تنويه: هذه المراجعة تجنبت حرق أحداث الفيلم وحرصت على الاكتفاء بالحد الأدنى من الأحداث التي ظهرت في الإعلان التشويقي للفيلم.

تحدث في العالم الكثير من المآسي، وكل المآسي قبيحة خاصة تلك التي تتعلق بالأطفال، أما أن تخرج من المأساة بشيء جميل فهذا هو ما لا يقدر عليه الكثيرون. فيلم «Lion» المأخوذ عن كتاب «Long Way Home» عن قصة حياة مؤلفه «سارو بريرلي»، استطاع أن يخرج من المأساة عملاً رقيقاً متقناً يجبرك على التفاعل معه، ويجبرك على أن ترى المأساة بعيني من عاشوها ويعيشونها كل يوم.

الفيلم يدور حول طفل صغير يبلغ من العمر خمس سنوات يسمى «سارو»، يتركه أخوه الأكبر «جودو» نائماً على مقعد في محطة قطارات ويذهب للبحث عن عمل، يفيق «سارو» فجأة ليجد نفسه وحيداً في المحطة فيذهب للبحث عن أخيه في القطار المتوقف على الرصيف وفجأة ينطلق القطار ليجد «سارو» نفسه على بعد ألف وثمانمائة كيلومتر عن وطنه، يضيع الصغير لمدة شهرين في الشوارع يقاسي فيها كل ما يمكن أن يقتل طفلاً صغيراً حتى يسوقه القدر لملجأ أطفال فقير يرى فيه أنواعاً أخرى من الصعوبات حتى يتبناه أبوان أستراليان ويأخذانه بعيدا.

يكبر «سارو» الطفل ليصبح شابا متألقا ويبدأ في رحلة البحث عن ذويه الحقيقيين، ليكتشف في النهاية أن اسمه ليس «سارو»، ولكنه تاه صغيرا وكان ينطق اسمه بشكل خاطئ، واسمه الحقيقي هو «شيرو» ما يعني «أسد»، ومن هنا جاء اسم الفيلم «Lion».


طرفا العالم الواسع

الجزء الأول من الفيلم يدور في الهند، الهند الفقيرة ذات الأحياء الشعبية القذرة والبشر المغبرين، لا نرى الهند ذات الألوان البراقة، والرقصات الجميلة، والفتيات الفاتنات، حتى الملابس المبهجة لا تجد لها سبيلا وسط كل هذا البؤس، فأم «سارو» الصغير كانت ترتدي الساري الهندي باهت اللون فوق ملابسها المتسخة وتذهب لتعمل في حمل الصخور، ولكن للغرابة، هناك شيء ما جميل جدا في كل هذا القبح.

استطاعت الكاميرا أن تلتقط معنى الوطن المتواري وسط الفقر والقبح والمعاناة، الوطن الذي كان قاسيا على الصغير وأخيه، والذي يضيع فيه أكثر من ثمانية آلاف طفل مثل «سارو» سنويا، الوطن الذي لم يستطع «سارو» أن يعود إليه رغم محاولاته، ورغم بحث أمه المستمر بين جنباته عن طفلها التائه.

ينتقل الفيلم في نصفه الثاني لأستراليا حيث يعيش أبوا «سارو» بالتبني، الوطن الذي قدم له كل شيء لم يكن ليحصل عليه لو لم يضع، استطاع الفيلم أن يقدم النقيضين دون أن تشعر بالغرابة، الوطن ذو الحالة المذرية الذي يقسو على أطفاله والوطن الآخر الذي يحنو على المعوزين. استطاع مخرج الفيلم «جراث ديفيد» أن يخلق توازناً عالي الحرفية بين العالمين لشخص ينتمي إليهما معا، ولم يبالغ في إظهار التناقض ليقول للعالم هذا هو التخلف بعينه وهذا هو التحضر المطلق، بل استطاع أن ينقل المشاهد بقلبه للعالمين دون إفراط في الدرامية، فكان الوطن الأول جميلا رغم قبحه، وكان الوطن الثاني ناقصا رغم مثاليته.


ماذا قدم الفيلم؟

في أثناء رحلة الطفل القصيرة في الضياع يقابل فتاة طيبة، تساعده وتحممه وتقدم له الطعام وتعده بتقديمه لرجل سيساعده، وتحتضنه حتى يغرق في النعاس، ثم يجيء الصباح ليقابل الطفل رجلا يسمى «راما» يشك في نواياه تجاهه فيهرب مرة أخرى للشارع.

هذا الجزء لا يستغرق دقائق قليلة من زمن الفيلم، ولكن يمكننا منه استخلاص معنى الحقيقة، اسم «راما» في الهند هو اسم إله شهير، والفتاة كانت طيبة وجميلة، ولكن الحقيقة تقول إن الأشياء الظاهرة يجب ألا نأخذها على محمل الجد، فلم يثق «سارو» بالرجل الذي يحمل اسم إله ولا في عذوبة ضحكة الفتاة التي ساعدته، دقائق قليلة تحمل رسالة مهمة للغاية يعيش البشر دهرا طويلا دون أن يكتشفوها.

يمرر الفيلم رسائل كثيرة في طياته دون الكثير من الإسهاب والتنظير، فيلتقطها المشاهد دون عناء أو شعور أن صناع الفيلم قاموا بدور المعلم الناصح، فمثلاً أخو «سارو» بالتبني لم يكن طفلا سهل المراس، وكبر ليكون شابا يمكنك أن تصفه بالفساد، ولكن المخرج استطاع أن يجعلنا نتعاطف معه عن طريق حوار الأم مع «سارو» عن سبب تبنيها واختيارها لهما دون سواهما.


قطع الحلوى الحقيقية

أن تصنع شيئا جميلا هذا صعب، ولكن أن تصنع شيئا جميلا ذا رسالة واضحة فهذا هو الأصعب، الفيلم لا يمرر رسائل عن التقبل والاختلاف والخير والشر فقط، فهو يروج أيضا للمؤسسة التي أنشأها «سارو بريرلي» الحقيقي رجل الأعمال الناجح لمساعدة الأطفال المشردين في الهند ويناشد المجتمع أن يشارك معهم في هذا العمل الصعب، الأصعب أن يكون هذا الفيلم فائق الجمال فيلم ذا إنتاج مستقل، فالفيلم إنتاج مشترك بين أستراليا وبريطانيا وأمريكا، الأجمل على الإطلاق أن يلاقي الفيلم ورسالته هذا الصدى الحسن لدى المشاهدين.

في الفيلم قام الطفل «صني باوار» بدور «سارو» الصغير وكان أداؤه إعجازيا حقا، وقد أوصل للمشاهد كل عاطفة أراد صناع الفيلم توصيلها، رغم أنها تجربته الأولى في التمثيل، حتى نظراته الصامتة كانت عاملا مهما في نجاحه في أداء الدور، أما «سارو» الشاب فقد قام بدوره «ديف باتيل» الذي كان موفقا جدا في توصيل حالة الصراع النفسي الذي ينتاب شابا لديه كل ما يتمناه، ولكنه يشعر أن هناك شيئا مهما يجب أن يقوم به، أداء استحق عليه ترشيحا ثمينا للأوسكار.

ربما كان من أفضل مشاهده في الفيلم على الإطلاق هو مشهده أمام شاشة الكمبيوتر عندما يعثر أخيرا على وطنه، مشهد صامت لم يتفوه فيه «باتيل» بأي كلمة، فقط عينان تذرفان دمعا صامتا وأنفاسا متلاحقة، أما «نيكول كيدمان» في دور أم سارو بالتبني فقد كانت رائعة إلي حد اقتناص ترشيح رابع للأوسكار، ربما نعزو هذا لكونها أما بالتبني فعلا لطفلين في الحقيقة، فالمشاهد لابد أن يشعر أنها تعرف حقا ما تتحدث عنه، أما «جودو» الذي لعب دور الأخ الأكبر فقد قام بأداء دوره «أبيشيك بهرات» في أولى تجاربه في التمثيل أيضا وقد كان رائعا كما لو أنه ممثلا متمرسا مع أنها كانت أولى تجاربه على الإطلاق مثل أخيه في الفيلم «سارو» الصغير أيضا.

كانت آخر كلمات «سارو» الصغير لأخيه قبل أن يضيع هي أن يجلب له ألفي قطعة من الحلوى التي لا يملكون ثمن شرائها، وتاه قبل أن يحصل عليها، وهي التي أعادته لوطنه عندما عثر عليها في مطبخ أصدقائه الهنود، وحتى لو لم يحصل «سارو» على حلواه تلك، فقد كان كل مشهد من مشاهد الفيلم بمثابة قطعة حلوى جميلة المذاق، تستحق الطريق الشاق الذي قطعه «سارو» الحقيقي من أجلها.