على الرغم من الفكرة الجذابة شديدة الخصوصية والتفرد الذي ينطلق منه الكاتب «أحمد عبد المنعم رمضان» في روايته الجديدة «رسائل سبتمبر»، الصادرة مؤخرًا عن دار «توبقال» بالمغرب، فإن الكاتب لم يستغرق في تفاصيل فكرته بأكثر مما تحتاج، ولم يستطرد في سرد حكايات غير مهمة تخرج بالعمل عن مساره، وإنما حرص كل الحرص على أن يلتزم بشروط عمله الروائي، حيث يمسك بشخصياته المحددة بإحكام، وينتقل بين أحداثٍ ومواقف تدور كلها حول الحدث الرئيس، دون أن يفلت القارئ من يده طوال الرواية، أضف إلى ذلك أن الرواية لم تتجاوز مائة صفحة.

تدور الرواية حول رسائل من «عزرائيل» ملك الموت يتلقاها المواطنون في «القاهرة» قبل وفاتهم بيومين خلال شهر «سبتمبر»، ويصادف أن يكون أول من تقبض روحه بعد هذه الرسالة مرشح رئاسي اسمه «إسماعيل الفايد»، وينتشر الخبر بين الناس، وتفشل «الحكومة» -كالعادة- في مواجهة الأمر، فتلجأ بدلا من ذلك لإلهاء الناس بسن قوانين غريبة، مثل قانون «الدهشة» الذي يفرض على أي مواطن يندهش من أي تصرف أو موقف أن يعاقب بالسجن فورًا.

تدور الرواية في عالمٍ يراوح بين الدستوبيا والفانتازيا بذكاء، حيث نجد أبطال الرواية رغم أنهم يعيشون في «القاهرة» وفي عصرٍ قريب من الوقت الحالي (حيث يأتي ذكر الثورة وتجاوزها بأعوام) وتفاصيل مكانية محددة (شارع فيصل، والدقي، وسينما التحرير)، إلا أنه أصبح لديهم شيء اسمه «القناع» الذي يتعاملون من خلاله: قناع للغضب، وقناع للحزن، وأشهر تلك الأقنعة هو «قناع الابتسام» الذي يجعلهم مبتسمين ابتسامة باردة طوال الوقت، والذي يصادف أن يختفي من المدينة أيضًا في ذلك الشهر، ليس هذا فحسب، بل إن الرواية تتصدّر بخبرٍ شديد الأهمية تدور حوله تجربة الرواية كلها، كحكاية يود الكاتب أن ينقلها لأحد رواد المقهى:

كان الرئيس قد أصدر قراره منذ أيام بمنع تداول أو نشر أي قصص أو حكايات غير موثقة، ولم يكن يقصد القصص الإخبارية كما ظننا أولا، بل كان يقصد القصص كلها، لم يمهلنا الزمان طويلا قبل أن يتحرّك وزراؤه ويقوموا بجمع كل روايات نجيب محفوظ وقصص يوسف إدريس وأشعار صلاح عبد الصبور شارعين في إعدامها، خوت كل المكتبات من كل المؤلفات الخيالية والإبداعية المخالفة لرؤية الحكومة، واحتلت رفوفها مجموعة من الكتب المتشابهة، استثنى الرئيس في قرار تكميلي قائمة قصيرة بالكتب المحددة اسمًا، تصدرتها السلسلة الكاملة لرجل المستحيل.

هكذا يجد الراوي نفسه مضطرًا لأن يحكي تلك الحكاية التي كان شاهدًا عليها، حكاية «رسائل سبتمبر» الغريبة التي جعلت الناس تفكّر في الموت بشكلٍ مختلف، وجعلتنا نتعرف على حكاية الإعلامي «زياد الشافعي» وحبيبته «ليلى السحّار» وغيرهم من أبطال الرواية، ونخوض معهم تلك المغامرة الخاصة في استكشاف سر تلك الرسائل، وكيف سيواجه الناس شبح الموت الذي أصبح قريبًا منهم إلى الدرجة التي تجعله يرسل رسالة بخط يده يستلمها كل ميت قبيل وفاته!

يقسِّم «أحمد عبد المنعم» روايته إلى فصول بأسماء أبطالها أو بالإشارة إليهم كما في فصلين «هؤلاء» و«مارة وسائقون»، ويلجأ إلى السارد العليم المحيط بأخبار شخصياته ونفسياتهم ودوافعهم، شارحًا ما يقومون به مبررًا أفعالهم، متداخلاً أحيانًا مع القارئ في نوعٍ من «كسر الإيهام» حينما يتحدث عن شخصية «ليلى» مثلاً فيقول (أعلم أن صورة ليلى تبدو ملائكية وأعلم أنه ما من مخلوق بتلك المثالية، لابد أن لها عيوبًا لا أراها الآن.. قد يكون مرضها أو ألمها قد أغشى عيني عن عيوبها …) أو حينما يوضّح أجزاءً محذوفة من رسالة «زياد» إلى ملك الموت، وغير ذلك، وهكذا يحيط السارد بعوالم شخصيات روايته ويعرضها متصلةً منفصلة بشكلٍ موجز، يتيح له سهولة الانتقال بين الأحداث والشخصيات باتزان.

تدور الرواية حول عالم الموت والقتل، والتفكير في نهاية الحياة والمصير المحتوم على الجميع، وهل هناك سبل لمواجهته، بذلك الافتراض الذي تضعه أن الأشخاص سيعرفون موعد موتهم قبلها بيومين، ولكنها تعرج أيضًا على وصف المجتمع ومشكلاته وعلاقات الناس بعضهم ببعض وتعاملاتهم، وأثرها في تلك الحياة التي قد يرفضونها، يتحدث «زياد» مع «ليلى» فيعرض تصوراته عن المجتمع كما يراها ويلاحظها:

خلال سنواتٍ قليلة سينفتح المجتمع المصري بشكل مذهل، فتأتي الفتاة بعشاقها إلى المنزل وتعرب لأهلها عن ارتباطها العاطفي والجنسي بفلان أو علان، تمامًا مثل المجتمعات الغربية، دلل على فكرته بأن الانفتاح الحاصل في الغرب لم يستغرق إلا عقودًا معدودة حتى أصبح عاديًا ومقبولاً، ولكن ليلى عارضته، قالت إن الوضع لن يصل أبدًا إلى هذا الحال، فبعض التقاليد ستظل باقية، على أقل تقدير سيتم الأمر بمعزلٍ عن الأهالي، تحت غطاء من السرية المفضوحة من الجميع ولكن دون تصريح، سرحت قليلا وهي تقول إنها لا تتخيّل أن تأتيها ابنتها ذات يومٍ مفصحةً عن علاقتها الجنسية بصديقها، قال زياد ضاحكًا أو صديقتها، تقززت ليلى وقالت إنها لا تحتمل تخيّل ذلك.

تظهر في الرواية شخصيات أخرى تحتل مكانًا مميزًا مثل الممثل «عمرو الراوي» الذي يزعم الراوي أنه كان زميلا «لحسني مبارك» و«إيهاب نافع» في سلاح الطيران، ثم توجه للتمثيل ولمع نجمه بعد الثورة وعاد للخفوت ثانية حتى جاءته رسالة الموت تلك فقرر أن يظهر للناس في برنامج تلفزيوني، وكذلك شخصية مثل السياسي «رؤوف غالي» الذي تشبه صفاته الكثير من المحللين السياسيين الذين يرتادون القنوات ويحللون المواقف طوال الوقت ويزعمون الخبرة والعلم ببواطن الأمور، وتأتي «رسالة عزرائيل» تلك لكي يكشف أخيرًا عن أمورٍ ربما يعرفها الجميع ولكنهم يفاجئون بها صادرة منه!

ولكن الموت يبقى مسيطرًا، ورسائل «عزرائيل» تبدو مؤرقة أكثر، لاسيما حينما يحتاج «زياد» إليه في مهمة خاصة جدًا، تبدو من وجهة نظره مهمة إنسانية، مما يدفع للتفكير المختلف في الموت، وطريقة مواجهته، وهل يمكن لنا أن نتصدى له حقًا، ماذا يمكن أن نستفيد من علاقتنا به؟ هنا تبرز شخصية أخرى في العمل، شخصية «منصور حرب» ذلك القاتل المأجور الذي حمل سمات الخير فهو المجرم الشريف تجعله يشبه «أدهم الشرقاوي» و«أرسين لوبين» و«روبن هود» وغيرهم من الأبطال الشعبيين، تلك الشخصية التي تقترب من عالم الموت لكونه قاتلا، ويزعم في الوقت نفسه صلته الوطيدة بقابض الأرواح نفسه «عزرائيل»، ولكن ما الذي جعل «منصور» ذلك القاتل المحترف؟!

أرجعت الحكايات اتخاذ منصور لهذا الطريق إلى أسبابٍ متباينة وقصص متضاربة، فالبعض يتحدث عن طرده من عمله تعنتًا حتى بات لا يجد قوت يومه، وأشار آخرون إلى أن موت ابنته في المستشفى بعدما فشل في توفير مصاريف علاجها، ولكن ظلت القصة الأكثر شيوعًا وانتشارًا هي تعرضه لخيانةٍ زوجية هزّت كيانه وكشفت العالم أمام عينيه.. وظلت كل القصص بلا أي سندٍ حقيقي سوى حرفيّة صياغتها، وظل كل مواطن يقتنع بما يروق له من قصص!

وهكذا يبدو التركيز كبيرًا على «الحكاية» وقدرتها على الإيهام «بالحقيقة»، وكيف أن درجة التصديق كلها تعتمد على «حرفية الصياغة» وهو ما يجعل الناس يتقبلون هذه الحكايات ويتداولونها، ولهذا ربما تمنعها السلطات في آخر الأمر! لا تغرق الرواية في فكرة «انتظار الموت» أو تنجرف إلى الجانب «الوعظي» مثلا الذي يبدو جذابًا أكثر في مثل تلك الحالة، ولكنه يلجأ فقط إلى رصد ردود الأفعال بعناية، ويفاجئ القارئ أن الحالة تنتهي بنهاية شهر «سبتمبر»!

تبقى المتعة الكبرى في الرواية متمثلة في حالة «اللعب» التي يخلقها الكاتب مع القارئ، وفي الانتقال به ومعه بين شخصيات الرواية التي نتعرف على جوانب محددة من شخصياتها ونتفاعل معها بشكل كبير، دون أن نفقد الفكرة الأساسية التي تدور حولها الرواية، بالإضافة إلى أن كل ذلك جاء في ذلك العدد المحدود من الصفحات، كما أنها تناقش عددًا من الأفكار المتعلقة بالحياة والمجتمع والزمن وعلاقتنا بهم بشكلٍ مكثّف وذكي.

وهكذا يبدو «أحمد عبد المنعم» في النهاية أحد الأصوات الشابة الواعدة القادرة على كتابة رواية متقنة ترقى لمستوى الكتابات العالمية وتذكرنا بروايات «ساراماجو» و”ميلان كونديرا» في الروايات التي تحمل أفكارًا مبتكرة، ولكن بنكهةٍ مصرية خالصة، تجدر الإشارة إلى أن «رسائل سبتمبر» هي الرواية الثانية لأحمد عبد المنعم، سبقها روايته «رائحة مولانا» التي صدرت في 2010 وتنبأ فيها بالثورة، والتي اعتمد فيها أيضًا على فكرة خاصة دار حولها بإتقان، وهي فكرة أن يكون للحاكم أو السلطان «رائحة مميزة»، تلك «الرائحة» التي تأتي الإشارة إليها بشكل عابر في هذه الرواية أيضًا.

«رسائل سبتمبر» صادرة عن دار توبقال بالمغرب، صدر لأحمد عبد المنعم قبلها مجموعة قصصية بعنوان «في مواجهة شون كونري»، كما حصل على المركز الثاني في مسابقة أخبار الأدب 2015 عن مجموعته «أحلام الدوبلير».