استطاع الحصان الأبيض هزيمة لوبان، فتنفست فرنسا ومعها جميع أوروبا الصعداء، لنجاتها من الوقوع في فخ اليمين المُتطرف، الذي توعد ويتوعد بتفكيك أوروبا، ثم اكتسح الحصانُ الانتخابات البرلمانية بأغلبية ساحقة؛ ليخلو بذلك ميدان المنافسة تمامًا، وتتحول حلبة السباق إلى ممشى مُزين لماكرون نحو فترة رئاسية لا عوائق فيها. لتتضاءل بذلك فرحة الفرنسيين بالنجاة من قبضة لوبان، ويحل محلها ترقبٌ حذر لما ستئول إليه الأوضاع بعد أن صارت فرنسا في قبضة الرئيس الجديد إيمانويل ماكرون، خاصةً أن عديدًا من الأحداث المتتابعة دعمت ذلك الخوف.


البداية من القصر

برقت أولى بوادر الخطر في ظهر الاثنين 3 يوليو/تموز حين أعلن ماكرون أنّه سيصرح بسياساته العامة في خطابٍ سيلقيه أمام البرلمان، بحضور نواب مجلسي الشيوخ والجمعية الوطنية، في قصر فرساي. في خطوة تقترب كثيرًا من التقليد الأمريكي في «الخطاب حول حالة الاتحاد» الذي يلقيه الرئيس الأمريكي كل عام أمام الكونجرس، ولكنّها تبتعد في الوقت نفسه كثيرًا جدًا عن التقاليد الفرنسية؛ إذ يعتبر إلقاء الخطاب في قصر فرساي تقليدًا شديد الندرة، ويتم في ظروف شديدة الاستثنائية.

فمثلًا، لم يلق الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي خطابًا في فرساي إلا مرةً واحدةً في 2009؛ بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة التي كانت تمر بها فرنسا آنذاك. وكذلك لم يلق الرئيس السابق فرانسوا هولاند خطابًا من قصر فرساي إلا بعد اعتداءات 13 نوفمبر/تشرين الثاني، من أجل طلب تعديل دستوري يتعلق بحالة الطوارئ في البلاد.

وجرت العادة أن يلقي الرؤساء الفرنسيون خطاباتهم في 14 يوليو/تموز بمناسبة عيد الاستقلال، وعلى هيئة حوار تليفزيوني، لكن ماكرون خالف تلك العادة بعد شهرين فقط من حكمه. ولم يقتصر الأمر على هذا الخطاب، وحسب، بل جعل ماكرون إلقاء الخطاب من فرساي عادةً سنوية.


محاولة إضعاف رئيس الوزراء

وإضافةً إلى مكان الخطاب يثير موعده العديد من الشكوك أيضًا، فلم يقتصر الأمر على مخالفته لعادة 14 يوليو/تموز؛ ولكنه جاء في عشية خطاب إعلان السياسة العامة الذي سيلقيه رئيس الوزراء، إداور فيليب، أمام نواب البرلمان، يوم الثلاثاء 4 يوليو/تموز. مما رآه العديد من الفرنسيين ونواب البرلمان محاولة لإحراج رئيس الوزراء وإضعاف سلطته.

ولهذا أعلن عدة نواب مقاطعتهم لخطاب ماكرون؛ لما رأوا فيه من إذلالٍ كبير لرئيس الوزراء، كما وصفه النائب اليميني إيريك سيوتي. وحذر رئيس الفريق النيابي لحزب الجمهوريين اليميني المحافظ، كريستيان جاكوب، من اتجاه ماكرون لصنع سلطة شمولية دون تقاسم.

خطاب فرساي خطوة إضافية لتعزيز البعد الفرعوني للملكية الرئاسية، ويجعل من رئيس الحكومة مجرد موظف متعاون.
جان لوك ميلانشون- رئيس حزب فرنسا الأبيّة

الانفراد بالجمعية الوطنية

تجاوز الأمر مجرد الخطاب والتخمينات حول مكانه وزمانه إلى أمر أشد وضوحًا، فقد حصل حزب ماكرون في الانتخابات البرلمانية على أكثر من 350 مقعدًا من أصل 577 مقعدًا، متجاوزًا بذلك الحد الأدنى للأغلبية المطلقة والمُحدد بـ 289 مقعدًا، ليصبح تمرير أي قرار يرغب فيه ماكرون أمرًا يسيرًا. وإن كانت هذه هي رغبة الشعب الفرنسي، لكن المخاوف ظهرت من إقصاء ماكرون لأي صوت معارض من مكتب مجلس الجمعية الوطنية، وكانت التقاليد تنص على وجود مقعد واحدٍ على الأقل للمعارضة.

وقال باسكال بيرينو، الباحث في مركز البحوث السياسية «سيفيبوف»، إن هذا الإقصاء جاء ليشكل معلمًا آخر من معالم «الماكرونية» التي بدأت في الارتسام من خلال ممارسة الوصاية على الحكومة ورئاستها، وعلى حزب الأغلبية، وأخيرًا الجمعية الوطنية.


تحدي رئيس الأركان

بجانب ما حدث في الجمعية الوطنية، فلا يبدو ماكرون مستعدًا بالشكل اللازم للاستماع إلى المعارضة. وهو ما بدا واضحًا في طريقة تعامله مع رئيس أركان الجيش، إذ انتهج ماكرون سياسةً شديدة الصرامة مع رئيس الأركان بيير دو فيلييه، حين أبلغ الأخير لجنة برلمانية اعتراضه على قرار ماكرون بتخفيض ميزانية الدفاع بـ 850 مليون يورو كخطوة أولى من محاولة ماكرون الوصول إلى النسبة التي حددها الاتحاد الأوروبي لخفض العجز في الميزانية لأقل من 3% من الدخل القومي.

وجاء رد ماكرون مباغتًا وقويًا، فأكد أنّه لن يتهاون مع معارضة الجيش العلنية، ولكنّه عاد وأكد أن دو فيلييه لايزال متمتعًا بثقة ماكرون كاملةً، شريطة أن يعرف تسلسل القيادة وكيف يعمل هذا التسلسل، وأنّه ليس أمام رئيس الأركان سوى الموافقة على ما يقوله ماكرون، وإذا وقع خلاف بين الرئيس ورئيس أركان الجيش، يرحل رئيس الأركان. ولا يبدو الوضع مائلًا للتهدئة، فقد كتب دو فيلييه على حسابه على «فيسبوك» أنّه لا يوجد من يستحق أن نتبعه عميانًا.

وتبعت هذه التدوينة استقالة رئيس الأركان، يوم الأربعاء 19 يوليو/تموز، والتي عللها بأنّه حاول الحفاظ على القوات الفرنسية قادرةً على أداء مهامها، وأن الميزانية الجديدة لن تجعله قادرًا على ضمان قوة الجيش الفرنسي.


فرنسا بحاجة إلى ملك

اللافت أن ماكرون لم يحاول مرة أن يبطل تلك الدعاوى حوله رغبته (الملكية) أو حتى يسخف من شأنها. بل على النقيض نجد في كتاب «ماكرون لأجل ماكرون»، والذي يحاور فيه الصحفي إيريك فوتوإرينو الرئيس ماكرون حول وجهات نظره في الفلسفة والسياسة والهجرة وأوروبا والعديد من القضايا الأخرى، ويأتي الحديث حول الثورة الفرنسية، فيقول ماكرون إن فرنسا لاتزال تترنح من آثار الثورة الفرنسية، وأن الديمقراطية الفرنسية دائمًا ما تبدو غير كاملة؛ إذ يوجد بها بعض الفراغ، هذا الفراغ هو وجود ملك.

ويرى ماكرون أن الفرنسيين لم يريدوا قتل ذلك الملك يومًا، وأن الثورة قد حفرت فجوةً عاطفيةً عميقةً بين الفرنسيين والملك، بسبب أسبابٍ بعضها كان أسطوريًا وبعضها كان حقيقيًا. ويُدعّم ماكرون كلامه بأن الفرنسيين قد حاولوا أكثر من مرة ملء هذا الفراغ، سواء في عهد نابليون أو عهد ديجول، ولكنهم لم ينجحوا إلا جزئيًا. وأشار إلى أن الديمقراطية الفرنسية لن تستطيع وحدها سد هذا الفراغ.

وفي الختام يبدو أن الشعب الفرنسي قد وَقّع حتى الآن «إيصالًا أبيض» لإيمانويل ماكرون يخط فيه ما يشاء، نظرًا لما أبداه ماكرون من النقاء السياسي والحنكة الدبلوماسية أثناء حملته الانتخابية؛ لكن الواقع يقول إن الفرنسيين باتوا على وشك اكتشاف أحد أمرين؛ إما أنّهم خُدعوا ببراعة من قبل ماكرون وحملته الانتخابية، أو أنّهم صنعوا بأنفسهم وبدعمهم المطلق إمبراطورًا جديدًا، وفي الحالين يتوجب على الشعب الفرنسي الانتباه إلى حركات وسكنات ماكرون، لمعرفة ما يخفيه في جعبته.