مازالت أتذكر شكل أغلفة الكتب وصفحاتها الصفراء المهترئة -طبعة دار المعارف- «أبو يزيد البسطامي»، «أبو مدين الغوث»، «ذو النون المصري» ..إلخ. كانت مكتبة أبي تضج بمجمل أعمال «عبد الحليم محمود» (1910-1978)، شيخ الأزهر السابق (تولى مشيخة الأزهر من 1973 إلى 1978 ) وخاصة سلسلة كتبه المبسطة عن سير هؤلاء الصالحين.

ورغم انتقادي الشديد لمواقفه السياسية الكارثية في كثير من الأحيان (رفضه إصلاح قوانين الأحوال الشخصية، رفضه مبادرة الكتب الدينية المشتركة، مطالبته بتطبيق الشريعة….إلخ) إلا أني لا أستطيع أن أنكر سعادتي الجمة في قراءة سلسلته عن أعلام الصوفية، وإصرار عبد الحليم محمود باعتبار ذلك التراث رافدًا أساسيًا ومؤسسًا لشكل التدين الذي كان منتشرًا في مصر في فترة من الفترات قبل صعود وتسيد التيار الإسلامي بتنوعياته المختلفة.


الشخصية الدينية للمصريين

وكان أبي من من مؤيدي تلك الفكرة، فكان يرى في الصحوة الإسلامية ابتسارًا للتراث، وإعادة تقديمه بشكله السني- الأشعري بعيدًا تمام البعد عن قرون من الممارسات الدينية التي عبرت بشكل مباشر وحقيقي عن الشخصية الدينية للمصريين منذ دخول الإسلام مصر. كان يطلق على تلك الظاهرة «تدين البترول»، في إشارة لدول الخليج وابتداعها ذلك النمط من التدين المرتبط برجعية شديدة واستهلاكية فجة.

يقدر عدد المصريين الذين هاجروا للمملكة السعودية منذ منتصف السبعينيات وحتي أوائل الثمانينيات بمليون وربعمائة ألف مصري

ورغم أن أبي بالفعل تمت إعارته إلى السعودية في أوائل السبيعنات، كمعظم أبناء جيله في ظاهرة نادرًا ما نتكلم عنها (يقدر عدد المصريين الذين هاجروا بشكل دائم أو مؤقت للمملكة السعودية للعمل منذ منتصف السبيعينات وحتى أوائل الثمانينات بمليون وربعمائة ألف، وسيظل عدد المصريين العاملين بالسعودية يتأرجح بين المليون وأكثر قليلاً أو أقل بنسبة بسيطة حتى يومنا هذا)، إلا أنه لم يتبنّ أي شكل من أشكال التدين المتعارف عليها في هذا المجتمع المليء بالتناقضات.

وظل متمسكًا بشكل رمزي بمظاهر التدين التي تربى عليها في مدينة نشأته، الإسكندرية، (ويا لسخرية القدر لتصبح بعد ذلك الإسكندرية معقلاً من معاقل الدعوة السلفية في مصر)، حيث نشأ في بدايات الخمسينات. لم يكن أبي يتبع مدرسة أو طريقة من الطرق الصوفية بشكل محدد، فكان دائمًا ما يقول إنه يميل إلى الطريقة الحامدية الشاذلية، ولكني لم أره يومًا يذهب إلى حلقة ذكر أو لم يأخذني إلى زيارة الأضرحة على سبيل المثال، ولكن كانت مكتبته هي الملاذ الروحي لي.

فكان كل رمضان، حتى مرحلة الثانوية العامة، هو شهر قراءة سير وحيوات «أصدقاء الله» (كما كانت تطلق عليهم/ن صديقتي السنغالية). كنت أترك لأبي الاختيار وكان هو يختار مجموعة من السير، لم تكن كلها من تأليف عبد الحليم محمود لأنني مع الوقت تدرجت في القراءة حتى تطاولت على والدي في يوم من الأيام وطالبت برسائل محي الدين بن عربي.

وعندما أخبرني والدي أني لن أفهم شيئًا أصررت على اختياري وبدأت بالقراءة وأعجزني النص، وأتذكر أن جل ما فهمته هو صور أو تصورات لتجربة ما، لا أستطيع تفسيرها أو وصفها الآن، وحتى إذا حاولت فسوف أستخدم مصطلحات وأدوات تحليل لم يكن ابن عربي ليقتنع بها بالضرورة. ورغم غموض المعنى بالنسبة لي، كشخص لا يندرج تحت أي من الطرق أو المدارس الصوفية، ظلت قراءاتي البسيطة مصدرًا مختلفًا لفهم ماهية التدين وعلاقته بالمجتمع.


موجة الدعاة ورأسمالية التدين

فبينما كانت أشكال التدين في مصر منذ أواخر التسيعنات تتخذ أشكالاً معادية للإنسان كما يقول «محمد نعيم»، فبزوغ نجم الفضائيات وموجة الدعاة الجدد وانسحاب المبادئ الرأسمالية والاستهلاكية للتدين في شكل مغرق في المحافظة الاجتماعية (شكل أشبه بالتنمية البشرية أو منطق صناديق الاستثمار)، تم سحق وطمس أجزاء وأوجه من تاريخ السيرة وووقائع التنزيل من أجل تقديم تلك الصورة النمطية «للأمة»، التي لم تكن أبدًا على خلاف.

وتركزت فلسفة الدين في فكرة «الدعوة» والطقوس التي ترسخ من السلطة الأخلاقية للمجتمع، خاصة مبدأ «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» ومبدأ «وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا» (سورة البقرة، الآية 143).

وليس الهدف هنا هو نقد فكرة الدعوة أو تفسير مجموعة من الآيات على حساب مجموعة أخرى، ولكن هو محاولة كسر تلك الأحادية في النظر في تاريخ السيرة والتنزيل وكيف أن تجربة مثل تجارب المتصوفين أعطت الكثير من الأهمية لأوجه تغافل عنها الكثيرون.

ففي سبيل تصدير تلك الصورة للأمة التي لا تختلف والتي اجتمعت على ثوابت لا خلاف فيها، والتي دان لها الشرق والمغرب (أستاذية العالم!) بالسيادة والولاية، يظهر لنا أن تاريخ الدعوة مليء بلحظات من التأمل والتدبر وكذلك لحظات طويلة من الشك واليأس معًا.

فعلى سبيل المثال يتم دائمًا إغفال حياة محمد (ص) قبل البعث واعتياده التأمل والتعبد في رمضان من كل عام في غار حراء وذلك قبل نزول الوحي. وعلى نفس المنوال فإن معظم السور المكية، التي نزلت خلال الثلاثة عشرة عامًا الأولى من الدعوة في مكة، هي سور تنشغل بالأساس في رصد الظواهر الكونية وقدرة الخالق مع الدعوة في التدبر والتأمل بالتوازي مع نقد شديد اللهجة لمجتمع قريش في القرن السابع الميلادي، كمجتمع مستغل، غير عادل، يفتقر لقيم التراحم والعدل.

إن ذلك المزيج من التفكر في الكون وقدرة الخالق مع سبر أغوار النفس ونقد الواقع لأشد ما يحتاجه المسلمون الآن. ولا أقصد التأمل بمعناه المعار من فلسلفات الشرق الأقصى (اليوجا أو غيرها) بشكلها الساذج الفج، ولكني أقصد ذلك التأمل الذي دفع محمدًا (ص) أن ينزوي بعيدًا عن قومه ويسأل ويتساءل عن أن الإيمان بتعددية الآلهة ليس منفصلاً عن نظام اجتماعي استغلالي يحكمه مبدأ القوة والغلبة بشكل أساسي.

(وهنا يظهر منطق مقارنة الإسلام باليهودية ومدى دقة هذه المقارنة في محاولة التوحيد التي تفترض وجود إله مطلق استخلف الإنسان، وبالتالي أصبح الإنسان فاعلاً أخلاقيًا مسئولاً وليس جزءًا من دراما عالم الآلهة المتصارعة يفرض فيها المنتصر إلهه المفضل)، وأن الطقوس بمفردها ليست دليلاً على الإيمان حتى لو كانت محاطة بأسمى علامات التبجيل والقداسة.


لحظات الشك واليأس

إن تاريخ الدعوة مليء بلحظات من التأمل والتدبر، وكذلك لحظات طويلة من الشك واليأس جنبا إلي جنب

إن قراءة سير المتصوفين ورحلاتهم الروحية أيضًا يذكرنا بلحظات اليأس والشك، فإصرار الدعوة الإسلامية بشكلها المعاصر على تحييد الفترة الأولى من الدعوة والتركيز بشكل أساسي على الهجرة إلى المدينة كالبداية «الحقيقية» للإسلام توجه غريب وإشكالي على أقل التقدير، فيظهر للعيان أن النبي جاء بجماعة مؤمنة وأسس المدينة الفاضلة، وحارب المشركين والمخالفين ثم مات.

إن تصدير صورة المحاررب، المتأسد علي أعدائه، قاهر اليهود والمشركين، هي رؤية شديدة السطحية للنبي (ص)

ولا يتسنى لنا معرفة كيف وصل النبي بالجماعة المؤمنة لهذه النقطة ولا ما تضمنته تلك الرحلة من معاناة ومشقة مادية ونفسية، فالثلاث عشرة سنة الأولى من الدعوة في مكة ما هي إلا سلسلة طويلة من الإحباطات والنُزل (من التشكيك في نبوة محمد (ص) – التهديد المستمر – حصار بني هاشم -وفاة عم النبي ….إلخ)،

بل إن بداية الدعوة نفسها مشوبة بلحظات بها كثير من التردد والحزن (خاصة عندما انقطع الوحي عن النبي في البداية في حديث البخاري الشهير الذي يحكي أن النبي راودته فكرة الانتحار، وأنكره كثيرون). إن تصدير تلك الصورة، صورة المحارب، المتأسد على أعدائه، قاهر اليهود والمشركين، ليست فقط صورة مليئة بالإسقاطات الذكورية التعيسة ولكن هي رؤية شديدة السطحية للنبي (ص) وللدعوة بتاريخها الطويل.

فهي تحرمنا كجماعة مؤمنة أن نتماثل مع فكرة مثل الهزيمة، وأزمة الشر في العالم، ولماذا يتعرض المؤمنون للمِحن وكيف نتعامل مع تلك المشاعر حين تتمكن منا، …إلخ. وفي ظل ظروف سياسية وتاريخية معاصرة يظهر لنا أن حصار الجماعة المؤمنة لا يعني بالضرورة أن الجماعة المؤمنة عليها «أن تحارب»، ففي بعض الأحيان يكون الاستمرار هو أهم سبل المقاومة، وفي ظل تسيد قيم استهلاكية مستغلة تكون فكرة النقد والمساءلة هي أعظم ما يمكن أن نقوم به، ليس هروبًا من مسئوليتنا في المقاومة إطلاقًا، ولكن لكي ننزلق لتلك الرؤية الأحادية، ولكي نتمكن من التصالح مع كل ذلك اليأس والحزن.

إن أعظم ما تركه المتصوفون ليس فقط هو إسهامات في تفسير النص وفهمه، ولكن هي تلك المسارات الروحية والنفسية التي نظرت إلى التاريخ بشكل كلي، فأصلحت بعضًا من الآثار الكارثية التي أحدثتها ظاهرة مثل الدعوة الإسلامية وارتباطها بتدين البترول، وتفريغ مناسبة دينية مثل رمضان من أي معنى أو إمكانية حدوث تغيير بمجتمع في أمس الحاجة للتغيير.