في نهاية شباط من السنة الماضية بدأ طلاب الجامعة الأردنية اعتصامهم المفتوح المطالب بإلغاء قرار رفع الرسوم الصادر في حزيران من عام 2014، وتكلل الاعتصام بالنجاح الهائل سواء بالنتائج التي حققها أو بالزخم الإعلامي حوله، أو بتثبيت نفسه كنموذج لحراك اجتماعي ناجح، بعد فشل الحراك الأردني في مرحلة الربيع العربي.

ربما دائمًا تعد الاستدعاءات التاريخية مثالية، حتى في استدعاء الجانب السيء لتجاوزه والبناء عليه، ويصبح رفض هذا الجانب هو المشترك وذلك في سبيل بناء وجهة نظر مثالية عن الحدث التاريخي في المجال المُتَداوِل له، وربما تصبح وجهة النظر هذه معيارًا لحالة نتجه نحو تحقيقها.

ويسعى هذا المقال لمحاولة رسم معالم وجهة النظر هذه، متجاوزًا كل ما يجول في عقل النخبة الطلابية – إن صحت التسمية- من نقد للحالة، معتمدًا على مخيلة الطلبة الذين شاركوا في الاعتصام ولم يكن لهم من الجدل القائم فيه أي نصيب.


الاعتصام المفتوح .. لماذا الذكرى؟

يتحول الاعتصام المفتوح هنا من ممارسة جمعية لمجموعة من الطلاب يطالبون بحقوقهم إلى مجموعة من المُثل يجب تحققها أو حالة مثالية يجب الوصول إليها. فلحظة الاعتصام كممارسة وسّعت تخيلنا عن الحالة المثالية، واليوم الحالة المثالية عليها توسيع الممارسة الفعلية وتحسينها.

فإذا كنا نقصر تفكيرنا قبل الاعتصام على تحقق مطالب فئوية، فاليوم نفكر بتأسيس لنظم تعيد إنتاج نفسها يكون الطالب هو صاحب القرار فيها، ما يتطلب توسيع للممارسات على المستوى التوعوي للطلاب وعلى مستوى مدى تأثير هذه الممارسات.

إذن تعمل ذكرى الاعتصام على إضفاء المعنى على ممارستنا الحقوقية، وإعادة إنتاج فهمنا لذاتنا كطلاب وكجزء أساسي من العملية التعليمية لا بل كعماد لها، وحتى تعيد إنتاج نظرة الآخر لنا – الإدارة الجامعية، الأمن الجامعي، الحكومة والنظام – من نظرة الطالب / المعلم إلى النظر إلينا كمشاركين في السلطة يجب الأخذ بما نقول والعمل به، وهذا كان واضحًا من خلال اختلاف التعامل مع القوى الطلابية واستشارتها في كل خطوة تخص الجسم الطلابي واهتمام الجامعة بالنقاش الطلابي الدائر وما ينتج من رأي عام، وحتى توسيع دائرة الاعتراض والمطالبة الحقوقية لدى الطلاب.

وتعمل ذكرى الاعتصام أيضا كتطوير للمثل التي نتخيلها للانتقال من حالة المطالب الفئوية إلى المطالب السياسية، التي تغير النظم إلى نظم تعيد إنتاج ذاتها، فالمطالبة يجب أن تكون بتشريع قوانين تمنع اللجوء إلى جيب الطالب في حالة عجز الميزاينة أو تقلل النفقات للهيئة الإدارية فتظل هذه النظم ثابتة، مما يتطلب توسيع الممارسة داخل الشارع الطلابي إلى إنتاج قوى طلابية سياسية تحمل هذه المشاريع وتدافع عنها ولا تقتصر على مطالبة حقوقية أو خدمة أكاديمية ضيقة.

وتوصلنا ذكرى الاعتصام بعد انقطاع مع التاريخ الكبير للحركة الطلابية الأردنية والعربية والعالمية، والتي كانت رأس هرم الحركات الوطنية في بلدانها، ليستطيع الطالب تخيل نفسه كفاعل أساسي في عملية التغيير الاجتماعي والسياسي.


عن ماهية الاعتصام المفتوح

ربما التجلي الأكبر للاعتصام كان ذا طابع حقوقي مطلبي، وحتى الترويج له أخد أيضًا هذا الطابع، لكن إذا كان كما يقال عن السياسة أنها «فن الممكن» فلم يكن يوجد فعل أكثر سياسية منه، وتجليته بطابع حقوقي إنما هي استغلال المساحات المتاحة، وربما الفعل السياسي الأهم كان اللعب على التناقضات داخل السلطة التي فهمها الطلاب جيدًا، لم يكن المشهد بهذا التبسيط الموجود في مقالات الكتّاب إنما كانت حالة مركبة من الوعي الذي لا يتعاطى مع الواقع برومانسية الحراكيين والداعين إلى التسييس المعلن، والمهم أن نبيّنه هنا أنه لو لم تأخذ المطالبة بعدًا سياسيًا، حتى لو كان مخفيًا، لتركت لتموت.

ولعل من أبرز القضايا الجوهرية للاعتصام هي تجليته للمجال العام الأردني، كما لم تستطع قضايا أخرى، من خلال الزخم الإعلامي الذي صنعه وبالتالي بيان أهمية هذا المجال كمجال يتم فيه نقاش عام حول قضية ما، ويضفي هذا النقاش المعنى والشرعية على ممارستنا داخل المجتمع، وعلى ذكرى الاعتصام اليوم أن تجعله يعي ذاته ومقدرته ومكانته الحقيقية في عمليات الإصلاح.


الذكرى كتأسيس لتجاوز الخطأ

إن من أهم ما عملت ذكرى الاعتصام على تجاوزه هو محاولة إسقاط وجهات النظر المتعددة عن الاعتصام، والعمل على دمجها في وجهة نظر واحدة، وإعطاء التمثيل للقوى الطلابية التي كانت وما زالت وستبقى في الشارع الطلابي ككيانات غير مشخصة تملك القدرة على حمل مشاريع إصلاحية لفترات زمنية طويلة .

إن من أهم المشاكل التي واجهت الحركات الإصلاحية العربية والأردنية تحول النضال والتحرك الحقوقي إلى مهنة وهوية تعريف، وإلى زيادة للرصيد الفردي وتحقيق امتلاء للذات بدل أن تكون مطالب تستلهم قيمًا عليا كالعدالة الاجتماعية ودفع الظلم عن المظلوم والمطالبة بالحريات، حيث أصبح الناشط عابرًا للاعتصامات والاحتجاجات، لا يمتلك دينًا ولا أيديولوجيا ولا رسالة سوى الظهور، هو فقط ناشط محترف كما وصفه الكاتب اللبناني طوني صغبيني في «لعنة الألفية »، وكما قال أيضاً: «بالنسبة للناشط المحترف النضال السياسي هو اختصاص عام أو ميزة فئة محددة من الناس وليس مرتبطًا بالضرورة بقناعاتهم الأيديولوجية أو بقضية يؤمنون ويلتزمون بها».

الأمر الذي يقلل اليوم من فاعلية الحركات الاجتماعية المطلبية والذي يغيّب القدرة على الموضوعية في صناعة الخطاب لتلك الحركات فالنطاق المركزي لذلك الخطاب هو إشباع الذات من خلال التصفيق الكبير من جمهور المحتجين، لا حساب فعلي لميزان القوى وتأثر الجهة المعترض عليها من هذا الاحتجاج، ولعلها المشكلة الأكبر التي واجهناها في الاعتصام وحالت دون مقدرة المراكمة على منجزاته، فالناشط المحترف لا يمتلك مشروع طويل المدى ولا أدوات تطبيقه، والمشاريع الإصلاحية غالبًا ما تتطلب تحشيد جماهيري حولها لتحقيق تضامن سياسي كبير ومجالات أوسع لاستعياب الناس الذين سينخرطون في النضال، وقياس واضح للقوة وبالتالي ضغط حقيقي على السلطة، وهذا ما لا يقدر عليه الناشط المحترف وتقدر عليه التنظيمات التي تمتلك قيادة واضحة تحاسب في حال الخطأ وتعزل، أما حالة اللاتنظيم ستترك المجال للأفراد الأقوى للقيادة دون مسمى وبالتالي دون محاسبة، وستجعل حالات الاحتجاج تنتهي ببوستات «جمعة مباركة» لا بالبناء الحقيقي على النتائج والتطوير عليها.

وبالتالي يجب علينا تجاوز مهاترات التسلق وركوب الموجة التي غالبًا ما تكون من الناشطين الذين أفل نجمهم وعلينا التمسك بمن سيتملك مشروع يبني ويراكم على منجزات الاعتصام وتحويل هذه المطالبات الحقوقية إلى أجندة إصلاح شاملة في السياسيات التعلمية، وللمجال العام أن يحدد مدى واقعية هذه المشاريع وأن ينتقي منها وذلك من خلال الانتخابات القادمة التي يجب أن تطرح فيها برامج تستلهم نموذج الاعتصام المفتوح من قبل القوى الطلابية.


مسارات العمل..نحو مفاهيم جديدة

ثمة إشارات كثيرة في التاريخ توضح أهمية الطلاب في الحركة الوطنية ومدى فعاليتهم فيها، وقد حاول الاعتصام تمثيل الحالة من خلال تعبيره عن المجتمع الأردني ككل ومن خلال مواجهة سياسة استنزاف جيب المواطن المتبعة في كتالوج الحكومات، وتعد الجامعة مجسمًا مصغرًا للمجتمع تدور فيها نفس الإشكالات وتوجد فيها نفس التقسيمات، لا بد إذا من جعل الاعتصام هو الفهم المشترك والمعبر عن مكانة الطالب في الحركة الوطنية التي تحمل هموم المجتمع على عاتقها، ويجب على القوى الطلابية أن تحمل مشروعًا يراكم الإنجازات التي تحققت في الاعتصام المفتوح ويطرح حلولًا للإشكالات المجتمعية انطلاقًا من الجامعة ومحاولة زيادة المركب السياسي في تعاطيها مع المطالبات الحقوقية، وبالتالي زيادة الوعي السياسي عند الطلاب .

على الحركة الطلابية اليوم أن تبتكر الأدوات الفاعلة غير تقليدية التي تجعل من الجامعة مكانًا يؤثر في صنع القرار الحكومي وأن لا تقتصر على الأدوات التقليدية المختزلة في الوقفات الاحتجاجية.

وأن تعيد إحياء ذاكرة الحركة الطلابية الممتدة عميقًا وتتصل بها ولا تكتفي بالعمل الأكاديمي الخدمي بل أن توظفه في الخدمة للتحشيد للمطالب السياسية التي كما ذكرنا أعلاه تنتج نظمًا ثابتة لا تتبدل بتبدل الأشخاص.

وأن تسعى هي لوضع مفاهيم لا التماهي مع المفاهيم المطروحة عليها، فالانتخابات تعبير عن الإرداة الطلابية لا ممحاصة بين القوى وهي حفظ للمؤسسات الطلابية ولمكانة الطلاب، ويجب أن يكون الاعتصام حاضرًا في البرامج الانتخابية للقوى.

وفي النهاية المجد لكل من شارك في الإنجاز الذي أعاد لنا موقعنا كطلاب وكحركة طلابية فاعلة في هذا الزمان والمكان.