تنويه: هذه المراجعة تجنبت حرق أحداث الفيلم وحرصت على الاكتفاء بالحد الأدنى من الأحداث التي ظهرت في الإعلان التشويقي للفيلم

كل عام تكون قائمة الترشيحات لجائزة أوسكار أفضل فيلم مليئة بالأفلام التي تتماس قصتها مع قضايا اجتماعية وسياسية، بل قضايا فلسفية عامة. ولكن دائماً ما يكون هناك فيلم ينال احترام الجميع، موضوعه الإنسان وذاته وصراعاته الداخلية. ويكون بعيداً عن القضايا السياسية والاجتماعية التي أصبحت مسيطرة بشكل كبير على السينما الأمريكية، وخصوصاً أفلام موسم الجوائز.فالسينما في أحد أهم أوجهها هي للتعبير عن الذات والمشاعر الداخلية المشتعلة والعقد النفسية والتخوفات الذاتية. وكما كان يمثل فيلم «Room» هذه الفئة العام الماضي. يمثلها هذا العام وبجدارة «Manchester By The Sea» من إخراج وتأليف «كينيث لونيرغان» الذي نال ترشيحين في جائزة النص الأصلي والإخراج، وبطولة «كيسي أفليك» و«ميشيل ويلمز» و«لوكاس هيدجيس» و«كايل تشاندلر».


جائزة النص

الفيلم يعرض أياما قليلة في حياة «لي تشاندلر» الذي يسكن في مدينة بوستن ويعمل سباكا وكهربائيا وغيرها من الأعمال في نفس الوقت، لتأمين مصدر دخل جيد، وفي أحد الأيام الهادئة كمعظم حياته يتم إخباره بوفاة أخيه الأكبر «جو» المصاب بمرض مزمن. نهاية أخيه متوقعة منذ بدايات مرضه، ولكن من سيتولى مهمة الوصاية على ابنه الوحيد والمراهق «باتريك» الذي يحتاج لمساندة أبوية وعاطفية وإدارة شئونه المالية، خصوصاً أن أم الفتى مدمنة وغير مستقرة في حياتها؟ينتقل «لي» لمدينة «مانشستر» المطلة على البحر، حيث كان يسكن أخوه المتوفى، ويخبر باتريك بالوفاة ويحاول التهوين من حزنه، يعرض الفيلم الأيام الأولى الهادئة بين لي وباتريك التي حاول فيها كلاهما التعايش مع الآخر وعدم الصدام معه. إلى أن يفتح المحامي وصية الأب الذي اختار لي ليكون وصيا على باتريك. صدم الخبر لي ورفضه رفضا تاما في البداية. وبـ«flash back» نعرف سبب الرفض. حيث يعرض الفيلم مشاهد لحياته السابقة مع طليقته راندي وطفلتيه. لم يرشح السيناريو لجائزة النص الأصلي من فراغ، فالفيلم بدأ بتعريفك بحاضر لي (الشخصية الرئيسية) ورسمها بكل تعقيداتها، فهو شخص هادئ زاهد لا يستجيب لمحاولات الإغواء وصريح لدرجة تغضب من يعمل لديهم.العقدة الأولى والتي تمثلت في خبر وفاة أخيه واضطراره للسفر لمدينة مانشستر، أعقبها مشاهد من الماضي لعلاقة لي بأخيه الأكبر جو. ومن خلال هذه المشاهد نتعرف على شخصية جو الأخ الأكبر الذي يعمل في السفن والصيد، وهو على درجة كبيرة من الثقافة ومحبوب في حيه. ويحب أخاه لي ويثق فيه ويحاول مساندته دائما. هو أب يتمناه أي مراهق. رسم شخصية جو يعرفنا بدون تكلف سبب اختياره لـ«لي» للوصاية بدلا من إخوته الآخرين المستقرين ماديا وأسريا. هذا التقديم الهادئ للمعلومات والتنقل السلس الرقيق بين الماضي والحاضر يجعلنا مهيئين لعقدة الفيلم الرئيسية التي سنكتشفها من ماضي لي وحياته التي كانت سعيدة بدرجة كبيرة مع طليقته «راندي» وطفلتيه.استمر النص في هدوء أحداثه وعذوبة حواراته حتى بعد كشف العقدة الرئيسية للفيلم، لينتهي بمشهد من أجمل وأصدق مشاهد هذا العام بين راندي ولي، المشهد الذي يظهر في «بوستر» الفيلم الأساسي. وهو من مشاهد «ميشيل ويلمز» القليلة جداً. «كينيث لونيرغان»، هو أبرز المرشحين لنيل هذه الجائزة طبقا لمؤشرات الجوائز السابقة، ولكنه يخوض منافسة شرسة مع نصوص ممتازة أخرى، وفوز نص آخر لن يسبب صدمة كبيرة.


جائزة التمثيل

الفيلم مرشح لجائزتين في فئات التمثيل. الأولى وهي لكيسي أفلك عن أفضل ممثل في دور رئيسي. كيسي بملامحه الهادئة وطبقة صوته الرزينة المنخفضة ونظرة عينه الكسولة، كان الاختيار الأنسب من الناحية الجسدية. ولكن علي جانب الأداء فقد كان كيسي علي قمة هرم تألقه. لقد عكس مشاعر متضاربة كثيرة برزانه وهدوء. عكس خوف لي من أخطائه وكوارثه في الماضي، وفقدانه للثقة في نفسه وقدرته على رعاية باتريك، وفي نفس الوقت شعوره بالمسئولية اتجاه ابن أخيه الأقرب. كيسي أدى في اللحظات الدرامية المتفجرة بهدوء وسلاسة. ولذلك هو المرشح الأبرز لنيل جائزة الأوسكار.أما ميشيل ويلمز فقد ترشحت لجائزة أفضل ممثلة في دور مساعد. ظهرت ميشيل في لقطات قليلة جدا ربما لا تتعدى عشر دقائق من وقت الفيلم الإجمالي، ولكن المشهد الذي اختير في بوستر الفيلم كافٍ جداً ومقنع جداً لهذا الترشيح. لحظة انهيار وندم وشعور بالذنب وتذكر الماضي الأليم، الشعور باقتراف ذنب وتدمير نفسية شريكك في الحياة، هو ما أجادت ميشيل التعبير عنه، ولكن على عكس كيسي ملامح ميشيل غاضبة وحزينة وهذا يمنحها أفضلية في تجسيد الشخصيات الانفعالية، وتتميز في المشاهد التي بها الكثير من الدموع والغضب والندم، اختيار موفق آخر لممثلة أدت أدوارا مشابهة لأكثر من مرة أشهرها في فيلم «Blue Valentine»

أما الممثلان «كايل تشاندلر» و«لوكاس هيدجس» فقد كان لهما دور مهم في أداء شخصيتي جو وابنه باتريك. كايل الذي ظهر في مشاهد الـ«Flash Back» أجاد تجسيد شخصية جو الجذابة المحبوبة من سكان مدينته ومن ابنه وإخوته. ومن تجسيد كايل نعرف دوافع شخصية جو في اختيار لي ليكون وصيا على باتريك على الرغم من ماضي لي غير المشجع على اتخاذ مثل هذا القرار. ولوكاس أدى دور الفتى بدقة، فهو المراهق متقلب المزاج الذي يرغب في الاستقلالية برغم حبه لعمه . باختصار أجاد المخرج في اختيار طاقم التمثيل وقيادتهم، وهو ما عاد على الفيلم بجائزتي أوسكار من أصل 6 جوائز هي حصيلة الفيلم في هذا الموسم.


جائزة الصورة

اختار «كينيث لونيرغان» أن يكون فيلمه هادئا في كل شيء. هادئ بالمعنى الجمالي وليس بالمعنى الممل. بداية من القصة التي تتطور بهدوء، والصورة الجميلة حيث تم الاعتماد على اللونين الأبيض والأزرق السماوي المنتشرين بكثرة، سواء في لون البحر أو ألوان الثلوج التي تغطي كل أرجاء المدينة. وبالتبعية أحداث الفيلم تدور أغلبها في شتاء قارس مما يعطي أجواء شتوية هادئة وصورة صافية بقدر كبير. كل هذا العوامل جلبت ترشيحا مستحقا لكينيث لونبرغان في فئة الإخراج.

انعكس المسار الهادئ الذي اختاره لونيرغان على القطعات المونتاجية. فالقطعات تتم بهدوء لدرجة تجعلك أحيانا تفقد الزمن ولا تستطيع تمييز الانتقال الزمني للماضي إلا بعد مرور فترة كبيرة من الحوار. وربما هذا هو الانعكاس السلبي الوحيد للمسار الهادئ. ولم يتم تمييز هذه القطعات حتي بتغير ألوان الصورة أو أي تنبيه بصري. وتعتبر هذه النقطة سلبية لأن مسار الأحداث لن يكون في صالحه فقدان البوصلة الزمنية للمشاهد.فيلم «Manchester By The Sea» عن البشر ومشاعرهم، وعن خوفهم من ماضيهم. وعن الشعور بالمسئولية وفقدان الثقة بالذات. وعن الإيذاء النفسي الذي نوجهه لأحبائنا في اللحظات الصعبة. وعن ندمنا لإيذائهم حين لا يكون هناك فائدة من الندم.


موسم الجوائز السينمائية

سلسلة «موسم الجوائز السينمائية» نتتبع فيها أهم الأعمال السينمائية التي تتسابق على الجوائز الفنية المختلفة في موسم يمتد منذ ديسمبر/كانون الأول 2016، بإعلان ترشيحات جائزة «جولدن جلوب»، مرورا بجائزة «البافتا»، وانتهاءً بإعلان الفائزين بجوائز أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة «الأوسكار» في نهاية فبراير/شباط 2017.

(يمكنكم متابعة جميع حلقات السلسلة من هنا)