«صحيح أنك لم تهتد بعد إلى صورتي فهاكها: استحضري فتاة سمراء كالبُن أو كالتمر هندي كما يقول الشعراء، أو كالمسك كما يقول ميتم العامرية، وضيفي إليها طابعاً سديمياً من وجد وشوق، وذهول، وجوع فكري لا يكتفي وعطش روحي لا يرتوي، يرافق أولئك جميعاً استعداد كبير للطرب والسرور واستعداد أكبر للشجن والألم –وهذا هو الغالب دوماً– وأطلقي على هذا المجموع اسم مي.»

هكذا تحدثت مي عن نفسها في مطلع شبابها.. ولكن كيف انتهى الحال بتلك الشخصية عاشقة الحياة عظيمة الطموح والثقة بالنفس إلى أن تقول:

«إني أتعذب شديد العذاب، ولا أدري السبب. فأنا أكثر من مريضة، وينبغي خلق تعبير جديد لتفسير ما أحسه فيّ وحولي. أني لم أتألم أبداً في حياتي كما أتألم اليوم، ولم أقرأ في كتاب من الكتب أن في طاقة بشري أن يتحمل ما أتحمله. وددت لو علمت السبب على الأقل؛ ولكنني لم أسأل أحداً إلا وكان جوابه: لا شيء، إنه وهم شعري تمكن مني. لا، لا، لا. إن هناك أمراً يمزق أحشائي ويميتني في كل يوم، بل في كل دقيقة. لقد تراكمت عليّ المصائب في السنوات الأخيرة وانقضَّت عليَّ وحدتي الرهيبة –التي هي معنوية أكثر منها جسدية– فجعلتني أتساءل كيف يمكن عقلي أن يقاوم عذاباً كهذا! وكان عزائي الأوحد في محنتي هذه مكتبتي ووحدتي الشعرية، فكنت أعمل كالمحكومة بالأشغال الشاقة لعلي أنسى فراغ مسكني، أنسى غصة نفسي، بل أنسى كل ذاتي. إنه ليدهشني حقاً كيف أني استطعت أن أكتب هذه الرقيمة. ولعل الفضل في هذا يعود جزئياً إلى اللفائف التي أدخنها ليل نهار –أنا التي لا عهد لي بذلك– أدخلتها لتضعف قلبي، هذا القلب السليم المتين الذي لا يقاوم.»

لست هنا في موضع الكتابة عن عشاق مي، فقد تحدث عنهم الكثير حتى تاهت واختفت مي تحت كلمات ونظرات وخفقات قلوب هؤلاء العشاق. ومن الضيم أن نحصر قيمة مي في قصص عشاقها وننساها، فكفاها التجاهل الذي نالته حية حتى قالت: «أتمنى أن يأتي من بعدي من ينصفني».


مي التي بلا وطن

ولدت ماري زيادة أو مي زيادة أو إيزيس كوبيا.. والتي لقبت فيما بعد بعروس الأدب النسائي، فريدة العصر وملكة دولة الإلهام.. ولدت في مدينة الناصرة بفلسطين عام 1886 لأب لبناني وأم فلسطينية. وكانت تعرف نفسها بعد ذلك بقولها: «أنا فلسطينية، لبنانية، مصرية، سورية».

قضت ماري معظم سنوات طفولتها في مدارس الراهبات حيث الحزم وتقييد الرغبات وحصار المشاعر، فأتاح لها ذلك التفرغ الكامل للانطلاق في دروب الفكر والغوص في بحار الحكمة منذ الصغر.

قدمت مي إلى مصر وهي في الثانية والعشرين يصطحبها والدها (إلياس الغريب) وأمها (نزهة معمر) في رحلة للبحث عن فرصة عمل في الصحافة كان يسعى وراءها الأب.

وبدأت عاشقة الكتابة الصغيرة تبحث عن عمل تخرج فيه طاقاتها الفكرية، فعملت في (جريدة المحروسة) و(المقتطف) و(الهلال) و(المرأة الجديدة) و(الأهرام) التي قدمت لها شقة كانت بمثابة المقر الرئيسي لأهم صالون ثقافي في مصر في القرن العشرين.

«أين وطني؟!» تقول مي.. «ولدت في بلد، وأبي من بلد، وأمي من بلد، وسكني في بلد، وأشباح نفسي تنتقل من بلد إلى بلد. فلأي هذه البلدان أنتمى، وعن أي هذه البلدان أدافع؟ إنما أريد وطنا لأموت من أجله أو لأحيا به. أراني في وطني، تلك الشريدة الطريدة التي لا وطن لها! أنا وحدي، وحدي في الدنيا، تلك التي لا وطن لها!».


عذراء الصالون

جمعت مي بين التحرر والانطلاق الفكري غير المحدد والثورة على الأنماط والقوالب الفكرية السائدة، وبين المحافظة الشديدة والتدين والخوف من الحب والتعبير عن المشاعر والرغبات، ولم يكن تدين مي بالذي يتعارض مع انفتاحها فقد كان تدينا جماليا وأخلاقيا، استمدت منه مثاليتها وحبها وثقتها في البشر والحياة. يقول عنها العقاد:

لقد كانت متدينة تؤمن بالبعث، وأنها ستقف بين يدي الله يوماً، ويحاسبها على آثامها، فكانت برغم شعورها بالحياة، وإحساسها العميق الصادق، وذكائها الوقاد، وروحها الشفافة، ورقتها وأنوثتها، تحرص على أن تمارس هذه الحياة بعفة واتزان.

صنع الطموح من مي فتاة مثقفة متفتحة، تتحدث العربية والفرنسية بطلاقة وتترجم عن العديد من اللغات الأخرى، فكانت بذلك متفردة عن أسلوب الحياة السائد بين النساء المصريات في ذلك الوقت، فبثت فرديتها تلك التتيم والانبهار في عيون وعقول وقلوب كل من رآها أو قرأ لها. انبهر الجميع بما كانت عليه مي من شهرة ومجد وطموح ولم ينبهروا بمي. دفعهم غرور الرجال إلى الرغبة في تملك قلبها وتجاهلوا النفاذ إلى أعماقها والنظر إلى معاناتها وبحثها التائه عن سعادة لم تجدها في مال ولا شهرة. تجاهلوا الاستماع إليها وهي تقول:

«غشَت الأرضُ كآبةٌ ربداءُ، وغشَت عيْنَيكِ كآبةٌ ربداء؛ أيُّ شمس تغيب فيكِ، أيتها الفتاة، ولماذا يشجيكِ المساء لتغشى هذه الكآبة الربداء؟ انتعشت جميع الأشياء انتعاشَ من خرج من أزمةٍ وانفرج، أما أنتِ فتلوين جائعة عطشى، أخبريني ما بكِ، أيتها الفتاة، لماذا أراكِ عند نافذتي ترقبين ما ليس بالموجود و تشتافين ما ليس بالبادي وإذا تحولتُ عنكِ إلى مرآتي رأيتُ هناك وجهك مفجعا حزيناً؟»

وتنادي صارخة:

«أنت أيها الغريب! سأفزع إلى رحمتك عند إخفاق الأماني.. وأبثك شكوى أحزاني.. أنا التي تراني طيارة طروباً.. وأحصي لك الأثقال التي قوست كتفي وحنت رأسي منذ فجر أيامي.. أنا التي أسير محفوفة بجناحين متوجة بإكليل! وسأطلعك على ضعفي واحتياجي إلى المعونة.. أنا التي تتخيل فيّ قوة الأبطال ومناعة الصناديد.»

ضاعت تلك الصراخات والنداءات بين هتافات المعجبين ونظرات انبهارهم الساذجة. كانت مي وحيدة ولم يستمع إلى مي في وحدتها غير جبران؛ ذلك الخيال والطيف البعيد الساكن وراء البحار. لم ير جبران مي وما كانت عليه ولكنه أحبها كما هي، فأحبته. «ليست الناس بوجوههم .. بل بقلوبهم» يقول جبران. وعندما نظر في قلب مي وجد فيه ما كان ينتظره:

من تحب ليس نصفك الآخر.. هو أنت كلك في مكان آخر.. في نفس الوقت

ونفى جبران عن نفسه الرغبة في الامتلاك والاستحواذ على مي لنفسه فقال:

لم يتوقف الخوف من الحب في قلب مي رغم ذلك، فحاولت كثيرا الابتعاد عن جبران و«قطع تلك الاسلاك الخفية التي تغزلها يد الغيب وتمدها بين فكرة وفكرة وروح وروح» وحصر علاقتها به في مواضيع فكرية؛ ولكن كان الحنين يعيدها دائما. وظلت تتنازعها خيوط الكبرياء والحنين والخوف من رغباتها ومشاعرها حتى استسلمت أخيرا بعد إحدى عشر عاما من بداية مراسلاتهما وصرحت له:

«ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به! ولكني أعرف أنك (محبوبي) وأني أخاف الحب. أقول هذا مع علمي بأن القليل من الحب كثير.. الجفاف والقحط واللا شيء بالحب خير من النزر اليسير.. كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا؟ وكيف أفرّط فيه؟ لا أدري.. الحمد لله أني أكتبه على ورق ولا أتلفّظ به لأنك لو كنت حاضراً بالجسد لهربت خجلاً بعد هذا الكلام، ولاختفيت زمناً طويلاً فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى.. حتى الكتابة ألوم نفسي عليها أحياناً لأني بها حرة كل هذه الحرية.. قل لي ما إذا كنت على ضلال أو هدى.. فإني أثق بك.. وأصدق بالبداهة كل ما تقول! وسواء كنت مخطئة فإن قلبي يسير إليك، وخير ما يفعل هو أن يظل حائماً حواليك، يحرسك ويحنو عليك.»

«لماذا لا تأتي إلي ياجبران؟ لقد مات أبي وأمي مريضة. أرجوك لا تتركني وحيدة في الحياة فأنا أخاف الوحدة يا جبران، لقد قلت لك إني أحبك!! فلماذا لم تأت؟؟»


ومات جبران

إن المحبة المحدودة تطلب امتلاك المحبوب.. أما المحبة غير المتناهية فلا تطلب غير ذاتها

كانت مي تحاول دائما الهروب من برودة وحدتها الداخلية إلى دفء علاقتها مع من حولها. وبموت من تحب، أصبحت مي حبيسة لكآبهتا ووحدتها:

«جاء المساء مرة أخرى.. جاء المساء وتبعه الليل وعيناك قرب السراج جامدتان جمود من يتأمل جثة، فأشعر بأن شيئا فيك أمسى جثة. لقد استسلمت لجمال المساء فطعنك المساء بسكين منه سرى يقطر دما وظلاما.»

كانت مي فريسة لوحدتها الداخلية.. وجعلتها وحدتها الخارجية فريسة للذئاب. فانتهز أقاربها انشغالها بوحدتها الروحية تلك وقد كانت في أضعف مراحل حياتها للتهافت عليها وسلبها ما تبقى لها في الحياة. جاءها ابن عمها من لبنان يسأل عن أملاكها وأعمالها المالية، وقام هو ومن معه بأخذ توقيعها.

تقول مي صديقة الكبرياء وابنة الشهب اللامعة والنجوم الساحرة التي انحنت أمام ثباتها وقوة شخصيتها أعناق عظماء الرجال من أدباء ومثقفين:

«أخرجوني من بيتي، وأوصلوني إلى مكاني في القطار. أبقاني ابن عمي عنده شهرين ونصف على مضض مني. قلت له إني أرغب في الرجوع إلى بيتي فطيب خاطري حتى استكمل برنامجه في أمري فأرسلني إلى العصفورية (مستشفى الأمراض العقلية بلبنان)»

أين كنت أنت يا مي من كل هذا، أعجز اللسان الذي اعترف بطلاقته وجرأته نجوم عصرك ووقفوا منعقدي اللسان أمامه أن يقول لا!

«كان أقاربي في زيارتهم النادرة يستمعون إلي بسرور وأنا أصف نكالي وشقائي راجية منهم عبثا أن يرحموني ويخرجوني من العصفورية. وأهملوني هناك لا سلوى ولا تعزية.»

مي الوحيدة تكالب عليها ضعفها ووحدتها وغدر من حولها وفقدان من تحب وكره ما كانت تحب. خرجت من المستشفى وقد كرهت الأطباء الذين اشتركوا في المؤامرة ضدها وأصبحت بفضلهم مجنونة. كرهت الصحافة والصحفيين الذين قالت عنهم يوما: «إن مي لا أهل لها. إن أبي وأمي هم الصحافيون، هم الأدباء، هم رجال القلم»، ولم يتجاهلوها فقط وهي ابنة مهنتهم، بل نشروا أخبارا عن جنونها دون أن يتثبتوا. بل وكرهت حتى لبنان.. لبنان التي ألقتها مدة سبعة شهور في (العصفورية) تسمع ألفاظا ما كانت تعلم بأنها موجودة بين البشر وأن هناك من يتلفظ بها. تسمع وترى ولكن لا تستطيع الكلام فليس هناك من يهتم للاستماع إليها:

«ولهذا؛ اسمحوا لي أن أقول بكل ألم، وبكل أسف وخجل: أني كنت أردد وأنا على تلك الحال، في كل يوم، وفي كل ساعة (لعنة الله على لبنان)»

اصطدمت مي التي قضت حياتها بين قدسية النصوص وشفافية الأشعار وأحلام المثالية والمدن الفاضلة وخيالات العدل والرحمة والحب، اصطدمت بحائط الواقع المؤلَّف من القلوب الصخرية الصنمية، لجمع البشر المسيطر زورا على أرواح وخفقات قلوب لم يستحقوها. اعترفت مي أخيرا بأنها لم تعرف الحياة، اعترفت بأن سنوات عمرها انقضت على كذب، كذب الصدق وكذب الأمل والحلم والمثالية والأخلاق، وعلمت بأنها إذا أرادت أن تستكمل الحياة فينبغي عليها أن تؤمن بعكس هذا، تؤمن بالغدر والكراهية والإنتقام، فاختارت الموت بديلا عن ذلك وبدأت في الانسحاب التدريجي من الحياة.. تركت الطعام والشراب وانعزلت عن البشر، حتى ضعف قلبها القوى وهزل جسدها وفقدت الحياة. وفقدت قيثارة الحياة المتهالكة بفقدانها وترا بث نبض الحب والفن في كثير من القلوب المتهالكة. ونحت على قبر مي شاهدا كتب عليه:

هذا قبر فتاة لم ير الناس منها غير اللطف والبسمات، وفي قلبها الآلام والغصات، قد عاشت وأحبت وتعذبت وجاهدت، ثم قضت
تعترف مي بخطأها في فهم الحياة وتقول:

«أنا امرأة قضيت حياتي بين قلمي وأدواتي وكتبي ودراساتي، وقد انصرفت بكل تفكيري إلى المثل الأعلى، وهذه الحياة “الأيدياليزم” (أي المثالية) التي حييتها جلعتني أجهل ما في هذا البشر من دسائس. أجل؛ كنت أجهل الدسيسة وتلك النعومة التي يظهر بها بعض الناس ويخبئون السم القتال.»

يقال أن المثالية سلمية والتاريخ يصنعه العنف، ولهذا فقد تجاهل التاريخ مي ولم يدع مجال لذكر إلا (الذين أحبوا مي) ونسي ذكرى مي نفسها.

المراجع
  1. مي زيادة.. أسطورة الحب والنبوغ، نوال مصطفى.
  2. أطياف من حياة مي، طاهر الطناحي.
  3. مي زيادة.. أديبة الشرق والعروبة، محمد عبد الغني.
  4. مي زيادة في حياتها وآثارها، وداد السكاكيني.
  5. مي زيادة.. كاتبة عربية، سميحة كريم.