 المؤقتة من إدارة البرلمان وحقّه في إجراء تعديل دستوري، حيث نصّت على حق رئيس الجمهورية في رفض قرارات المجلس التشريعي الخاصة بإجراء أي تعديل دستوري. ومن جملة ما نصّ عليه دستور 82، ورسّخه العسكر لزيادة نفوذهم، ولضبط الحياة السياسية التركية وفقًا لميولهم ورغباتهم تأسيس «مجلس الدولة الرقابي»، وكان الغرض منه القيام بالتفتيش على الوزارات، ومراقبة رئاسة الوزراء، وكان اختيار أعضاء هذا المجلس من قِبل رئيس الجمهورية «إيفيرين»، كل هذه الأدوات كانت في حقيقة الأمر رغبة من الجنرال لضبط إيقاع الدولة على الهوى العسكري.

كان تشكيل الحكومة في حقبة الثمانينات يقع على عاتق حزب الأغلبية «الوطن الأم» بقيادة تورغوت أوزال، وهو حزب ليبرالي انفتح على كافة الأحزاب، واتسمت سياسته بالانفتاح على العالم العربي والإسلامي، وانتقاد التدخل العسكري في الشأن السياسي.

وقد خلف تورغوت أوزال في رئاسة الجمهورية كنعان إيفيرن في نوفمبر/ تشرين الثاني 1989م، وظل أوزال حتى وفاته سنة 1993م يدفع تركيا نحو الانخراط النشيط مع التحولات الرئيسية في البلدان المجاورة، لكن خسارة حزبه الوطن الأم في انتخابات سنة 1991م اضطرته للتنازل عن الكثير من سلطاته.


حزب الرفاه الإسلامي و«الانقلاب الحداثي»

أنهت انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني 1991م الاستقرار النسبي الذي استمرّ ثماني سنوات مع حكم حزب الوطن الأم، وما حدث في حقبة التسعينيات يشبه ما حدث في حقبة السبعينيات من حيث الائتلافات غير المستقرّة والعنف السياسي، فقد شهد هذا العقد ثماني حكومات ائتلافية، وحكومتي حزب واحد لم يدم عُمر الواحدة منهما خمسة أشهر.

اشتركت كل الأحزاب فعليًّا في السلطة مع شريك آخر بغض النظر عن التناقضات في التوجّه السياسي. كان سُليمان ديميريل يقود حزب الطريق القويم، وبعد انتخابه رئيسًا سنة 1993م انتقلت رئاسة الحزب إلى تانسو شيلر، وقد اشترك الحزب كشريك أساسي في كل الحكومات الائتلافية ذلك الوقت، ونفذ خلالها سياسة مكافحة الإرهاب التي «تسببت في تدمير حكم القانون المهتزّ أصلاً في تركيا، ومهدت الطريق لإقامة هياكل حكومية موازية في المحافظات الكردية».

وفي النصف الثاني من العقد التحق بركب الائتلافات الحكومية حزب الرفاه الإسلامي بزعامة نجم الدين أربكان، أُنشئ حزب الرفاه في عام 1983م، وكانت مجموعة حزب السلامة الوطني السابق بزعامة أربكان هي القائمة على إنشائه حين حُظر عليه العمل السياسي في عقد الثمانينيات، ومنذ تأسيسه حقَّق هذا الحزب تقدمًا مُطّردًا، فقد فاز في الانتخابات البلدية لعام 1994م بأكثر من 400 بلدية أهمها بلدية أنقرة وإسطنبول، ومثّلت تلك الانتخابات إرهاصًا قويًا بتزايد شعبية الحزب ذي الميول الإسلامية، وجاءت الانتخابات التشريعية في ديسمبر سنة 1995م لتؤكد ذلك؛ إذ فاز الحزب بـ 158 مقعدًا مثّلت خُمس أعضاء المجلس التشريعي.

كانت قضية «الحرب على الإرهاب» قضية العقد كله في تركيا، فقد أدار الجيش والشرطة الحرب ضد حزب العمل الكردستاني الانفصالي، لكن هذه الحرب تحولت باطراد إلى حرب ضد الأكراد ككل، وضد كل فرد يعتبر عدوًا، بالتزامن مع ذلك حدثت صدامات بين بعض الإسلاميين وغيرهم، مثل مذابح سيواس ضد العلويين التي أهاجت العلمانيين واعتبروها عداءً سافرًا لجمهورية أتاتورك المقدسة!.

زاد من تأليب الوضع استلام حزب الرفاه الإسلامي للسلطة، وتولي أربكان رئاسة الوزراء سنة 1996م بالائتلاف مع حزب الطريق القويم برئاسة تانسو تشيلر، رغم حصول حزبه على 20% فقط من مقاعد البرلمان؛ وذلك بسبب اختلاف أحزاب الأغلبية على نفسها، وعدم قدرتها على الوفاق السياسي، أدى كل هذا إلى إثارة القلق في الجيش والأحزاب العلمانية والعلويين.

وخلال رئاسته للوزراء سعى أربكان إلى الانفتاح على العالم الإسلامي والاهتمام بقضاياه، فقد أعلن عن تشكيل مجموعة الثماني الإسلامية، ودعّم الجهاد الأفعاني، وحقق حزبه مكاسب للحركة الإسلامية في تركيا والاعتراف بوجودها الاجتماعي، وحضورها السياسي، وأبدى اعتراضًا على التقارب مع إسرائيل، وسمح بمظاهرات بلدية سنجان في محافظة أنقرة ضد انتهاك إسرائيل في القدس؛ مما اضطر الجيش للتدخل، وفي فبراير/ شباط 1997م اجتمع مجلس الأمن القومي التركي، وأرسلوا إلى أربكان عريضة من الطلبات منها حظر صارم للحجاب في الجامعات، وإغلاق مدارس تحفيظ القرآن، وإلغاء مدارس الطرق الصوفية؛ الأمر الذي اضطر معه أربكان إلى تقديم استقالته، ثم في العام التالي صدر قرار بحظر حزب الرفاه؛ لتوجهاته الإسلامية حيث تلقّت «المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان» هذا القرار بارتياح، وقالت إن القرار لا يتنافى مع حقوق الإنسان لحماية المجتمع التركي من الأسلمة!.


جيل العثمانيين الجدد

سعى أربكان إلى الانفتاح على العالم الإسلامي والاهتمام بقضاياه، فشكّل مجموعة الثماني الإسلامية، ودعّم الجهاد الأفعاني، وحقق مكاسب للحركة الإسلامية في تركيا.

وعلى الرغم من إنشاء أحد الموالين له «حزب الفضيلة»، فإنه سرعان ما تم حظره في العام 2001م، وانقسم رجالات الحزب على أنفسهم على فريقين؛ فريق أنشأ «حزب السعادة» برئاسة رجائي كوتان، وأما الفريق الثاني فهو فريق الشباب، الذي اعتبر نفسه مجددًا بزعامة رجب طيب أردوغان رئيس بلدية إسطنبول السابق، وكان اختيار أردوغان لرئاسة الحزب لكونه مقبولاً في الأوساط السياسية والاجتماعية في تركيا؛ لما حققه من رصيد شعبي من خلال الإنجازات التي قدّمها لولاية إسطنبول حين كان رئيسًا لبلديتها في المدة ما بين 1994 إلى 1999م.

تمكن الحزب منذ انتخابات 2002م من الحصول على أغلبية الأصوات، ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم تشهد تركيا قفزات ونجاحات على المستوى الاقتصادي، وعلى مستوى الثقل الإقليمي والدولي، وترسيخ للحريات الدينية في تركيا؛ الأمر الذي جرت معه محاولات انقلابية كشف عن بعضها كما في العام 2009م التي عُرفت إعلاميًّا باسم «محاكمات إرغينكون»، ومحاولة عام 2014م المعروفة باسم مظاهرات تقسيم، والمحاولة الأخطر أخيرًا في 15 يوليو/ تموز 2016م، والتي لا تزال تهدد حزب العدالة والتنمية.

كل أجزاء سلسلة «موجز تاريخ تركيا الحديث»هنا

المراجع
  1. 1. أحمد نوري النعيمي: النظام السياسي في تركيا، دار زهران للنشر والتوزيع – الأردن، 2011م.
  2. 2. أنور الجندي: يقظة الإسلام في تركيا، دار الأنصار – القاهرة.
  3. 3. ديفيد فرومكين: سلام ما بعده سلام، ترجمة أسعد كامل، رياض الريس للكتب والنشر – لندن.
  4. 4. طارق عبد الجليل: العسكر والدستور في تركيا، من القبضة الحديدية إلى دستور بلا عسكر، نهضة مصر للنشر – القاهرة، 2013م.
  5. 5. كرم أوكتوم: تركيا الأمة الغاضبة، ترجمة مصطفى مجدي الجمال، منشورات سطور الجديدة – القاهرة، 2011م.
  6. 6. محمود شاكر السوري: موسوعة التاريخ الإسلامي "التاريخ المعاصر تركيا"، المكتب الإسلامي – بيروت، 1996م.
  7. 7. موقع الجزيرة نت.
  8. 8. موقع بي بي سي عربي.
  9. 9. موقع نون بوست