لماذا أصبح صيام شهر رمضان أمرًا ثقيلًا على نفس كثير من المسلمين المعاصرين؟ قد يبدو السؤال صادمًا في أول نظرة، وقد يبدو غير ذي موضوع لدى الكثيرين. لكن لعلك، إن لم تكن تخبر ثقل الصيام بنفسك، قد شاهدت زميلًا في العمل يتذمر من امتناعه عن المأكل والمشرب ما إن أُعلن أن رمضان قد اقترب، أو لعلك رأيت من يدعو الله أن يمرَ الشهر مرور الكرام في سرعةٍ. فما الذي يحدث؟ وهل يمكن اعتبار ذلك الأمر «ظاهرة» تستحق التوقف عندها؟ وهل لتصورات الحداثة الغربية والرأسمالية دور في ذلك كله؟


ثَـقُـلَ الشهرُ علينا!

في المأثور الإسلامي أن صحابة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ومن تبعهم كانوا يقضون الأشهر قبل رمضان في الدعاء أن يبلّغهم الله رمضان، ثم يدعونه في الأشهر التي تليه أن يتقبل منهم عملهم الصالح طوال ذلك الشهر [1]. وشاهد الأثر أن رمضان كان شهرًا يستعد له ويسعد به المسلمون طوال العام. لكن في وقتنا الراهن تنقلب الآية بشكل لافت؛ فهناك ظاهرة عامة لدى كثير من المسلمين تتمثل في أن الاستعداد لشهر رمضان أصبحت حماسة الإقبال عليه تقل في السنوات الأخيرة بشكل لافت، وغيره من السلوكيات التي تعكس رغبة في أن يمضي الشهر حتى يعود المرء لما كان عليه قبله. وينضاف لذلك أمر غاية في الأهمية، ألا وهو: التساؤل المستمر، والذي زاد صداه جدًا في الآونة الأخيرة على شبكات التواصل الاجتماعي وبرامج الإفتاء، حول جدوى الصيام أصلًا!

يجتمع إلى ضبابية غاية الصيام لدى كثير من الناس انفجار في ظواهر جديدة، مثل المسلسلات التليفزيونية التي أصبح الشهر مقترنًا بها فُسميت «مسلسلات رمضان»، والاستعدادات الاقتصادية الكبرى.

إن المأثورات الإسلامية حول فرحة المسلم بقدوم شهر رمضان كثيرة، ويمكن أن يُفهم من ظاهر بعضها إلى جانب المسكوت عنه في بعضها الآخر أن جدوى الشهر وغايته كانتا واضحتين، فهناك آيات فرض الصيام بسورة البقرة، وهناك عشرات الأحاديث التي توضح غاية الصوم (التقوى، الصبر… وغير ذلك)، وهناك مئات العلماء والشراح الذين سعوا لتبيين أحكام الصيام وغاياته [2]؛ الأمر الذي يجعل من المؤكد أن غاية صيام شهر رمضان كانت واضحة كل الوضوح في المجتمعات الإسلامية في العصور السابقة. لكن أصبح لشهر رمضان تفسيرات فردية تتعدد بتعدد الصائمين في وقتنا الحالي، فمنها أن الصيام يقوي البدن، ومنها أن الصيام يجعل الغني يُشارك الفقير، ومنها ما بلغ أن الصيام أمر إلهي لا يُطلب له تفسير! وغني عن البيان أنه متى غابت غاية أمر ما، أو تعددت تبريراته بشكل محير، رأينا في نفس المقبل عليه قلقًا وحيرة.

ويجتمع إلى ضبابية غاية الصيام لدى كثير من الناس انفجار في ظواهر لا تخفى على أحدٍ؛ منها: المسلسلات التليفزيونية التي أصبح الشهر مقترنًا بها، فُسميت «مسلسلات رمضان»، الاستعدادات الاقتصادية الكبرى لاستقبال الشهر؛ فالشهر أصبح مستودعًا لاستهلاك أكبر عدد ممكن من المأكولات والمشروبات؛ وهو الأمر الذي حوَّل رمضان إلى «موسم» للبيع والشراء، والأسئلة المتكررة حول بعض المنتجات الاستهلاكية بعينها، كالسجائر مثلًا، وهل هي من مفسدات الصيام أم لا. يجمع تلك الظواهر أمر واحد؛ وهو التفكير المنتمي إلى عقلية السوق النيوليبرالية. تلك العقلية التي تسعى إلى التغلب على القلق والغموض بكثرة الاستهلاك. ولكن كيف أصبح ذلك ممكنًا؛ كيف دخل شهر رمضان إلى السوق النيوليبرالية؟


الإنسان الحديث بين الألم والحرية

ينتج كل سياق فكري تصورات عن الإنسان وطبيعته. وعلى هذه التصورات عن طبيعة الإنسان يبدأ كل سياق فكري في خلع تصورات أخرى تتعلق بما يجب على الإنسان فعله وما يجب أن يتجنبه، تصورات عن مبدئه، وتصورات عن غايته إن وجدت. وقد أنتج التصور الحديث – نسبةً إلى الحداثة الغربية – عن الإنسان رؤية مفادها أن ذات الإنسان ذات سيادية على نفسها، ويشكل كل ما قد خرج عنها تهديدًا لها تسعى دومًا نحو تجنبه بهدف تمكين نفسها لزيادة قوتها، ونحو تخفيف الألم. فالألم في التصور الحديث أمر لابد من الفرار منه؛ فمن غير الممكن، بالنسبة لهذا التصور، أن يُوجد إنسان سوي يختار أن يتحمل ألمًا كان من الممكن له أن يتجنبه من جهة، ومن أخرى يُعد الألم دومًا شيئًا خارجًا عن الذات الإنسانية [3]. ومن هنا جاء تشديد ذلك التصور على أن الجسد الإنساني مستودع الصحة والقوة، وأن الألم والمرض دخيل عليه؛ وهو متى دخل عليه يجب بإجراءات معينة أن يُقتلع ويُتخلص منه. بل وصل الأمر ببعضهم إلى اعتبار الموت، والذي يُمثل له قمة الألم، أمرًا يُمكن للطب البشري أن يتخلص منه في المستقبل [4].

كذلك، يُخلع على هذا التصور عن الإنسان تصور آخر يؤكد حريته المطلقة؛ حرية الإنسان في أن يفعل ما يحلو له في أي وقت يريد. وقد شكّل هذان التصوران، بالتحديد، البنية الذهنية التي استطاعت الرأسمالية بمراحلها المختلفة استغلالها بشكل يخدم مصالحها. ففي مرحلة الرأسمالية الثقيلة، بلغة «زيجمونت باومن»، كان الهدف إيجاد مُنتِج منضبط يعمل في مصنع لإخراج أكبر عدد ممكن من المنتجات، وقد وظفت لذلك تلك الرأسمالية الأشخاص لإقناعهم بأنهم يجب عليهم التمتع بصحة قوية وأن يتجنبوا كل مواطن الألم ويخضعوا لفحص طبي مستمر؛ حتى يتوفَّرَ لها منتجون أصحاء قادرون على تحمل العمل ومتطلباته. وفي مرحلتها الخفيفة، احتاجت الرأسمالية، أو النيوليبرالية بشكل أدق، إلى مستهلكين أكثر مرونة؛ فهم يجب أن يتمتعوا بجسد رشيق يمكنهم من التحرك المستمر والسعي نحو شراء المنتجات لضمان مرونة أجسادهم، كما أنها احتاجت لمستهلك يسيطر عليه الإيمان بالحرية المطلقة [5]، وهو ما يجب التوقف عنده.

إن الحرية المطلقة في ذلك التصور، وفي الواقع العالمي الراهن، ليست أمرًا إيجابيًّا على الدوام. فالإنسان المعاصر يؤمن بأنه يستطيع متى أراد أن يُصبح أي شيء لأنه حر وصاحب سيادة على نفسه من جهة، ولكن العالم من حوله عالم مضطرب تغيب فيه سلطة الإرشاد وسلطة تعليم الحسن من القبيح، أو النافع من الضار، كذلك تملأ هذا العالم منتجات ولذائذ لا تعد ولا تحصى من جهة أخرى. وينشأ عن هذا الواقع العالمي حول الإنسان المؤمن بذلك النوع من الحرية شعور بالقلق الدائم والحيرة، فمادام كل شيء مباح وممكن، فلن توجد لحظة اكتمال أبدًا، إذ إنه متى وصل الإنسان لشيء ظن أنه سيكتمل عنده أو به، ستسنح أمامه إمكانية جديدة لشيء آخر أكثر وأبعد، وهكذا [6]؛ فالحياة الاجتماعية الراهنة لا تعترف بالغايات الكبرى، ولا بالاكتمال، كما أنها لا تعترف بإمكانية وجود ألم يحث الإنسان على التواصل مع المقدس.

أما التصور الإسلامي فيختلفُ تمامًا، فالذات فيه تسعى عبر الألم نفسه إلى تزويد نفسها بالفضائل الأساسية حتى تبلغ غاية وجودها [7]. فمثلًا يسعى المسلم عبر التخلي عن لذائذ بعينها إلى ترويض نفسه وتعليمها فضيلتي الصبر والتقوى؛ الأمر الذي يجعله يبلغ غاية وجوده، وهي أن يصير عبدًا لله كما يريد الله منه. ولكن يبدو أن التصور الحديث أقرب لواقع المسلمين في العالم العربي من ذلك التصور الإسلامي، فكيف حدث ذلك؟


الصيام السائل

نتج عن تصورات الحداثة عن الإنسان رؤية مفادها أن ذات الإنسان ذات سيادية على نفسها، ويشكل كل ما قد خرج عنها تهديدًا لها تسعى دومًا نحو تجنبه بهدف تمكين نفسها لزيادة قوتها، ونحو تخفيف الألم.

عبر مئات السنين من الاحتلال الغربي للعالم الإسلامي، وعبر عشرات الصدمات الاجتماعية، وفي خلال عقود من الاستبداد والقمع، دخلت تصورات كثيرة للنسق الفكري الإسلامي على كل المقاييس دون نقد، وبتقبل تام. ومن هذه الدخائل؛ التصورات الحديثة عن الإنسان كما مرّ بنا، وقد تبلورت تلك التصورات بشكل كبير في الظاهرة التي أطلق عليها «باتريك هايني» ظاهرة «إسلام السوق». إن إسلام السوق يعني أنماطًا جديدة من التدين الإسلامي ارتبطت في عملية معقدة بالأسس الفلسفية للسوق الاقتصادي مثل الحرية المطلقة، والنزعة الاستهلاكية [8]. ويشير «هايني» إلى أن تلك الظاهرة قد نتجت من خلال تراجع النسق الإسلامي التقليدي لصالح بروز طبقات اجتماعية من التجار العالميين والمحليين على السواء حوَّلوا التدين إلى معروض يجب عليه أن يتماشى مع أذواق المستهلكين؛ فهم أخضعوا الديني للاقتصادي، الذي يحمل بدوره التصورات السابق ذكرها [9].

المسلم الذي يحيا في الوقت الراهن غلبت عليه عدة مؤثرات جعلته يشعر بغياب الغايات الكبرى، وضرورة الاستهلاك الدائم لكل شيء بما في ذلك المشاعر مثل الحب والكره.

لم يتحدث «هايني» عن الصيام، ولكن يمكن فهم ثقل الصيام من المنطلقات السابق ذكرها. فالإنسان المسلم الذي يحيا في الوقت الراهن قد غلبت عليه عدة مؤثرات جعلته يشعر بغياب الغايات الكبرى بشكل عام، وبضرورة الاستهلاك الدائم لكل شيء؛ هنا الاستهلاك لا يعني فقط للمأكل والمشرب والملبس، بل أيضًا للمشاعر مثل الحب والكره. كذلك فغياب الغايات، وبحضور رغبة في الحصول على حرية مطلقة، أصبح لا يوجد مكان للألم في التجربة الإسلامية التي تعرّضت لتلك المؤثرات؛ وبالتالي، أصبح الصيام أمرًا مؤلمًا بلا غاية واضحة. ولكن صيام رمضان فريضة مؤكدة في الإسلام، وعدم القيام بها لا يتأتى إلا بمن يريد ذلك في جدالات طويلة ومعقدة، فما الحل إذن؛ كيف يمكن لذات تعتبر الصيام أمرًا مؤلمًا بلا غاية، ولكنها مع ذلك تعرف أن عليها تأديته، أن تتعامل معه؟

الإجابة موجودة في القلب من المنطق الرأسمالي: فقط قم بتشييئ الصيام؛ أي حوله إلى شيء يمكن التلاعب به وتشكيله كي يُلائمك. فنهار رمضان يُصبح بذلك المنطق مجرد وقت يجب أن يمر بأي وسيلة؛ فهناك الطبخ الدائم، وهناك النشاطات الرياضية المستمرة، وهناك النوم أيضًا. أما ليله، فهناك المسلسلات والنزهات والمقاهي، بل هناك البحث عن المساجد التي تُقصر في الصلاة حتى يُتاح وقت لممارسة كل ما قد ذُكر.

فلا عجب، إذن، في أن يُمثل رمضان وقتًا حرجًا وثقيلًا لدى الكثيرين. ولا عجب في أن تزداد المسلسلات والاستهلاك بشكل عام في ذلك الشهر بالتحديد. فليس الأمر أن عقدة الإيمان قد انحلت، ولا أن هناك مؤامرة، ولا أن الأمر بلا تفسير، ولكن هناك طبقات من التصورات والمؤثرات الرأسمالية والعلمانية المختلفة تشكلت عبر عشرات من السنين حولت رمضان إلى شهر ثقيل على النفس!

المراجع
  1. المتقي الهندي، «كنز الأعمال في سنن الأقوال والأفعال»، تحقيق: صفوت السقا وبكري الحياني، (مؤسسة الرسالة، الطبعة الخامسة، 1985)، الجزء الثامن، كتاب الصوم. بدايةً من صـ 580
  2. انظر مثلاً: عبد الرحمن حسن حبنكة، «الصيام ورمضان في السنة والقرآن»، (دمشق: دار القلم، الطبعة الأولى، 1987)
  3. طلال أسد، «تشكلات العلمانية في المسيحية والإسلام والحداثة»، ترجمة دينا حسن فرختو، (بيروت: جسور للترجمة والنشر، 2016)، صـ 122
  4. Svetozar Minkov, «Francis Bacon’s Inquiry Touching Human Nature», (USA: Lexington Books, 2010), p.97
  5. زيجمونت باومن، «الحداثة السائلة»، ترجمة حجاج أبو جبر، (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2016)، صـ 105-110، صـ 130-135
  6. المرجع السابق، صـ: 126-129-138
  7. طلال أسد، «تشكلات العلمانية»، صـ 138-140
  8. باتريك هايني، »إسلام السوق «، ترجمة: عومرية سلطاني، (القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى، 2015)، صـ 26