لم تنته ثورة 25 يناير كما يتمني خصومها فعمر الثورات يقاس بالسنوات، ونجاحها أو فشلها يقاس بما حققته على الأرض من نتائج في النهاية.

وفي المرحلة الأولى من ثورتنا من يناير 2011 حتي يونيو 2013 حقق المصريون بعض النتائج الإيجابية لكنهم بالطبع لم يحققوا الأهداف النهائية للثورة بعد..

والسبب الأساسي لعدم تحقيق أهداف الثورة هو تكالب خصومها المحليين والإقليميين والدوليين عليها في ظل انقسام وفشل النخب السياسية في إدارة المرحلة الانتقالية..

من الأدوات الأساسية التي استخدمت في ضرب الثورة ترويج الأساطير والأكاذيب لإقناع الناس العاديين بفشل الثورة وضرورة دعم رئيس قوي يحقق الأمن والإستقرار

ومن الأدوات الأساسية التي استخدمت في ضرب الثورة ترويج الأساطير والأكاذيب لإقناع الناس العاديين بفشل الثورة وضرورة دعم رئيس قوي يحقق الأمن والإستقرار. وقد تم هذا بالأساس عن طريق الإعلام وللأسف أيضا من خلال السيطرة علي بعض الإعلاميين والأكاديميين والنخب السياسية..

وهناك في واقع الأمر عشرات الأكاذيب والأساطير مثل: (الثورة انتهت)، (الديمقراطية فشلت)، (لا جدوي من السلمية)، (الشعب لا يستحق التغيير)، (لا يوجد بدائل إذا سقط النظام الحالي)، (الإسلام يتناقض مع الحداثة والديمقراطية)، (لا حل للعرب والمسلمين إلا بالعلمانية على النمط الغربي)، (الشعوب العربية غير ناضجة للديمقراطية)، (الديمقراطية مذهب سياسي وصنعة غربية صرفة)، وغير ذلك. سأقف اليوم عند أربع أساطير فقط، علي أن نعود للبقية في مناسبات أخري.


1- الثورة انتهت

واقع الأمر أن ما حدث منذ يونيو ويوليو 2013 ليس نهاية الطريق. فلكل ثورة ثورتها المضادة. وما حدث يمثل مرحلة واحدة في طريق طويل، ونتيجة منطقية لما زرعته النخب من أخطاء.

لقد كانت مقدمات الانهيار واضحة وتم التحذير منها، والأهم أنه كان من الممكن تفاديها لو قرأت القوى السياسية الواقع جيدا واستوعبت دروس التغيير الأخرى. فلا فراغ في السياسة وكل ما نشهده من أحداث وظواهر ليس أمرا حتميا أبدا.

وبرغم عودة القبضة الأمنية بشكل شرس، إلا أن الثورة زرعت في نفوس الناس قيمتين أساسيتين، لا يمكن إزالتهما بسهولة، الأولى هي أن بإمكان الجماهير إسقاط النظام متى تكتلوا ضده، والثانية أن الثورة أظهرت للناس قيمة الحرية، ومن ذاق الحرية يوما يكون مستعدا للتضحية بكل شيء لاستردادها والحفاظ عليها.

إن اخفاق المرحلة الأولي لثورتنا يشير إلى أننا على موعد مع موجة ثورية جديدة ستكون أكثر راديكالية في وسائلها وأهدافها

والمقدمات التي أدت إلي ثورة يناير لازالت موجودة بل وصارت أكثر سوءا.

ونظرا لكثرة الأخطاء والانتهاكات التي ارتكبت منذ 30 يونيو، فإنني أقدر أن أعداد الغاضبين اليوم والواعين بأهمية التغيير تتزايد، وهي بشكل عام تتجاوز بكثير أعداد الغاضبين قبل 25 يناير 2011، وما التغيير إلا مسألة وقت. والقمع يؤخر الانفجار ويرفع تكلفة الثورة فقط لا غير، لأننا في زمن صار فيه الشباب أكثر وعيا وأكثر مهارة في استخدام أدوات السماوات المفتوحة والتي لاتفهمها الأجيال القديمة.

إن اخفاق المرحلة الأولي لثورتنا يشير إلى أننا على موعد مع موجة ثورية جديدة ستكون أكثر راديكالية في وسائلها وأهدافها، وستسهم في تخليص مصر والمنطقة العربية كلها من الإستبداد والفساد داخليا ومن التبعية والهيمنة خارجيا.


2- لا جدوي من السلمية

الواقع هو أن أي ثورة أو انتفاضة شعبية أو حركة تغيير لا تخلو من العنف. وقد شهدت الثورة المصرية قدرا من العنف في مرحلتها الأولى كحرق الأقسام ونهب الممتلكات وفتح السجون واستهداف الشرطة والجيش للمتظاهرين في مناسبات متعددة.

أما قياس البعض بأنه يمكن تكرار تجربة الثورة الإيرانية الآن فقياس غير دقيق؛ لأن الظروف مختلفة تماما، وأدوات الثورة الإيرانية ونخبها غير متوفرة. هذا ناهيك عن أن الثورة الإيرانية ذاتها ليست نموذجا للتغيير، فبرغم بعض النجاحات إلا أن الثمن كان باهضا وانتهى الأمر هناك إلى نظام جديد يبتعد في كثير من مكوناته عن حكم القانون والشورى وحماية الحريات.

المجتمعات التي تتغير بطرق عنيفة، أو تمر بحروب أهلية، قد لا تصل الى التغيير المنشود في المدى المتوسط، إذ عادة ينتهي الأمر الى نظام تسلطي جديد بواجهات ديمقراطية

وقد أثبتت تجارب الآخرين عدة أمور أتمني أن يفهمها الثوار جيدا:

  • أن التغيير غير العنيف أكثر فعالية لتغيير الأنظمة التسلطية إلي نظم ديمقراطية..
  • أن نجاح الحركات السلمية يتطلب التركيز علي هدف واحد استراتيجي هو تغيير جوهر النظام وترتيب الأولويات، ويتطلب أيضا أكبر قدر التعبئة، والمشاركة، والاستمرار في الاحتجاج الفردي والجماعي بكل الطرق الممكنة، ويحتاج إلى دعم خارجي دولي وحقوقي.

إن فشل الحركات السلمية وقمعها أمر ممكن، لكنه يؤدي في الغالب إلى ظهور حركات تغيير عنيفة. أي إن قمع النظام للحركات السلمية هو المسؤول الأول عن ظهور الحركات العنيفة التي تسعي لإسقاط النظام.

المجتمعات التي تتغير بطرق عنيفة، أو تمر بحروب أهلية، قد لا تصل الى التغيير المنشود في المدى المتوسط، إذ عادة ينتهي الأمر الى نظام تسلطي جديد بواجهات ديمقراطية كما الكثير من دول افريقيا.


3- الديمقراطية فشلت

واقع الأمر أننا لم نجرب الديمقراطية بعد أو لم نصل إليها لسببين على الأقل، أولهما أن الديمقراطية ليست مجرد إجراء انتخابات أو إدخال تعديلات على الدستور أو حتى وضع دستور جديد بأي طريقة من الطرق.فالوصول لنظام الحكم الديمقراطي يمر بمرحلة بناء وتأسيس الأطر الدستورية والقانونية والمؤسسية والرقابية، ووضع حوافز وعقوبات تدفع الناس دفعا إلى الإلتزام بمبادئ النظام وقواعده، وعملية البناء هذه تتطلب قدرا كبيرا من المشاركة والتوافق والنقاش.أما تعزيز النظام الديمقراطي فيتطلب في مرحلة لاحقة، أي بعد التأسيس، ترسيخ تلك الأطر وزرع ثقافة جديدة من خلال أدوات التنشئة والتعليم والإعلام، بجانب الشروع في معالجة القضايا الشائكة طويلة الأجل كقضية الهوية.أما السبب الثاني فهو أننا تعثرنا في مرحلة بناء الديمقراطية وارتكبت كل الأطراف تقريبا الكثير من الأخطاء ما مهّد الطريق أمام خصوم الديمقراطية للتكتل والانقضاض على الثورة.وباختصار شديد وحتى لا نعيد كتابة ما كتبناه مرارا منذ 12 فبراير 2011، كانت مرحلة البناء تحتاج لأربعة أمور على الأقل: التركيز على هدف استراتيجي هو بناء النظام البديل الذي يضمن سيادة القانون وحماية الحريات بضماناته المتعارف عليها وتحديد قواعد الممارسة السياسية كمقدمة لتمهيد الأرض لحسم القضايا الكنرى الأخري لاحقا؛ التكتل وعدم التنافس أثناء عملية البناء أي عدم بدء طريق التغيير باستفتاءات وانتخابات لأنها تفرز أوزانا نسبية ليس لها وظيفة إلا ترسيخ الخلافات؛ عدم تسييس مؤسسات الدولة الرسمية غير السياسية وخاصة العسكرية منها أو عقد صفقات معها أو الإستقواء بها ضد الخصم؛ وعدم تصور أنه يمكن حسم كافة القضايا الشائكة الداخلية والخارجية كقضية الهوية أو إعادة بناء السياسة الخارجية قبل تقوية الداخل بالقانون والحريات والمؤسسات.


4- الشعب لا يستحق التغيير

الديمقراطية ليست مجرد إجراء انتخابات أو إدخال تعديلات على الدستور أو حتى وضع دستور جديد بأي طريقة من الطرق

الواقع هو أن الكثير من أنظمة الحكم الفردي والشمولي والفاشي والعسكري تلقى دعما شعبيا. هذا أمر متكرر. ويمكن فهمه إذا أدركنا أن هناك مجتمعات تتعرض فعلا لانقسامات حقيقية كما كانت الانقسامات بين أنصار الملكية والتقاليد وأنصار التغيير والحداثة في أوروبا، أو بين اليسار واليمين في مجتمعات أمريكا اللاتينية.

كما أن هناك مجتمعات من السهل التأثير عليها (بالمال والإعلام) نظرا لارتفاع نسبة الأمية وشيوع الجهل بعد عقود من الإستبداد والإفساد كما العالم العربي الآن.

وما حدث عندنا هو نوع من التسميم السياسي. ويعني التسميم السياسي زرع أفكار معينة أو قيم دخيلة من خلال الخديعة وتكرار الأكاذيب، والعمل على تضخيم هذه القيم تدريجيا لتصبح قيم سائدة في المجتمع المستهدف. ولا يتم التسميم بشكل مباشر وإنما يتم استعمال نخب ثقافية وإعلامية وفئات مختارة، لتنقل لها –في مرحلة أولى- الأفكار الدخيلة، ثم تُترك هذه النخب والفئات –في مرحلة ثانية- لتنقل تلك الأفكار إلى الجماهير من خلال أدوات الدعاية والإعلام المختلفة.

التسميم السياسي يعني زرع أفكار معينة أو قيم دخيلة من خلال الخديعة وتكرار الأكاذيب، والعمل على تضخيم هذه القيم تدريجيا لتصبح قيم سائدة في المجتمع المستهدف

وفي معركة الشعوب العربية من أجل الكرامة والحرية والعدالة، استطاع خصوم الثورات والديمقراطية، وأنصارهم في الخارج، الترويج للكثير من الأساطير عرضنا لبعضها اليوم. وقد تعلقت شرائح متعددة بالأمل الذي روجته أجهزة الإعلام بقرب تحقيق الأمن والإستقرار، إلا أن فشل النظام يؤدي تدريجيا إلي تقلص هذه الشرائح. والمزاج العام في مصر بعد الثورة بشكل عام مزاج متقلب ومن الممكن أن يتحول للنقيض في أي وقت. وسيظل هذا المزاج على هذا النحو حتى يشعر الناس فعلا أن أهداف يناير في طريقها للتنفيذ.

وأخيرا، يمكن القول باختصار

إن ما نحن فيه ليس قدرا محتوما، وإنما هو نتاج اختياراتنا وحصاد تفاعلات المطالبين بالديمقراطية وخصومها.

والخروج من المشكلة له سننه أيضا، ولا يمكن تصور أننا سننجح بتكرار ذات الأساليب القديمة، أو بالاستمرار في تجاهل سنن التغيير وتجاهل الإستماع للمتخصصين، أو بالتعالي على أبجديات التخطيط وترتيب الأولويات ووضع البدائل والتدافع بآليات العصر.

ومن معارك الثورة ذات الأولوية معركة الوعي، ولهذا فإن كشف هذه الأساطير والعمل علي مواجهة تداعياتها من واجب الوقت. والله أعلم.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.