في فندق بوسط لندن، في إحدى ليالي شهر نوفمبر من عام 2006 كان ضابط المخابرات الروسي المنشق ألكسندر ليتفينينكو يجلس يتناول الشاي مع لوغوفوي وديميتري كوفتون، اللذين كانا أيضا ضابطين سابقين في المخابرات الروسية.

عقب ذلك اللقاء سقط ليتفينينكو مريضا، ثم توفي بعد ذلك بستة أيام، وإلى جانبه زوجته مارينا ووالده والتر وابنه أناتولي، بعد أن أعلن لوالده قبل يومين من وفاته أنه اعتنق الإسلام سرا منذ فترة طويلة. لتقام صلاة الغائب بعد ذلك على ليتفينينكو في الجامع الكبير بوسط لندن.

بين عام 2006 وعامنا الجاري جرت الكثير من المياه خلال نهر موسكافا التي بنيت موسكو على ضفافه وسميت باسمه، ولكن يظل الكشف عن أسباب حدث اغتيال ليتفينينكو، مفيدا حتى اليوم في تسليط الضوء على ملف شديد الأهمية، يتصل بفهم خلفية التفجيرات الانتحارية التي جرت في روسيا خلال السنوات الماضية، التي كان آخرها تفجير محطة مترو سان بطرسبرج في الـ 3 من أبريل/نيسان الجاري.


لماذا قتل بوتين «ألكسندر ليتفينينكو»؟

http://gty.im/72643078

في يناير/كانون الثاني من العام الماضي خلص تحقيق بريطاني إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وافق على الأرجح على قتل العميل السابق في جهاز الاستخبارات بالسم.

حيث أعرب قاضي التحقيق عن يقينه من أن أندريه لوغوفوي العميل السابق في جهاز الاستخبارات الروسي الذي أصبح اليوم نائب حزبٍ قومي ورجل الأعمال الروسي ديمتري كوفتون. وضعا مادة بولونيوم 210 في إبريق الشاي في 1 نوفمبر/ تشرين الثاني 2006. بنية تسميم ليتفيننكو.

بعد لجوئه أطلق ليتفينينكو «هجمات شخصية متكررة» ضد بوتين واتهمه بشكل خاص بالاعتداء الجنسي على أطفال.

وقد كان ليتفينينكو ضابطا في خدمة الأمن الفيدرالي الروسي (إف إس بي)، التي ورثت جهاز الكي جي بي، حيث تمت ترقيته لرتبة مقدم عندما تحولت الكي جي بي إلى الإف إس بي في تسعينيات القرن الماضي. وكان بوتين هو قائده الأعلى في الإف إس بي، ويتردد أن خلافا نشب بينهما حول الفساد داخل الجهاز.

تم تقديم ليتفينينكو بعد ذلك للمحاكمة التي أسفرت عن سجنه بضعة شهور، ثم أطلق سراحه لاحقا بعد أن وقع وثيقة تمنعه من مغادرة الأراضي الروسية. لكنه هرب بعد ذلك بصحبة زوجته الثانية ماريانا وابنه أناتولي إلى لندن سنة 2000 وتم منحه حق اللجوء سنة 2006، ثم حصل على الجنسية البريطانية، و هناك أطلق 2 من أشهر كتبه، إلى أن اغتيل في 23 نوفمبر 2006.

بعد لجوئه أطلق ليتفينينكو «هجمات شخصية متكررة» ضد بوتين و اتهمه بشكل خاص بالاعتداء الجنسي على أطفال.

ولكن ما يهمنا في سياق تناولنا الآن هو ما ذكره ليتفينينكو في كتابه «تفجير روسيا: الإرهاب من الداخل»، حيث ذكر الأخير أن المخابرات الروسية قامت بعمليات تفجير في روسيا لتحريض الشعب على الحرب على الأقليات المسلمة عبر إلصاق التهم بالمتمردين الشيشان.

حيث قام -بحسبه- عملاء الإف إس بي بتفجير شقق في موسكو ومدينتين أخريين عام 1999. وتم اتهام الانفصاليين الشيشان بالمسئولية عن تلك التفجيرات، التي استخدمت كذريعة لشن غزو روسي ثان للشيشان.


شهادات أخرى حول تورط بوتين في العديد من العمليات المشابهة

الجاسوس الروسي المنشق العقيد بوريس كاربيشكوف، اللاجئ مع عائلته في بريطانيا، أكد منذ فترة أن سقوط الطائرة الروسية في سيناء المصرية في نهاية أكتوبر /تشرين الأول العام الماضي كان سببه عملية استخباراتية روسية داخلية من جهاز الـ FSB، وريث جهاز الاستخبارات الشهير «كي جي بي»، للحصول على تفويض شعبي داخلي من جهة، ومبرر دولي من جهة أخرى للتدخل في سوريا.

وقد ذكر كاربيشكوف فى سياق اتهامه، بشكل مبكر استبق خلاله التحقيقات الجارية في الحادثة، معلومات تفصيلية من قبيل نوع الصاعق المستخدم في التفجير، ونوع المادة المتفجرة بالتحديد، وأرقام كراسي الطائرة وأسماء الركاب، بما يشير إلى أن لديه معلومات تفصيلية مسربة لديه عن العملية برمتها.

http://gty.im/495235234

يقول كاربيشكوف إن روسيا معتادة على مثل هذا النوع من العمليات السوداء، لتحقيق أهداف سياسية معينة، وللتأكيد على مصداقية أقواله، يشير الأخير أيضا في هذا الإطار إلى اتهام «بوتين» في 1999 بعد وصوله إلى السلطة، بتفجير 4 مجمعات سكنية كاملة في موسكو، وفي مدن أخرى مثل بايناكسك، وفولجودونسك، ما تسبب في مقتل 307 أشخاص بين رجال وشيوخ وأطفال ونساء، وسقوط 1700 جريح، في موجة تفجيرات مريبة، سارع «بوتين» بعدها باتهام إرهابيين شيشانيين بارتكابها لينفذ بعدها مباشرة تدخلا جويا مدمرا في الشيشان.

ولعل ما يعزز هذه القرائن التي تشير بأصابع الاتهام إلى الكريملين بالتورط في ذلك النوع من الأعمال هو عمليات الاغتيال التي طالت كل من سعى جديا في التشكيك بالرواية الروسية الرسمية حول حقيقة العمليات الإرهابية في الداخل الروسي خلال السنوات الماضية.

وأشهرهم في هذا الإطار الصحفية الروسية آنا بوليتكوفسكايا التي تلقت تهديدات بالموت قبل إطلاق النار عليها بمنزلها في موسكو في أكتوبر/تشرين الأول عام 2006، والمعارض الروسي البارز بوريس نيمتسوف الذي اغتيل بالقرب من الكرملين قبل يوم واحد من مظاهرة للمعارضة كانت تنوي تنظيمها ضد بوتين، فضلا عن المحامي الروسي المعروف ستانسلاف ماركيلوف، الذي تم إطلاق النار عليه بمسدس مزود بكاتم للصوت في مكان لا يبعد كثيرا عن مبنى المؤتمر الصحفي الذي عقده للحديث عن قضية متورط فيها ضابط روسي بجرائم بجمهورية الشيشان، وفضلاً بالنهاية عن ليفتينينكو نفسه.

واللافت عمليا في كل تلك الجرائم التي يتهم الكرملين بالتورط فيها، هو وجود عامل مشترك في مختلف تلك القضايا، هو الاتهام المباشر الذي وجهته المعارضة الروسية لرئيس جمهورية الشيشان رمضان قاديروف وثيق الصلة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حيث تتهم المعارضة الليبرالية الروسية قاديروف في هذا الإطار مجرد أداة بيد الكرملين، بينما لا يتوقف الأخير بدوره من جهة أخرى عن التصريح دائما بأنه مجرد جندي مشاة يأتمر بأمر بوتين.

ومن القضايا التي ربما تفوق الإدراك والتحمل في عالمنا العربي، ولا تكاد تصدق تقريبا في هذا السياق، ما ذكره ضابط المخابرات الروسي آنف الذكر ألكساندر ليتفينينكو في السابق عن وجود اتصالات غير معلنة بين أيمن الظواهري والمخابرات الروسية، تم تكوينها بين الطرفين بعد سجن الأخير لمدة ستة أشهر في روسيا بعد محاولته دخول داغستان بطريقة غير شرعية عام 1996.

ولا ينفي الظواهري بدوره حدوث واقعة الاعتقال، ولكنه يقول إن الروس لم يتعرفوا عليه، ولو صدق ما قاله لتفينينكو في المقابل، فستحتاج تلك القضية سنوات عديدة في العالم العربي حتى يتم البدء في استيعابها فقط.


تيسير السلطات الروسية السفر إلى سوريا للجهاديين

http://gty.im/83417857

يقاتل تحت راية تنظيم الدولة الإسلامية اليوم أكثر من ألفي مقاتل من روسيا في ساحات القتال بسوريا والعراق، كما تعد اللغة الروسية ثاني أكثر اللغات شيوعا بين المقاتلين الأجانب في التنظيم.

عدد كبير من هؤلاء المقاتلين من المسلمين قدموا من شمال القوقاز، إذ تزايد انتشارهم بقوة منذ تسعينيات القرن الماضي، وفقا لما نشرته صحيفة Newsweek الأمريكية.

مما يعزز الاتهامات الموجهة إلى موسكو في إطار تناولنا هنا، صدور تقارير تتحدث عن تسهيل الأخيرة لسفر المتشددين الروس إلى سوريا بحسب وكالة رويترز التي أعدت تحقيقا استقصائيا في هذا السياق عن 5 جهاديين مطلوبين أمنيا لدى السلطات الروسية ذهبوا إلى سوريا من خلال عقدهم صفقات ترحيل، ومنحهم جوازات سفر جديدة بأسماء جديدة، وتذاكر سفر بلا عودة إلى إسطنبول أو دمشق على سبيل المثال.

حيث كان السماح للجهاديين بمغادرة روسيا كان خيارا مريحا بالنسبة لهم وللسلطات على حد سواء، فقد قاتل الجانبان بعضهما بعضا في منطقة شمال القوقاز ذات الأغلبية المسلمة، ووصلا لطريق مسدود.

هذا لاسيما أيضا أنه في عام 2013 بدأ الجهاديون بالتهديد بمهاجمة الألعاب الأولمبية في سوتشي وبثوا مقاطع فيديو لتهديداتهم على الإنترنت. وهو هجوم لو حدث، كان ليحرج روسيا على الساحة الدولية، فكان الأيسر أمام السلطات هناك، تفريغ الساحة الروسية من الجهاديين على المدى القصير، من خلال إرسالهم إلى ميادين القتال في سوريا، لضمان أمن الألعاب الأوليمبية.


عملية محطة مترو سان بطرسبرج

تناول ألكساندر ليتفينينكو في السابق وجود اتصالات غير معلنة بين أيمن الظواهري والمخابرات الروسية

http://gty.im/664901918

ختاما وفي ضوء ما أسلفناه عن ضلوع الاستخبارات الروسية في توظيف الجهاديين الروس ومن جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، لم يكن حدث عملية سان بطرسبرج المشتبه في تنفيذه، الروسي من أصل قرغيزي أكبرجون جاليلوف، المولود في مدينة أوش في قرغيزستان في عام 1995. استثناء في هذا الإطار، حيث جاء الهجوم بعد موجة من التظاهرات ضد الرئيس بوتين في الأيام والأسابيع الماضية أسفرت عن اعتقال مئات المعارضين في روسيا.

ولا يبدو بعيدا في ضوء الاتهامات السابقة أن يكون هذا الاحتمال المطروح واردا في احتمالات قراءتنا لذلك الحدث، لاسيما أننا أمام نمط آخذ في التشكل ليس على المستوى الروسي وحسب، ولكن على مستويات إقليمية ودولية أخرى، يوظف الإرهاب وعمليات العنف لخدمة مصالح دولية وداخلية متشابكة ومعقدة، وأغراض سياسية شتى للعديد من أنظمة الحكم حول العالم.