في تعريفه اللغوي للفظ «المنطق» سلك أبو النصر محمد الفارابي منحى لافتًا إذ عرفه بأنه مشتق من «النُّطق» وتدل عند القدماء على ثلاثة أشياء: القوة التي يعقل بها الإنسان المعقولات أولاً، هذه المعقولات إما حاصلة في نفس الإنسان بالفهم ويسمونها النطق الداخل، وإما العبارة باللسان عما في الضمير ويسمونها النطق الخارج [1]. فهذا التعريف إشكالي ولا ريب؛ إذ لم يكن شائعاً في لسان العرب الربط بين منطوق الكلام وعمل العقل، ومبرره أن اللفظ نقل إلى العربية مترجماً دون تمحيص في دلالته. لكن الفارابي في محاولته لحل الإشكال فتح أفقاً مهماً لفهم العقل باعتباره لغة ولا يمكن التعبير عنه سوى بالمنطق سواءً كان داخلاً على شكل فهم أو خارجاً على شكل تعبير.

المنطق في تعريفه الاصطلاحي المختلف عليه أيضاً وإن بدرجة أقل هو «آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ والفكر»[2]، وبجمع التعريفين معاً نصل إلى أن للمنطق وظيفتين رئيسيتين هما: ضبط الإنتاج العقلي الفكري للفرد وحفظه من الزلل، وكذلك مساعدته على بيان الصحيح من السقيم من الأفكار الموجودة مسبقاً.

انطلاقًا من تعريف الفارابي اللغوي والتعريف الاصطلاحي لابن سينا يكون كل نصّ في حد ذاته صادرًا عن منطق، ويتم ضبطه وبيان صحته من علّته بالمنطق أيضاً. على ضوء هذا يكون للقرآن بما هو «نص» وإن كان مقدساً منطق داخلي خاص به أو مؤسس له. ثم يقتضي مناط التصديق بقدسيته هنا أن يتحول الشق الثاني من المعاملة المنطقية لهذا النص إلى البحث ليس عن بيان صحته إنما عن صحة تنزيل أحكامه على الواقع تنزيلاً عاقلاً يتجنب الفهم العليل أو المغلوط.


مقدمة ومدخل

أنواع المنطق التي عرفتها البشرية ثلاثة أنواع بشكل عام: المنطق الأرسطي الذي وضعه أرسطوطاليس اليوناني والمنطق الرواقي الذي أسسه زينون الفينيقي ومنطق الفيلسوف الألماني هيجل. عرف منطق أرسطو بأنه منطق صوري يهتم في الأساس بمدى اتساق مقدماته مع نتائجه بغض النظر عن صحتها أو خطئها وهو على الصيغة التالية:

كل إنسان قط (مقدمة أولى)

أحمد إنسان (مقدمة ثانية)

إذن أحمد قط (نتيجة)

بالنسبة لهذا القياس فالنتيجة التي خلص إليها المثال السابق نتيجة منطقية تماماً بغض النظر عن واقعيتها. ولهذا المنطق إلى جانب القياس الصوري أربعة مبادئ رئيسية هي:

مبدأ الهوية ويعني هذا المبدأ أن الشيء يبقى هو هو لا يتغير ولا يتبدل. ومبدأ عدم التناقض كأن تقول عن الشيء إنه موجود وغير موجود في نفس الوقت، ومبدأ الثالث المرفوع ويعني هذا المبدأ من الضروري أن يكون للشيء صفة ما أو نقضها، وأخيراً مبدأ العلية ويقصد به أن لكل شيء سبباً. من الناحية الإبستمولوجية يمكننا القول إن المنطق الأرسطي يحاول تحديد الأشياء على جوهرها ويتميز بالثبات أي لا يتمكن هذا المنطق من حساب حركة هذه الأشياء، أما منطق زينون الرواقي، فيتميز عن المنطق الأرسطي بأنه منطق قضايا (جمل) في حين أن المنطق الأرسطي منطق كلمات، المنطق الرواقي منطق يبحث في أشكال الاستدلال، أما المنطق الأرسطي يبحث في ترتيب هذه الاستدلالات. يتأسس المنطق الرواقي بشكل كامل على القضايا الشرطية (المنفصلة والمتصلة) التي تربطها علاقة اللزوم التي تمثل مبدأً محورياً من مبادئ هذا المنطق. وقضاياه الشرطية من قبيل: «إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود».

من الناحية الإبستمولوجية يمكننا أن نقول إن هذا المنطق يبحث العلاقة النسبية «الشرطية» بين الأشياء بعضها البعض. وقد مكنته هذه الجدلية النسبية من أن يكون منطقاً للعلوم وأساساً للمنطق الحديث الذي قامت عليه العلوم التجريبية والرياضية الحديثة. أما المنطق الثالث، فهو منطق هيجل الجدلي وهو منطق يبحث الحركة وليس الثبات. لا يصف منطق هيجل الأشياء في ماهيتها بل في تغيرها، وهذا التغير الذي اختصه هيجل بالتاريخ ليس عشوائياً إذ يتألف من ثلاثية هي: الفكرة أو الأطروحة ثم تواجهها فكرة مضادة هي الطباق وأخيراً يأتي الحل، هذا الجدل الثلاثي هو ما يسهم في تقدم التاريخ نحو غايته النهائية وهي الوصول للعقل المطلق الذي هو روح التاريخ وجوهره [3].


المنطق عند ابن تيمية

سيرورة انصهار علم المنطق الأرسطي تحديداً في بوتقة المعرفة الإسلامية لم تكن سهلة فقد مرت بمراحل متعددة من الترجمة إلى الشرح إلى الاعتراف والاستخدام المعرفي ثم النقد، وقد دخل المنطق الأرسطي إلى الساحة العربية من بوابة حركة الترجمة الأولى مع مجمل العلوم التي نقلها العرب عن اليونان القديمة لكنه ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالفلسفة وتطورها داخل المجال الإسلامي. مر علم المنطق في العالم الإسلامي بأربع مراحل رئيسية بحسب تقسيم وائل الحارثي صاحب كتاب «علاقة علم أصول الفقه بعلم المنطق» هي:

أولاً: مرحلة الترجمة والفهم والاستيعاب

يمكن تقدير هذه المرحلة إلى حدود القرن الثالث الهجري بحسب الباحث، وكان ابن المقفع هو أول من اشتهر بترجمة بعض كتب أرسطو المنطقية في صدر الدولة العباسية. كما تضمنت أيضاً الملخصات البدائية والدراسات المستقلة لأول فيلسوف في العالم الإسلامي العربي أبي إسحاق الكندي.

ثانيًا: مرحلة التعليم والكتابات المستقلة

في هذه المرحلة ظهر أبو النصر الفارابي الذي طور التصنيف في المنطق إلى شروح وكتابات مستقلة كما قام بتقريب وتسهيل المنطق للناس كما ظهرت عنده المحاولات الأولى لتقريب القواعد المنطقية عن طريق الأمثلة الفقهية.

المرحلة الثالثة مرحلة الإدماج في العلوم الشرعية

شهدت هذه المرحلة ظهور ثاني أبرز شخصية في مجال الدراسات الفلسفية والمنطقية وهو الرئيس أبو علي ابن سينا الذي اشتُهر بكثرة مؤلفاته وشروحاته في المنطق وتميز بسعة استيعابه للنص الأرسطي والإضافة عليه وإعادة ترتيبه وأصبحت مؤلفاته هي المرجع الرئيس في دراسة المنطق وفهم النص الأرسطي. لكن المحاولة التقريبية البارزة الأولى بين العلوم الشرعية والمنطق جاءت على يد أبي محمد بن حزم في كتابه «التقريب لحد المنطق» الذي تحمّس للمنطق حماسة معاكسة للموقف الفقهي العام حينها.

شهد الربع الأخير من القرن الخامس الهجري ظهور الشخصية الشرعية الأبرز في مجال البحث المنطقي وهو أبو حامد الغزالي الذي كان من أغزر المؤلفين كتابة في علم المنطق بينها كتب مستقلة منها «معيار العلم» و«محك النظر» و«القسطاس المستقيم». حاول الغزالي الهروب من المأزق اللغوي للمصطلح عبر هذه التسميات العديدة كما حاول تنقية علم المنطق من أصوله الفلسفية وتحمس له حماساً بالغًا حتى قال: «من لا علم له بالمنطق فلا ثقة بعلومه». كان حماس الغزالي موجهًا للمنطق الأرسطي الذي رأى فيه مهرباً من وحل التناقض الذي سقط فيه علم الكلام بسبب المسائل المتناقضة بين المتكلمين بما يحمله هذا المنطق من قدرة على توفير الاتساق الداخلي للحجج ومحاولته الوصول إلى اليقين المطلق في الاستدلال وهو المطلب الذي طالما سعى له الغزالي بما وسعه من جهد. لكنه حذر من تسرب هذه النزعة اليقينية إلى الاستدلال الفقهي الذي تكفي فيه الأدلة ظنية الثبوت.

لم يتوقف الغزالي عند استخدام المنطق لتنزيل الأحكام الفقهية فقط إنما تعداه لفهم الخطاب القرآني نفسه إنطلاقاً من قوله تعالى: (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان)، حيث فسّرها في كتابه «القسطاس المستقيم» بقوله: «أتظن أن الميزان المقرون بالكتاب هو ميزان البُر (القمح) والشعير والذهب والفضة؟! أوَ تعتقد أن الميزان المقابل وضعه برفع السموات والأرض هو الطيار والقبان؟! ما أبعد هذا عن الحسبان وما أعظم هذا البهتان!! فاتق الله ولا تشطط ولا تعسف فى التأويل،واعلم أن هذا الميزان هو ميزان معرفة الله تعالى ومعرفة ملائكته وكتبه ورسله وملكه وملكوته»(4).

من هذه الرؤية قسّم الغزالي أقيسة القرآن إلى ثلاثة موازين هي التعادل والتلازم والتعاند وقسم التعادل إلى ثلاثة أقسام: أكبر وأوسط وأصغر؛ فميزان التعادل الأكبر استنبطه الغزالي في كتابه القسطاس المستقيم من قوله تعالى: (قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) على صورة: إن كل من يستطيع إخراج الشمس فهو إله، وهذا أصل معلوم بالوضع والاتفاق؛ فإلهي هو القادر على إطلاع الشمس وهو أصل معلوم بالمشاهدة، والنتيجة أن إلهي هو الإله دونك. استدل الغزالي على حجية هذه الصورة من القياس بقوله تعالى: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه).

ميزان التعادل الأوسط استنبطه الغزالي من قوله تعالى (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) على صورة: القمر آفل معلوم بالنظر، والإله ليس بآفل، والنتيجة أن القمر ليس بإلهٍ، وعلى شاكلة هذا القياس الذي تنتفي فيه صفة عن أصل وتثبت على آخر ضرب الغزالي مثلاً بالآية: (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ). أما ميزان التعادل الأصغر فاستنبطه من قوله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ)، وفيه يتم إثبات صفتين لأصل واحد من قبيل : موسى بشر. موسى أنزل عليه الكتاب. النتيجة أن بعض البشر أنزل عليه الكتاب.

أما الأقيسة الشرطية المنفصلة والمتصلة (التلازم والتعاند) نجدها في الآيات : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) و(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا).

المرحلة الرابعة

شهدت تقعيداً للمنطق في العلوم الشرعية وعلم الكلام وتوسعاً وانتشاراً في دراسته والتأليف فيه؛ لقد ظهر ابن تيمية بنقده الشديد للمنطق الأرسطي الذي سطره في كتابه «الرد على المنطقيين». قام ابن تيمية برفض المنطق الأرسطي من خلال أربعة مقامات: أحدها في قولهم: إنَّ التصوّر المطلوب لا ينال إلاَّ بالحدّ. والثاني: إنَّ التَّصديق المطلوب لا ينال إلاَّ بالقياس. والثالث في أنَّ الحدَّ يفيد العلم بالتصوّرات. والرابع أنَّ القياس أو البرهان الموصوف يفيد العلم بالتصديقات.

يرى الدكتور حيدر حاج إسماعيل في مقدمته التي خصصها للتعريف بالمنطق في مستهل ترجمته لكتاب «بحث في الصدق والمعنى» للفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل، أن نقد ابن تيمية جاء إعلاءً للمنطق «الدليل الرواقي» الذي يرى أنه منطق القرآن على حساب المنطق الأرسطي [5].

يرى ابن تيمية أن الآية في القرآن الكريم هي العلامة أو الدليل وبالإمكان وضع الآية القرآنية في الصورة المنطقية التالية:

إذا كانت هناك سماوات وأرض فهناك خالق

هناك سماوات وأرض

إذن هناك خالق.

يعتمد منطق ابن تيمية على نظرية معرفية ترى أن المعرفة تنال بالجزئيات وليس بالتصورات الكلية؛ لاستحالة تعريف الحد تعريفاً واقعياً قابلاً للتطبيق. وهو منطق من وجهة نظر المستشرقة الألمانية أنكه فون كوجلجن يشابه المنطق الذي تبناه المذهب الاسمي في القرن السادس عشر، ومن بعده المذهب التدريجي، وهو المنطق الذي قام عليه العلم الحديث ويقوم بالأساس على علاقة اللزوم في الاستدلال ويرى أن التقعير والتفصيل في المنطق الصوري يخرجه من منظور الإفادة العملية إلى اللغو المجرد [6].


رؤية حاج حمد

في كتابه الضخم الذي حاول فيه تأسيس قراءة معرفية جديدة للقرآن يرى الدكتور محمد أبو القاسم حاج حمد أن هذه القراءة الجديدة يجب أن تتأسس على جدلية مبنية على ثلاثة أضلع هي الغيب والإنسان والطبيعة، ومثل هذه القراءة تتطلب الكشف عن المنطق الكامن خلف الخطابات المتعددة للنص القرآني. جدلية حاج حمد تختلف هنا من حيث المنظور عن المحاولات التي استخدمت الديالكتيك الماركسي أو الهيجلي لبيان العلاقة بين القرآن والتاريخ أو البيئة التي أنزل فيها، مثل قراءات نصر حامد أبو زيد بل استخدمها حاج حمد المنهج الجدلي لبيان المنهج المنطقي الذي تأسست عليه الخطابات المتعددة داخل النص القرآني نفسه. انطلق حاج حمد في مهمته هذه في مواجهة عدة استلابات منطقية أو خطابية يراها مورست باسم الآيات القرآنية.

هذه الاستلابات – بحسب رؤية حاج حمد – هي استلاب حرية الإنسان بمنطق العبودية، واستلاب النزوع العمل، واستلاب حق الإنسان في السيادة والتشريع، وتبعًا لذلك استلاب حقوق الأقلية غير المسلمة السياسية، واستلاب المرأة وحقوقها، واستلاب الفعل الحضاري، وقوة العمل، واستلاب فهم الإرادة الإلهية، واستلاب الأخلاق، واستلاب يمارس على الاعتقاد من منظور صراع الحضارات، واستلاب عرقي بمفاهيم الشعب المختار، واستلاب يرى بأزلية التفرقة بين الجماعات، واستلاب يرى تأصيل الأضحية البشرية كأصل تفرع عنه القربان بالأضحية!

في مواجهة هذه «الاستلابات» يرى حاج حمد ضرورة قراءة القرآن من منطق جدلي يرى تطور الوعي والقيمة، ويدرك تعدد الخطابات داخل النص القرآني. إن منطق هذه الخطابات ليس منطقاً بسيطاً أو ذا صبغة واحدة بل هو منطق مركب ومتعدد يخدم الخطابات والمهام المختلفة التي يؤديها هذا النص المقدس. يمكننا اكتشاف هذا التعدد المنطقي من خلال التناقض بين القراءة الأرسطية للغزالي مقابل النقد الرواقي لابن تيمية [7].

المراجع
  1. علاقة علم أصول الفقه بعلم المنطق، وائل الحارثي، مركز نماء للبحوث والدراسات،39
  2. علاقة علم أصول الفقه بعلم المنطق، وائل الحارثي، مركز نماء للبحوث والدراسات، 46
  3. بحث في المعنى والصدق، برتراند راسل، المنظمة العربية للترجمة، مقدمة المترجم.
  4. القسطاس المستقيم، أبو حامد الغزالي، 14
  5. بحث في المعنى والصدق، برتراند راسل، المنظمة العربية للترجمة، 32
  6. نقد ابن تيمية للمنطق الأرسطي ومشروعه المضاد
  7. العالمية الإسلامية الثانية، محمد أبو القاسم حاج حمد، الطبعة الثالثة، مؤسسة مؤمنون بلا حدود