محتوى مترجم
المصدر
Jacobin
التاريخ
2017/04/25
الكاتب
ماثيو بونزوم

الآن وبعد أن عرفنا أن الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية قد وضعت المصرفي السابق ووزير المالية إيمانويل ماكرون في مواجهة الفاشية الجديدة مارين لوبان. لمن إذن يُوجه اليسار الفرنسي أنظاره؟

تأتي عملية التصويت، وكذلك الانتخابات التشريعية التي ستُقام في شهر يونيو/حزيران المقبل، وسط أزمة عميقة من التمثيل السياسي والذي، بالإضافة إلى الهبوط الإقتصادي ومعدلات العنف المتزايدة، نتج عنها تحويل الإتحاد الأوروبي إلى ما أطلق عليه ستاثيس كوفلاكس وآخرون – «الحلقة الأضعف» في الرأسمالية العالمية. وعلى الرغم من كَوْن تلك المشاكل الكثيرة ليست بالشيء الجديد، فإنها قد تسببت في إنتاج تطورات جديدة صادمة نحن في أشد الحاجة إلى تحليلها قبل الشروع في التخطيط من أجل الخطوات التالية المحتملة لبناء يسار سياسي أقوى.


انتصار «الوسط المتطرف»

تسبب التحالف بين ساسة يسار الوسط ويمين الوسط في خلق ما نُطلق عليه «الوسط المتطرف»، والذي حكم أوروبا لبعض الوقت الآن، حتى أصبح من الصعب إدارة الاتحاد الأوروبي والعديد من الأمم من دونه. فتيار «الوسط» وحده قد يُلمِّح لسياسة الاعتدال الغائبة كليًا من السياسات المقارنة، على النقيض تماما من “الوسط المتطرف” الذي يستحضر سياسة «اللابديل» في السياسات النيوليبرالية التي أنهكت وانتهكت العالم لمدة عقود.

وفي سياق ما سبق، سيكون ليس من المفاجئ الفوز الذي حققه إيمانويل ماكرون في جولته الأولى، والجولة الثانية على أغلب الظن. فالمصرفي السابق كان جزءًا من بعض أسوأ الإصلاحات النيوليبرالية خلال السنوات الخمس المنصرمة. فعندما أعلن فرانسوا هولاند عن قراره عدم الترشح في انتخابات الإعادة، وعندما فاز بونوَا هامون بتمهيدية الحزب الاشتراكي في موجة من المشاعر المناهضة للحكومة، أصبح ماكرون هو العضو الوحيد للوسط المتطرف الذي يمكن ترشيحه.

لكن ما يجعل من فوز ماكرون شيئًا مثيرًا للاهتمام حقًا، هي حقيقة كونه مُنتميًا إلى الحكومة الأقل شعبية في «الجمهورية الخامسة»، فبرنامجه يُحاكي رئاسة هولاند عن قرب. ولكن حتى عندما بدا الانخفاض الشديد في شعبية فرانسوا هولاند ضامنًا لفوز مرشح اليمين فرانسوا فيون فيما أُطلق عليه «انتخابات التغيير»، إلّا أن المطاف سينتهي بنا، على الأغلب، مع ماكرون رئيسًا.

بالطبع العديد من المواطنين الفرنسيين، حتى أولئك الذين صوّتوا له، لا يعتقدون أنه سيُحدث تغييرًا ثوريًا في السياسات الفرنسية. حتى في ظل انتخابات تتسم بالمعارضة الشديدة لسياسات الحكومة القائمة، إلا أنّه كان من الممكن أن يحقق الحزب الاشتراكي انتصارًا أفضل إذا كان مانويل فالس، وهو رئيس وزراء هولاند، هو من فاز بالانتخابات التمهيدية للحزب. هذا يُفسر لماذا قام العديد من أعضاء الحكومة بدعم ماكرون الذي بدوره اعتمد أيضًا على أصوات من تبقى من مؤيدي هولاند، كما قام الوسطي المتطرف بانتزاع بعض النقاط من حصة فيون من التصويت عندما انتشرت فضائح الفساد في حملة منتخب اليمين.

وفي وسط المخاوف المُبرَّرة من أداء أقصى اليمين الجيد، تمكن الإعلام من إقناع عدد لا بأس به من غير مصوّتي اليسار أن دعم ماكرون في الجولة الأولى يمثل الفرصة الأفضل، إن لم يكن الفرصة الوحيدة، لتنحية مارين لوبان. كما قام ماكرون بتدعيم قضيته عندما أظهر تأييده، غير الموجود افتراضيًا، لدولة أكثر تنوعًا ثقافيًا.

بينما يعود الفضل في فوز ماكرون لتلك التطورات الأخرى، إلّا أن حقيقة انقسام المجتمع الفرنسي بين أولئك الراغبين في رفض الاتحاد الأوروبي وأولئك الذين ما زلوا يأملون في الخلاص من التكنوقراطية، في سياق الأزمات الاجتماعية والأقتصادية – يظهر جليًا.

لكل هذه الأسباب، قام الممثلون السياسيون للرأسمالية النيوليبرالية بمخالفة واقع نظام ثنائية الحزب، آخذين لأنفسهم موقف «معارض للمؤسسة anti-establishment»، وحامين بذلك الوسط المتطرف.. حتى الآن على الأقل.

على الرغم من ذلك، تُؤشر هذه الخلفية إلى نقاط الضعف المحتملة للإدارة القادمة. فما كان يُمثّل اليسار (الحزب الاشتراكي) واليمين (الذي يسمى حاليا بالجمهوريين) انتهى بحصوله على نسبة 26% من الأصوات. وإذا وضعنا في الاعتبار أن ماكرون جزء من نفس القطاع من الطيف السياسي الذي اعتاد على تشكيل كل أو أغلب بقية الطيف، عندها ستكون المحصلة الكلية للوسط حوالي 50 %.

فوق كل ذلك، ستعود التناقضات الداخلية للوسط المتطرف إلى السطح مرة أخرى في الانتخابات التشريعية في يونيو/حزيران المقبل. وبالتالي سيحاول يمين الوسط الانتقام من يسار الوسط، وعندها سوف يستغل ماكرون الوضع ويقوم ببناء تحالف، وقريبًا ستسقط عنه تلك الصورة المميزة والمختلفة التي وضعها لنفسه.

في هذه الأثناء، العوامل الاجتماعية والاقتصادية والهيكلية التي كانت سببًا في سقوط الدول الأوروبية في هذا النوع من الأزمات السياسية ستستمر، بل وستعمل على تقويض وزعزعة الثقة في الوسط النيوليبرالي. وبالتالي سيظهر ماكرون، على أفضل وجه، كحل مؤقت للرأسمالية وممثليها السياسيين، وهو ما يُعتبر وسيلة أخرى لتوفير المزيد من الوقت، الشيء الوحيد الذي يستطيع الرأسماليون فعله حاليًا.


الصعود المقاوم للمعارضة الفاشية

في هذه الأثناء، شهدث الجولة الأولى عودة الجبهة الوطنية – أقصى اليمين إلى الجولة الثانية مع مارين لوبان، سائرة بذلك على خطى والدها. على خلاف ما حدث في عام 2002، يأتي نجاح الفاشية الجديدة بدون ما يدعو للدهشة، مما يُشدد أكثر على الأخطار الحالية للأزمة السياسية.

يؤكد فوز لوبان بالمركز الثاني فعالية «استراتيجية التطبيع» التي تتبناها، كطريقة لتجنب اعتبارها تهديدًا فاشيًا، وأيضا كطريقة لإرغام بقية الطيف السياسي على الانحياز لها. على مدار الانتخابات، حاول المرشحون الآخرون استمالة إعجاب مصوتي الجبهة الوطنية عن طريق محاكاة شعارات لوبان المُتمثلة في الآتي: «الهجرة مشكلة حقيقية» و«الوطنية هي الحل» و«فرنسا ملك للفرنسيين». ونتيجة لذلك، يفوز أقصى اليمين، الآن، بالسباق نحو قيادة المعارضة ضد ممثلي رأسالمال الرئيسيين، الوسط المتطرف الواقع في ورطة حاليًا.

بالنسبة لليسار، تعتبر هذه المشكلة هي الأكثر ضغطًا. فالصعوبة تكمن ليس في تعريف لوبان وحزبها كأكثر الأعداء خطورة، إنما في وضع مخطط ناجح لهزيمتهم. فنحن نخاطر بالوقوع في خيار «لا أحد سوى لوبان»، الفخ الذي يواجهه، بالفعل، اليسار الأمريكي. كما كان في الولايات المتحدة، فالترياق هنا هو أخذ تهديد أقصى اليمين على محمل الجد، ودمج حملة «ضد لوبان» سلبية مع مشروع يساري إيجابي، يكون مستقلًا تماما عن الوسط النيوليبرالي.

لاحظ العديد من المُعلقين التشابه الشديد بين الجولة الثانية بين ماكرون ولوبان، وبين سباق ترامب وكلينتون العام الماضي. إلى حد ما، يمكننا أن نصف بكل دقة أن ماكرون ولوبان وجهان لترامب: لا تملك لوبان التأييد من أحد أحزاب المؤسسة، كما يُنظر إليها كفاشية، وهو الوصف الذي يليق فقط ببعض مؤيدي ترامب، بينما ماكرون كان قادرًا على تمثيل نفسه كمختلف سياسيًا وكرجل على اطلاع بإدارة الأعمال، كما سيقوم بتوظيف هذا البروفايل المُنشق لتنفيذ نفس السياسات النيوليبرالية القديمة.

قاد هذا التحليل بعض قطاعات اليسار لتقرير أن المرشحيْن يمثلان وجهين لعملة واحدة، وبالتالى يجب علينا الامتناع عن التصويت في الجولة الثانية. هذا هو التأويل المسيطر على الشعار الذي ظهر قريبا بعد إعلان النتائج: «ماكرون 2017 = لوبان 2022».

يُعبر هذا الشعار عن المعارضة الراديكالية للنيوليبرالية والفاشية الجديدة، كما أنه عادة ما يكون مرتبطًا بالدعوات لمسيرات في الشوراع وللفعل المباشر. على أي حال ، يبدو من الصعب بناء معارضة يسارية ضخمة بدون إدراك الخطر الفوري الذي يفرضه التأييد الواسع للسياسيين الفاشيين.

معارضة لوبان لا يجب بأي حالٍ من الأحوال أن تقتصر على التصويت ضدها في السابع من مايو/ آيار المقبل. بل يجب أن تتضمن التجهيزات مسيرات كبيرة قدر الإمكان تضم مطالب العمالة التقليدية مع موقف حازم ضد الفاشية وضد العنصرية. لكن السؤال الآن هو إذا ما كان بمقدور اليسار أن يتحمل تكلفة ترك التصويت ضد الفاشية للآخرين؟

من الواضح أن هذا الشعار سيكون أقل شعبية لو لم يظهر فوز ماكرون كصفقة جاهزة. لكن يمكن أن نصل للنتيجة المعاكسة أيضا: ففوز ماكرون المُحقَق يعني أن بإمكاننا المناداة بمعارضة فورية ضد لوبان عن طريق المسيرات ومن خلال صناديق الاقتراع بدون التخلي عن إنكارنا لكل ما يمثله ماكرون.

في النهاية، يكشف الشعار أين تقع المسئولية الحقيقية عن فوز لوبان. فنحن لم نكن لنجد أنفسنا في هذه الفوضى لولا قرون من السياسات النيوليبرالية التى فُرضت عن طريق طرفيْن متداوليْن في ظل نظام الحزبين، مؤكّدين بذلك خيار «اللابديل». ولهذا السبب، وفي مواجهة خيار خاطئ بين بطل اليمين المتطرف ومنافسه الفاشي، يتوجب علينا أن نبني حركة ضد الفاشية لا تلتحق بممثلي النيوليبرالية الذين تتداعى مصداقيتهم كل يوم عن سابقه.


الخطوات القادمة لليسار

يبدو شعار «ماكرون 2017 = مارين 2022» كتكتكة قنبلة موقوتة. بالإضافة إلى الإشارة إلى اليمين المتطرف بصفته المسئول عن عودة الفاشيين، يؤكد الشعار أيضًا على ما يتوجب على اليسار القيام به، وهو بناء حركة قوية وموحدة تكون مستقلة عن حكومة اليسار المزعومة خلال السنوات الخمس الماضية. وفوق كل ذلك، يتوجب على ذلك اليسار المتنامي أن يرفض معارضة لوبان عن طريق محاكاة لغتها الوطنية أو عن طريق تأجيل الحركة ضد العنصرية.

الخبر الجيد أن اليسار تمكن من تجميع عدد من الأصوات مماثل لما حصدته لوبان هذه المرة، حيث كانت أغلب تلك الأصوات من نصيب جان لوك ميلانشون. كما كانت حملات أقصى اليسار لفيليب بوتو وناتالي آرتود ناجحة في إبراز المشاكل المحورية والهجوم على المرشحين الحاليين، بجانب انفتاحهم بخصوص كون تلك الانتخابات ليست سوى فرصة بالنسبة إليهم لنشر الأفكار. أصرّ ميلانشون على أن النصر الانتخابي أو حتى مجرد حملة ناجحة، سيكون إسهامًا مُهمًا في تحول عميق للمجتمع وتشجيع التحركات الشعبية التي سيتطلبها ذلك التغيير. هذا الموقف الذي اتخذه ميلانشون، بينما ما زال مستقلا عن الحزب الاشتراكي، ومقتربًا من الوصول إلى المرحلة الثانية، هو موقف يبث فينا النشاط جميعًا.

علاوة على ذلك، حملة ميلانشون كانت قادرة على مساعدة اليسار في تحقيق بعض التقدم في جدالاته الاستراتيجية بخصوص الاتحاد الأوروبي؛ حيث أن وضع ميلانشون لـ «خطة أ» (وهي إعادة التفاوض في المخاطر الرئيسية التي تجعل من الاتحاد الأوروبي الماكينة النيولبيبرالية الموجود عليها الآن)، و«الخطة ب» (وهي الجاهزية لمغادرة الاتحاد الأوروبي إذا كان ذلك هو السبيل الوحيد لعدم الاستسلام للنيوليبرالية) – يُعتبر مقاربةً واضحةً وموحدةً للجدل المهم الذي يظل اليسار فيه في أغلب الوقت عالقًا في «الخطة أ» أو الفشل، حتى بعد أن قام سيريزا بذلك في اليونان وكانت النتائج مدمرة.

على أي حال فالطريق القادم لليسار سيمر عبر مناظرات جادة عن أكبر مواطن الضعف في حملة ميلانشون. على الرغم من البرنامج الجيد في مشاكل الديمقراطية، لم يستطع «فرانس المستعصية» [البرنامج الانتخابي لميلانشون] وضع معيار جيد للمماراسات الديمقراطية الداخلية لليسار، ولا حتى تمكّن من تحدي أسوأ جوانب جمهورانية اليسار الفرنسي، خاصة وأنه يرتبط بعدم تقديم الكفاح من أجل حقوق اللاجئين والتضامن الدولي ومحاربة وحشية الشرطة والقوانين العلمانية المعادية للمسلمين.

على الرغم من ذلك، يجب علينا أن نستلهم الأمل من يوم الأحد، ونقطة البداية التى يمنحنا إياها من أجل ما يأتي من كفاحات.