يقول «كونديرا»؛ إن «المجاز شيء خطير،الحُب يبدأ بالاستعارات»

في عالم ماديّ كابوسي قريب من عالمنا،تدور أحداث رواية «هيا نشتر شاعرا»، للكاتب البرتغالي «أفونسو كروش»، ترجمة «عبد الجليل العربي». يتناول «كروش» معضلة ماذا لو اختفى الفن والشِعر من العالم، وعشنا في حالة جَدب شِعري وعاطفي، وغنائي؟ وما هي الأهمية الحقيقة للفن؟ ولماذا لا يُعتبر الفن سلعة كأي سلعة في حالات الانهيارات الاقتصادية؟ لماذا لا يوازي بناء مصانع بناء سينما ومتاحف وتأسيس دور نشر، وتنشيط حركة الترجمة؟

إذا بحثنا عن نشأة الفن فسنجد أن الإنسان البدائي جنس «الكرومانيون» ترك جداريات، ومنحوتات جمالية، ورسوما لحيوانات على جدران الكهوف، وهو يوحي بصورة ما أن الإنسان جُبل على حب الفنون، وكانت تمثل له احتياجا أساسيا.

في رواية «هيا نشتر شاعرا» يخضع العالم كله لنظام رقمي صارم، حتى أسمائهم استبدلوا بها أرقاما، لم تعد هناك ضرورة شعرية، ولم يعد هناك أهمية كبرى للرسامين أو الشعراء، أصبحوا موجودين فقط كسَمك الزينة.

كل الأشياء المعنوية أصبحت تقاس بالجرام، أصبح الحب يُقاس بالنسب المئوية، أما الحزن فأصبح يقاس بالميلليليترات، فيقال «ذرَفت مليليترا من الدموع»، يقاس الجوع بالمليجرامات، يشاهد الناس في التلفزيونات على الدوام استعراضات هيكلها هو الأوراق المالية والمعاملات التجارية، يحيّي الناس بعضهم بعبارة نمو وازدهار كأنهم يعملون في بورصة أوراق تجارية، أصبحت غاية الحياة هي الربح فحسب.

اختفت الاستعارات وشاعرية الكلام، وجماليات التعابير اللغوية، واستحالت العواطف إلى أرقام، طرأت تغيرات قبيحة على اللغة، فالاصطلاحات مثل «على رءوسهم الطير» تُفهم بمعناها الحرفي، ولم تعد الورود تتكلم، ولا الدعاسيق تنثر الحب، نفدت كل ألعاب اللغة.


الشِعر يضرنا كثيرا

شخصيات الرواية يشبهون الربوتات، بلا أسماء ككل الناس في العالم الرقمي، يعانون من حالة إفلاس للتذوق الفني والجمالي، ولا يرون ضررا في ذلك.

رغبت الابنة بطلة الرواية في شراء شاعر، لإحساسها بضرورة الاستعارات في حياتها، وأسوة بصديقاتها اللاتي اشترين نحاتين، ورسامين، اشترت شاعراً وفاضلت بين كل الماركات، جلبت شاعرا، من المحل، وضعته في المنزل ليمارس مهمته غير الضرورية.

جيل الأب، الذي عاصر الكِنايات، قبل حقبة موت الشعر، مازال يستخدم بصورة ضئيلة تراكيب مثل «شَد الحزام»، للدلالة على التقشف، ولكن الأجيال الصغيرة، لا تعي ما علاقة الحزام بالتقشف، فهو يستخدم لشَد السراويل، أدت الترجمة الحرفية إلى حدوث بلبلة مثل البلبلة اللغوية التي أعقبت انهيار برج بابل، فأصبح كل شخص يتكلم بلغة مختلفة.

أما عن الضيف الجديد وهو الشاعر، فأصبح يؤلف أبياتا يجدها في أبسط الأشياء، يجد الشِعر في كل شيء، مختبئا تحت قدم مائدة، ومعلقا على النافذة التي تطل على البحر.

أما أهل المنزل ما زالوا مشغولين بمحاولة عَد القصيدة، أو إخضاعها للنظام الرقمي الذي يسيطر على العالم، تسرّبت الشاعرية منه لأهل البيت، فأصبحوا يعون معنى المجاز، ولكنهم مازلوا يعتقدون أن مثل هذه الأشياء لا تجلب النفع.


الشعر قبل الأرباح

في مديح الشِعر يقول كروش:

الشِعر إصبع مغروس في الواقع، والشاعر كمن يخرج من الحمّام، ويمرر يده على المرآة المكدرة، ليكشف وجهه

استعان كروش بأبيات لبول سيلان، والت وايتمان، رامون جوميز دي لاسيرا، هنري ميشو، بوكوفسكي، على لسان الشخصيات، ليجعلهم يشاركون في الرواية، أو ليستنطقهم في محاولة لإرغام أبطال الرواية على ممارسة الشِعر.

يرى كروش أن الخيال أيضا يمكن أن يدر ربحا، يقول:

في الجزء الأخير من الرواية الذي حمل عنوان «ما يشبه الخاتمة» وهو جزء تقريري، منفصل عن أحداث الرواية، يقول كروش لو أن الثقافة غير مهمّة، لما تم حرق مكتبة الإسكندرية عدة مرات، أو تدمير بوذا باميان، وآثار تدمر، الخيال أيضا يمكن أن يدر ربحا، فنحن لم نولد بمعاطف من فرو، إنما المخيلة تبني بجانب التفكير العلمي، ويستعين بمقولة هولدرين «كلّ ما يبقى يؤسسه الشعراء»، ليؤكد أن المجتمع يصبح أفضل، فقط عندما نتخيل أنه أفضل، فكل ما نراه حولنا من طاولات وفوانيس وأقلام لم يولد معنا إنما هو نتاج خيالنا في البدء.

ويعرض كروش دراسة تقول إن مصاريف البرتغاليين في الثقافة عام 1988 كانت تمثل 3%، وتقول نفس الدراسة إن النسبة آخذة في الصعود حتى 5%، من الدخل الوطني.

ومنذ أربع سنوات وفرّت الحكومة البرتغالية 0.04% نسبة للثقافة، وهو رقم آخذ في الارتفاع منذ عام 2000، وتقول الدراسة إن قطاع الثقافة يدر دخلا يفوق قطاعات مثل الزراعة، والصناعات الغذائية، فبصورة برجماتية بحتة، وبعيدا عن احتياجنا لجماليات الفن، وبغض النظر عن قول إليوت: «الإنسانية لا تتحمل كثيرا من الواقع»، ولو أننا تغاضينا عن رفاهيات مثل السعادة التي يشبعها الفن، فإن غياب الاستثمار في الثقافة يُعد جهلا مدقعا، لأن الشعر يمكنه أن ينقذ العالم.


ماذا عن مصر

الخيال ليس هروبا من القبح، ومن الرعب، ومن المظالم الاجتماعية، هو بالضبط تصميم لبناء بديل، هندسة فرضيّة لمجتمع أكثر انسجامًا.

إذا قمنا بمحاكاة الفصل الأخير في الرواية، لنعرف كم تصرف مصر على الثقافة سنويا،فسنجد أن ميزانية وزارة الثقافة في العام المالي (2014/2015)بلغت نحو مليار و350 ألف جنيه، وهو ما يعادل نسبة 0.12% من إجمالي الموازنة العامة للدولة، يذهب منها نحو 85% أجور للعاملين بالوزارة والبالغ عددهم 34 ألف موظف. وبهذا يصبح نصيب المواطن المصري من المنتج الثقافي -بعد خفض أجور الموظفين- هو جنيه و80 قرشا في السنة، بمعدل 15 قرشا في الشهر حسب ما صرح به د.جابر عصفور وزير الثقافة السابق.

أما مكتبة الأسرة فانخفضت ميزانيتها، وأصبحت مليونين بعد أن كانت 8 ملايين، وكانت وزارة الثقافة تحصل على 10% من وزارة الآثار، حينما كانتا تحت اسم وزارة الثقافة والآثار.

وفيما يخص قطاعات وزارة الثقافة فقد أوصت لجنة الإعلام والثقافة والآثار بمجلس النواب عن مشروع الموازنة العامة للدولة للعام المالي 2016-2017 في تقريرها المعروض على لجنة الخطة والموازنة بزيادة الاعتمادات المالية للمهرجانات التي تشرف على إقامتها وزارة الثقافة بمبلغ 17 مليونا و500 ألف جنيه، بواقع 10 ملايين جنيه مخصصة لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي والمعاصر، ومبلغ 7 ملايين و500 ألف جنيه دعم إضافي للمهرجانات التي تمت خلال العام المالي الحالي، كما أوصت باعتماد مبلغ مليون و500 ألف جنيه لبند تدريب كل العاملين بالوزارة وهيئاتها.