هل رأيتَ أشلاء جيشنا يا عبد الله؟ هل سمعتَ بالانسحاب الكيفي أمام لؤم أمريكا المتوحّشة وطيرانها المتغوّل؟ هل هذا هو المصير الذي كنّا نُعِدّ جيشّ العِراق له؟ هل خُلِق جيش العراق ليكون طعامًا لجنازير الدبابات والصواريخ؟

«محمود شيت خطّاب» باكيًا لأحد تلاميذه مصيرَ جيش العراق في حرب الخليج الثانية


أسدٌ بين الضباع

عاش اللواء خطّاب عصرًا متفجرًا من أعنف العصور، وكان نصيب العراق كبيرًا من الحرائق والمعاول بعد فلسطين الذبيحة، وكان اللواء خطاب شاهدَ القرن على تلك الكوارث والمآسي التي اجتاحت العراق والشعوب العربية والإسلامية، فكان ميلاد الكيان الصهيوني، ثم شهد هزيمة الأنظمة العربية في حرب حزيران سنة 1967م. عاش محمود شيت خطاب عصره بكل ما فيه، وناله الكثير مما فيه، وعاه بعقله وذكاء قلبه، وأسهم في إطفاء بعض الحرائق.
الأديب عبد الله الطنطاوي

«بعضهم يستحقّ السُخرية، وبعضهم يستحقّ الرثاء». هكذا كان رأي اللواء الرُكن اللغويّ الأديب الوزير القائد «محمود شيت خطّاب» فيمن التقاهم من الملوك والرؤساء والأمراء والوزراء والقادة والزعماء أثناء عمله في المناصب السياسية والعسكرية والأكاديمية المهمّة في الدول العربية وغير العربية، خلال عقود الخمسينات والستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي.

صِنفٌ منهم يستحقّ السخرية؛ لأنهم لا يعرفون واقعهم ولا يعرفون أقدار أنفسهم، فيتخيّلون لأنفسهم عظمةً لا وجود لها، وإنجازات لا حقيقة لها، ويصدّقون مَن حولهم من الإمّعات والتافهين والوصوليين والهتّافين وأشباه الرجال، في ادّاعاءاتهم الباطلة؛ عبقريةً ونبوغًا.

وصِنفٌ يتحقّ الرّثاء؛ يمثّله أولئك الذين يشغلون مناصب أكبر من إمكاناتهم، أقزامٌ يطمَحون أن يصبحوا عمالقة، أرشدتهم حاشية السوء إلى أن سبيلهم إلى ذلك لن يكون إلا بتحطيم العمالقة ليخلو لهم الجوّ وحدهم، فعملوا على تحطيم وإذلال وتهميش كل صور النبوغ التي تفضح قزامتهم. ولكن: لا استطاعوا أن يحطّموا النوابغ، ولا استطاعوا أن يصيروا عمالقة، فهم أقزامٌ مهما فعلوا.

وكلا الصِنفين، مِن الطُغاة الذين أتخِمَت بهم مقاعد القيادة والرئاسة والزعامة في البلاد العربية والإسلامية، منذ منتصف القرن الماضي، ولم تجنِ دولهم ومجتمعاتهم من وراءهم إلا الخسائر والورطات والكوارث المتتالية تحت زعم البطولات الحمقاء، ولا زالت تتكرر نماذجهم بشكلٍ بات لا يحتاجُ إلى تعيين أحدهم أو تسميته. فقط يكفيكَ أن تقرأ وصفَ صِنفٍ فتجدّ نماذجه تتمثّل في ذهنك بوضوح ووقاحة.

يميّز شيت خطّاب في رؤيته لمّن عرفهم من القادة والرؤساء، بين هذين الصِنفين، وبين صِنف ثالث قليلٍ نادرٍ، يرى أنّه صِنفٌ يستحقّ الاحترام، يعمل من أجل المصلحة العامّة حقًا، بكفاية وإخلاص، وإنكارٍ للذات.


من باحات الموصل إلى أزقّة السُلطة

وُلِد محمود بن شيت خطّاب بمدينة الموصل شمال العراق، عام 1919م، وتربّى على الإسلام والأخلاق الحسنة في كنف جدّته لأبيه، ودرس القرآن والحديث واللغة العربية والخطّ على أيدي مشايخ الموصل، وكان أبوه يصحبه معه إلى مجالس الحيّ لسماع الأخبار وقراءة الكتب النافعة، وكان لوالده مكتبة عامرة بالكتب والمصادر المطبوعة والمخطوطة.

التحق بالكلية العسكرية في بغداد، عام 1937م، وتخرّج بعدها بعام بتقدير جيد جدًا، وفي عام 1941م، شارك في ثورة رشيد عالي الكيلاني ضد الاحتلال الإنجليزي، وأصيب ونجا من الموت بصعوبة. حصل على الماجستير من كلية الأركان والقيادة (1947م) بتقدير جيد جدًا، وشارك بعدها برتبة نقيب ركن في معارك ضد اليهود في فلسطين (1948م)، وبقي في مدينة جنين عامًا كاملًا. وفي عام 1953م، كان قد شهد 24 دورة تدريبية عسكرية في العراق قبل أن يلتحق بالوحدات البريطانية في تدريبها الإجمالي بشمالي أفريقيا، ثم تخرّج في الدراسات العسكرية العليا من كلية الضباط الأقدمين بالعراق (1954م) بدرجة جيد جدًا، وبعدها بعام أُوفد إلى كلية الضباط الأقدمين ببريطانيا.

في عام 1956م، كان شيت خطّاب آمر فوج مشاة بالموصل، وتصدّى للفتنة الدموية التي كادت تنشأ بين الشرطة والمتظاهرين أثناء المظاهرات الرافضة للعدوان الثلاثي على مصر، وتولّى بنفسه مسئولية الأمن والنظام في الموصل بعد مقتل عدد من الأشخاص، وهو ما أغضَب السُلطات الأمنية عليه حينها، وعملت على إبعاده من الجيش.

وفي عام 1958م، أصدر كتابه الفريد الأول «الرسول القائد». في العام التالي (1959م) وشى به الشيوعيون لعبد الكريم قاسم، الرئيس العراقي حينها، بعد تصدّيه لمحاولاتهم التنكيل بالجماهير العراقية، فأمر بحبسه وتعذيبه، وتمّ الإفراج عنه (1961م) خشية أن يلقى حتفه في السجن جرّاء التعذيب، إذ ناله 43 كسرًا في عظام جسده!

نال عضوية المجمع العلمي العراقي (1963م)، وعضوية المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي (1964م)، وعضوية عضو مجمعي اللغة العربية في القاهرة ودمشق (1966م)، وعضوية مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر (1968م)، وعضوية المجلس الأعلى للمساجد في مكة المكرمة (1975م).

وفي عام 1968م، عُيِّن وزيرًا للمواصلات العراقية، وكان حينها في مصر يترأس لجنة مشروع توحيد المصطلحات العسكرية للجيوش العربية التي أعدّت المعجمات العسكرية الأربعة الموحّدة… إلا أنه رفض المنصب. وعندما عاد من مصر إلى العراق في 1973م، عرض عليه الرئيس العراقي أحمد حسن البكر عدّة مناصب حكومية رفيعة، إلا أنه اعتذر عنها جميعًا ليتفرّغ لمشاريعه العلمية والأكاديمية.


ألا تكون صالحًا إلا للريادة

عمر عبيد حسنة

هناك معالم بارزة في توجّهات واهتمامات «محمود شيت خطاب»، التي ضمّنها إنتاجه العِلمي والأكاديمي، نجملها فيما يلي:

التوجّه الإحيائي

يُعَدّ «شيت خطّاب»، بحقٍّ، رائدَ إحياء تراث وعلوم العسكرية العربية الإسلامية. ترسّخ هذا من خلال مشاريعه العلمية والتطبيقية في إعادة صياغة وتأصيل التاريخ العسكري للأمة العربية الإسلامية بأسلوب فني متخصص ذي فلسفة واضحة متكاملة، وبمصطلحات عسكرية حديثة، ابتداءً من السيرة النبوية مرورًا بالفتوح الإسلامية وقادتها. يؤكد محمد أحمد باشميل: «يُعَدّ كتابه «الرسول القائد» من أروع من خطّته الأقلام المسلمة في تاريخ الرسول العسكري، حيث لم يسبقه أحد إلى الطريقة التي سلَكها في وصف المعارك التي قادها الرسول – صلى الله عليه وسلم -، حيث أثبت للقارئ، بفلسفة عسكرية شيّقة، أنّ محمدًا – بالإضافة إلى كونه نبيًا مرسلًا- هو أعظم قائد عسكري عرفته البشرية».

واطّردت ممارسته الإحيائية من خلال طرحه وتدريسه العلوم العسكرية والاستراتيجية باللغة العربية الفصحى ودعوته الدءوب إلى ذلك، وعمله بالمجامع العلمية واللغوية في العراق ومصر والأردن، وإصداره معاجم عسكرية موحّدة ومعرّبة كان لها أبلغ الأثر في المصطلحات المستخدمة داخل الجيوش العربية الحديثة. ومن خلال توسّعه في تناول الدراسات الإسرائيلية بطريقة رائدة في الوقت الذي كان الجميع يحجمون عن التطرّق إليها، فكان أوّل مَن أقدم على تدريس العسكرية الإسرائيلية في المعهد العالي التابع لجامعة الدول العربية بالقاهرة، وكان هدفه من ذلك كما قال: «أن يعرف العرب والمسلمون عدوّهم على حقيقته، لا كما يحلو للعدو الصهيوني أن يعرف العرب والمسلمون عنه»، رافعًا شعار «اعرف عدوّك تأمَن مكره وتنتصر عليه». كما يرجع إليه الفضل في وضع مناهج تدريب فنيّة تعمل بموجبها كثير من الجيوش العربية.

التوجّه النقدي

كان خطّاب يرى أن الممارسات العِلمية المشوّشة أو المناهج المزيِّفة تستلزم نقدًا عاجلًا ومباشرًا، وهو ما فعله في نقد بعض المناهج التاريخية التي ورثها بعض باحثي التاريخ عن أساتذتهم المستشرقين في تناول التاريخ الإسلامي عامةً. وما فعله في نقد لجان إعادة كتابة التاريخوكشفه عن بعض الوقائع الدقيقة الخاطئة عِلميًا ومنهجيًا «كما في مقدّمة كتابه «الوسيط في رسالة المسجد العسكرية» بطريقة تؤكّد سعة اطلاعه ومتانة منهجه.

التوجّه الدعوي

كان محمود شيت خطّاب يرى أن مجهوداته في الدفاع عن الدين الإسلامي، وعن اللغة العربية، وإحيائه للتاريخ العسكري الإسلامي، ولعلم اللغة العسكرية، ودراسة العدوّ الصهيوني… هي في النهاية مجهودات دعوية خالصة. يقول في سيرته الذاتية: «والواقع أن المحاور الأربعة هي في واقعها تنصبّ في محور الدعوة؛ فمحور التاريخ العسكري العربي الإسلامي هو لاستعادة معنويات العرب والمسلمين إليهم، واستعادة ثقتهم بدينهم الذي يقودهم إلى النصر، كما قاد أجدادهم إلى النصر، ومحور كشف العدو الصهيوني للعرب والمسلمين، هو دعوة أيضًا إلى الله، ليستعيد العرب والمسلمون أسباب نصرهم على عدوّهم، لأن العزّة لله ولرسوله والمؤمنين، ومحور اللغة العسكرية هو الاعتزاز بلغة القرآن الكريم، والإثبات عمليًا أنها صالحة للغة العلم في مختلف الظروف والأحوال، والأمكنة والأزمنة».

التوجّه الإبداعي

حيث لم يكتفِ بالتأكيد على أهمية اللغة العربية الفُصحى نظريًا، بل طرق كل فنونها بشكلٍ عمليٍ، نثرًا وقصّةً وشعرًا.. وكثيرًا ما كان يلفت إلى أهميّة ألا تتوقّف الجهود الإبداعية اللغوية بفنونها المختلفة، وأن تتعدّى إفادتها للأجيال المقبلة.


ميراث الريادة المشهود

اللواء محمود شيت خطّاب من العسكريين الذين نعتزّ بهم؛ لأنه أبى السقوط في تربية الاستعمار والتزام مناهجه… لقد بدأ خطوة رائدة على طريق تدوين سيرة الرسول
صلى الله عليه وسلم -، وسير قادة الفتح الإسلامي من خلال تصوّر إسلامي واضح لعوامل النصر والهزيمة المادية والمعنوية، وتخصص عسكري رفيع، ولغة عربية مطواعة.
كنت أتابع ما يصدر له من كتب ومؤلفات وبحوث ومقالات، فأجد فيها المعين لي في حياتي العسكرية، لتأصيل العلوم والثقافة العسكرية حتى أصبحت مدرسة متميزة.
اللواء الركن يوسف بن إبراهيم السلوم

قدّم اللواء «محمود شيت خطّاب» (126) كتابًا للمكتبة العربية العسكرية والأكاديمية واللغوية والأدبية، بخلاف البحوث والمقالات، ومن أبرز مؤلّفاته:

– الفاروق القائد، مطبعة العاني، بغداد، الطبعة الأولى، 1965م.

– طريق النصر في معركة الثأر، دار الفتح للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1966م.

– الأيام الحاسمة قبل معركة المصير وبعدها، دار الفتح للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1967م.

– العسكرية الإسرائيلية، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 1968م.

– تاريخ جيش النبي (صلى الله عليه وسلّم)، دار الاعتصام، القاهرة، 1980م.

– الوسيط في رسالة المسجد العسكرية، دار القرآن الكريم، بيروت، الطبعة السابعة، 1981م.

– إسلام النجاشي والاعتماد على المصادر الإسلامية في الدراسات اللغوية والإسلامية أمل ورجاء، من منشورات المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي بمكة المكرّمة، الطبعة الأولى، 1987م.

– الرسول القائد، محمود شيت خطاب، دار الفكر، بيروت، الطبعة الخامسة، 1989م.

– العسكرية العربية الإسلامية عقيدة وتاريخًا وقادة وتراثًا ولغة وسلاحًا، طبعة خاصة بالحرس الوطني السعودي، بدون تاريخ.

– الشورى العسكرية في عهد الرسالة، دار القبلة، جدة، 1992م.

– قادة النبي صلى الله عليه وسلم، دار القلم، دمشق، والدار الشامية، بيروت، الطبعة الأولى، 1995م.

– سفراء النبي صلى الله عليه وسلم، دار الأندلس الخضراء للنشر والتوزيع، جدة، الطبعة الأولى، 1997م.

– بين العقيدة والقيادة، دار القلم، دمشق، والدار الشامية، بيروت، الطبعة الأولى، 1998م.

– قادة فتح الأندلس، مؤسسة علوم القرآن، بيروت، ومنار للنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى، 2003م.

أخيرًا، في العاشر من ديسمبر/ كانون الأول، عام 1998م، توفّي اللواء الرُكن محمود شيت خطّاب، بمنزله بحيّ اليرموك في بغداد، ودفن بها.

المراجع
  1. موسوعة (علماء ومفكرون معاصرون)، المركز العربي للدراسات الإنسانية.
  2. اللواء الركن محمود شيت خطّاب المجاهد الذي يحمل سيفه في كتبه، عبد الله محمود، دار القلم، بيروت، 2001م.
  3. اللواء الركن محمود شيت خطّاب (سيرته وترجمة حياته ومؤلفاته)، اللواء الركن يوسف بن إبراهيم السلوم، مكتبة العبيكان، الطبعة الأولى، 1992م.
  4. من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة، المستشار عبد الله العقيل، دار البشير، جـ2، الطبعة التاسعة، 2011م.
  5. العسكرية العربية الإسلامية عقيدة وتاريخاً وقادة وتراثاً ولغة وسلاحاً، اللواء الركن محمود شيت خطاب، طبعة خاصة بالحرس الوطني السعودي، 1403هـ..
  6. الرسول القائد، اللواء الركن محمود شيت خطاب، دار الفكر، بيروت، الطبعة الخامسة، 1989م.
  7. طريق النصر في معركة الثأر، محمود شيت خطاب، دار الفتح للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1966م.