الحرب تأكل كلَّ شيء؛ ومع نهاية الحرب العالمية الأولى، كانت ثروة الأب العجوز قد تآكلت، واضطر الصبي «كارل» أن يترك منزل والده ليستقل بنفسه بعد أن أشفق على والده من الأعباء المادية. أقام «كارل» في مستشفى عسكري مهجور، وعمل في عيادة النفساني «ألفرد أدلر»، إضافة إلى عدد من الوظائف الأخرى، من ضمنها… العمل مساعدًا لأحد النجارين، الذي كان رجلا معتدًا بآرائه واثقًا في معتقداته بصورة متطرفة؛ الأمر الذي سيكون له أثر كبير على شخصية «كارل بوبر»، رغم سذاجة وخواء معظم هذه الآراء.

ولد «كارل ريموند بوبر» في فيينا عام ١٩٠٢م، لعائلة تحولت من اليهودية إلى المسيحية، وحظي بدراسة موسوعية وفرها له والده أستاذ القانون والمحامي المثقف. وفي عام ١٩٢٨م، حصل على درجة الدكتوراة في مجال مناهج علم النفس الإدراكي، ونشر ملخصا لأول أعماله بعنوان «منطق البحث» عام ١٩٣٤م، قبل أن يصدره كاملا بعد أكثر من أربعين عاما بعنوان «المشكلتان الرئيستان في النظرية المعرفية». وبحلول عام ١٩٣٧م، هاجر «كارل بوبر» إلى نيوزيلاندا عقب اجتياح الألمان لوطنه، وهناك تولى التدريس في عدة جامعات، وألف كتابه «المجتمع المفتوح وأعداؤه»، الذي أكسبه شهرة عالمية بين الكُتّاب السياسيين. ثم عمل أستاذًا للمنطق والمناهج العلمية بجامعة لندن، قبل أن تتوج مسيرته بحصوله على لقب «سير» في عام ١٩٦٥م. ويعد النمساوي الإنجليزي «كارل بوبر» أهم فلاسفة العلم في القرن العشرين، كما أن له إسهامات هامة في السياسة والاجتماع.

توفي السير «كارل بوبر» في لندن عام ١٩٩٤م، وأحرق جثمانه ثم نقل ليدفن في فيينا، إلى جوار زوجته الراحلة.


«بوبر» والولع بالفنون

الأعمال الفنية المبهرة، مخلوقات مكتملة لا تقبل التعديل. هكذا يرى «كارل بوبر»، ويؤكّد في المقابل أن النظريات العلمية الرائعة دائما ما تظل قابلة للتعديل.

ورث «كارل» عن والدته «جيني شيف»، عازفة البيانو الماهرة، ولعها بالموسيقى، لدرجةٍ أوصلته إلى أن عزم على العمل كعازف محترف أكثر من مرة، كما اختار تاريخ الموسيقى موضوعًا ثانويًا لرسالته للدكتوراة. وفي فترة شبابه الماركسية، مال «كارل بوبر» إلى الموسيقى الطليعية (avant-garde)، لكنه سينفر منها فيما بعد مع نفوره من الفكر الماركسي برمّته. لذا، فولع «بوبر» بالموسيقى لم يكن في أغلب حياته ولعا بالموسيقى المعاصرة – آنذاك – بل بالكلاسيكية، واشتهر عنه تقديره البالغ لموسيقى «باخ»، و«شوبرت»، و«موتسارت»، في الوقت الذي آمن فيه بأن تسابق الموسيقيين المعاصرين على إنتاج أعمال «سابقة لعصرها» ما هو إلا صورة من صور إفساد تاريخانية الفنون.

وظلّ ولع «بوبر» بالموسيقى وممارستها، مصاحبًا له إلى أواخر حياته، ولم يرحل عن الدنيا إلا بعد أن حقق حلمه بتأليف مقطوعة موسيقية.

لكن، تظل العلوم هي أجمل فنون القرن العشرين في عين «كارل بوبر»، وأقربها إلى قلبه.


«بوبر» وفلسفة العلوم

ليس العلم – كما الفن والأدب– مجرد مغامرة للنفس البشرية، لكنه أحد العلوم الخلاقة، وربما الأكثر إنسانية: مليئ بالفشل وقصر النظر. إن العلم هو النتيجة المباشرة للكفاح البشري الأكثر إنسانية: الكفاح من أجل الحرية.
كارل بوبر

كان للتباين الصارخ بين الطبيعة غير العلمية لنظريات «فرويد» و«أدلر» في مجال علم النفس، وبين الثورة التي سببتها نسبية «أينشتين» في الفيزياء في أوائل القرن العشرين، أشد الأثر على «كارل بوبر»؛ فقد رأى أن النسبية تعاني تهديدا مستمرا من فيزياء نيوتن، التي تستطيع القضاء على النسبية كلها، بالبرهنة على خطأ فرضية واحدة، أما نظريات التحليل النفسي، فعلى العكس من ذلك، لا يمكن لشيء دحضها من الأساس. وهكذا استنتج «بوبر» أن نظريات التحليل النفسي أكثر شبها بالأساطير البدائية منها بالعلوم الحقيقية، وأن ما كان يُعد نقطة في صالح نظريات التحليل النفسي ما هو إلا نقطة ضعفها.

«ما زلت أعتبر مبدأ القابلية للتكذيب أساس فلسفتي»، هكذا يلخّص كارل بوبر الأمر ببساطة

ورغم أن النظرة الماركسية للتاريخ – التي كان يتبناها فترة – تختلف بعض الشيء عن نظريات التحليل النفسي، إلا أنها لم تكن علمية هي الأخرى، فقد رأى «كارل بوبر» أن الماركسية كانت في البدء علمية، حين كانت تنبؤية بامتياز، لكن عندما لم تصدق هذه التنبؤات، تم تعديلها بحيث تتوافق مع الحقائق الجديدة، ويتم حمايتها من «القابلية للتكذيب»، حينئذ رأى «بوبر» أن النظرية التي كانت في الأصل علمية، هبطت إلى مصاف أشباه العلوم.

يرى «كارل بوبر» أن مشكلة التمييز (demarcation) بين العلوم واللا علوم هي المشكلة المركزية في فلسفة العلم، ولقد تميز بين أقرانه المعاصرين بتبنيه نقد «ديفيد هيوم» للاستقراء (شروق الشمس كل يوم، لا يعتبر دليلا على أنها ستشرق غدا أيضا)، ليس ذلك فحسب، بل يرى أن الاستقراء لا يقع أبدا في الممارسة العلمية، ويصر على تخطئة «فرانسيس بيكون» و«نيوتن» في تبنيهما أسبقية الملاحظة كخطوة أولى في تكوين النظرية، فالملاحظات جميعها – عنده– انتقائية ومحملة بتحيزات نظرية مسبقة.

بالتالي، يرفض «كارل بوبر» النظرة التقليدية التي تعتبر المنهج الاستقرائي معيارًا للتمييز بين العلوم واللا علوم، فالعلم – عنده – ككل نشاط بشري آخر، يبدأ بمواجهة مشكلة، لا بتحصيل ملاحظة. وهنا يستبدل «بوبر» الاستقراء بالقابلية للتكذيب (Falsifiability)؛ فتعتبر النظرية علمية إذا كان يمكن دحضها بحدثٍ متصور الوقوع. وبهذا، يكون الاختبار الحقيقي لأي نظرية علمية هو محاولة لتكذيبها.

تتضمن كل نظرية علمية حظرا لوقوع حدث ما، بحيث يمكن اختبارها وتكذيبها، ويحذر «كارل بوبر» من اعتبار صمود النظرية أمام أدق الاختبارات وأشدها، دليلا على صحتها، بل يكسبها ذلك درجة عالية من التعزيز، فالتعزيز (Corroboration) ودرجاته هو ما يدلنا على النظرية الأكثر قربا من الحقيقة، وتعتبر أفضل النظريات المتاحة إلى أن يتم تكذيبها أخيرا، أو استبدالها بنظرية أفضل.

لكن القابلية للتكذيب ستواجه مشكلة بديهية فور محاولة تطبيقها على الرياضيات، فمن الصعب تصور خضوع مقولات بسيطة مثل (٢+٢=٤) لمبدأ القابلية للتكذيب، وبغير ذلك لا يمكن اعتبارها مقولة علمية، وبالتالي لا يمكن استخدامها لوصف أحداث في الواقع الذي نحياه. وهنا كانت إضافة «كارل بوبر» إلى فلسفة الرياضيات؛ حيث رأى أن بالإمكان فهم مقولة عددية مثل (تفاحتان + تفاحتان = ٤ تفاحات) بطريقتين. فهي مقولة صحيحة «منطقيا» ولا تقبل الدحض من جهة، وهي صحيحة «واقعيا» وتقبل التكذيب من جهة أخرى. وهكذا، تكون الحسابات من قبيل (٢+٢=٤) صحيحة دائما، لكنها معادلة قابلة للتكذيب عند تطبيقها على مفردات العالم الحقيقية.

واطّردت رؤية «كارل بوبر» إلى التقير بأن التقدم العلمي يواجه مشكلتين، أولهما هي الأيدلوجيات السائدة وما يحيط بها من تعصب، والثانية هي تحول النظرية العلمية إلى معتقد شعبي ومن ثم التعصب لها بما قد يعيق نقدها أو استبدالها إذا لزم الأمر.


الفلسفة الاجتماعية والسياسية

أثر تبني «كارل بوبر» للشيوعية – خلال فترة يسيرة من شبابه– على فلسفته، ففي هذه الفترة تعرف على الرؤية الماركسية للاقتصاد، والتاريخ، وصراع الطبقات. كان ذلك قبل أن ينفر من العنف والدماء التي رآها الماركسيون ضرورة في سبيل الثورة. إضافة إلى تأثره بفشل الأحزاب الديموقراطية في حماية السياسة النمساوية من الفاشية، مما أدى إلى سقوط النمسا في قبضة ألمانيا النازية، ومن ثم هجرته إلى نيوزيلاندا في عام ١٩٣٨م.

وقد ألهمته تلك الأحداث أهمَّ كتبه في علم الاجتماع: «فقر التاريخانية» (١٩٤٤م)، و«المجتمع المفتوح وأعداؤه» (١٩٤٥م). حيث مثلت رد فعل على هيمنة الشمولية على سياسات وسط أوروبا، فدافع فيها عن الليبرالية الديموقراطية كفلسفة اجتماعية وسياسية، وضمّنها نقدا قويا للأسس التي تقوم عليها الشمولية بتنويعاتها المختلفة.

وفي نقده للشمولية في كتاباته السياسية، تعداها «بوبر» إلى عدد من الدعائم الفكرية التي ترتكز عليها، مثل الكُلّانية (Holism)، والتي تعني – في هذا الموضع– أن الفهم الكامل لوظائف الأنظمة المتكاملة لا يتحقق بمجرد فهم عناصرها كل على حدة، أو أن قيمة التجمعات الاجتماعية البشرية أكبر من قيمة مجموع الأفراد، فهذه التجمعات عبارة عن كيانات «عضوية»، تؤثر في أفرادها من البشر وتشكل مصائرهم.

كما هاجم «بوبر» التاريخانية، وهي – عنده– النظرية التي تنص على أن التاريخ يتطور بالضرورة طبقا لقوانين عامة معلومة باتجاه نهاية أكيدة. وأشار إلى أن هذه الرؤية هي الفرضية الأساسية التي تنبني عليها معظم التصورات السلطوية والشمولية. ولما كان نمو المعرفة البشرية أحد عوامل تطور التاريخ الإنساني، ولما كانت كل المجتمعات عاجزة عن التنبوء بوضعها المستقبلي بطريقة علمية، كان إنتاج علم تنبؤي بالتاريخ الإنساني أمرا مستحيلا.

وخاض «كارل بوبر» في كتابه «المجتمع المفتوح» رحلة تنقيب عن جذور الشمولية، قادته إلى اليونان القديمة، ليشن هجوما على أفلاطون، معتبرا كتابه «الجمهورية» خيانة لسقراط، حيث عرضه كمؤيد للسياسات الشمولية، ومتأثرا بمجتمع سبارتا المغلق. وهناك، في ديموقراطية أثينا القرن الخامس قبل الميلاد، وجد «بوبر» ما اعتبره «أول مجتمع مفتوح»، وهو ما تمثله الديموقراطية الليبرالية الغربية، حيث تُطور مؤسسات الدولة والمجتمع من نفسها دون عنف أو دماء، ويتمتع المواطنون بحس نقدي تجاه المتوارث، وتتحلى الحكومة – ذات السياسات الشفافة والمرنة– بالتسامح.

ولم يكن رفض «كارل بوبر» للصهيونية وعداؤه لها لمجرد كونها إحدى صور التاريخانية، بل هو نابع من رفضه جميع صور القومية، والعنصرية أيضا، إلى درجة الشعور بالخجل من أصوله اليهودية، والإحساس بمسئوليته عن جرائم القومية الإسرائيلية.

أما عن التسامح، فكان «كارل بوبر» يرى عدم التسامح مع عدم التسامح، بمعنى أن تطبيق التسامح مع منهج غير متسامح قد يؤدي إلى انتصار الأخير، ومن ثم فناء الأول (التسامح)!


الأنطولوجيا والدراوينية والعلّة الكافية

لم يكن رفض «كارل بوبر» للصهيونية لمجرد كونها إحدى صور التاريخانية،وإنما لرفضه جميع صور القومية والعنصرية

الوجود، عند «كارل بوبر» ينقسم إلى ثلاثة عوالم:

أ‌) العالم الأول، وهو عالم الأشياء المادية، بما فيها الإنسان وكل ما يحيط به من موجودات.

ب‌) العالم الثاني، وهو عالم الانطباعات والخبرات الذاتية التي تتركها مفردات العالم الأول في الإنسان، مثل المشاعر، والذاكرة، والمعرفة بصورة عامة.

ت‌) العالم الثالث، وهو الإسهام البشري الناتج عن تفاعل العالم الثاني مع الأول، كالنظريات، والمؤلفات، والنظم، والصناعات، والأعمال الفنية.

أما «الداروينية»، فكان يرى أنها ليست بعلم قابل للاختبار، بل هي برنامج بحث ميتافيزيقي، أو «إطار محتمل لنظريات علمية قابلة للاختبار»، لكنه – رغم ذلك– شكر لها مساهماتها في إثراء المعرفة الإنسانية منذ ظهورها، أما الإجابة التي تقدمها الأديان فوجدها أقرب إلى الطرح التثبيطي، الذي يغري بوقف البحث، بزعمها تقديم تفسير نهائي. غير أنه في المقابل يؤكّد: «رغم عدم تأييدي للأديان، فإني أرى ضرورة احترام أي شخص صادق الإيمان».

وفيما يخصّ مبدأ العلة الكافية (principle of sufficient reason)، يعتقد «كارل بوبر» أن مبدأ زائف، ويعتبره سبب ضلال الفلسفة التقليدية، فليس بالإمكان إثبات صحة أي افتراض أبدا، بل على النظريات أن تختبر، فنحن لا نسعى إلى نظريات ثابتة أو مبررة، بل إلى نظريات تحوي عدد أقل من الأخطاء.

المراجع
  1. Popper, Karl. (1945). The Open Society and Its Enemies
  2. Karl Popper: Political Philosophy
  3. Karl Popper – Stanford Encyclopedia of Philosophy