لا ينظر جلال كشك إلى النفط العربي كمسألة محلية يجب تناولها بمعزل عن القضايا العربية الكبري، بل كمسألة قومية يجب أن يخطط لإدارتها وتنميتها نخبة من أفضل الخبراء والمفكرين العرب من البلدان النفطية وغير النفطية على السواء.

محمد جلال كشك مفكر مصري ولد بالمراغة بصعيد مصر عام 1929م وله منتجات فكرية ثرية أشهرها «ودخلت الخيل الأزهر». توفي عام 1993 م، وأوصى أن يُدفن معه في مقبرته ثلاثة كتب: «السعوديون والحل الإسلامي» و «ودخلت الخيل الأزهر» و «وقيل الحمد لله».


أوبك: نفط العرب ليس للعرب

ينظر جلال كشك إلى النفط العربي كمسألة قومية يجب أن يخطط لإدارتها وتنميتها نخبة من أفضل الخبراء والمفكرين العرب من البلدان النفطية وغير النفطية على السواء

يبدأ جلال كشك كتابه بالتأكيد على أهمية صياغة استراتيجية قومية نفطية، حدّد خطها الأساسي بشعار «نفط العرب للعرب»، أي نفط العرب لكل العرب. فالوحدة العربية تقتضي وحدة الموارد كما الواجبات، وهذا لا يعني فقط رفض التسليم بأن ينتقل مركز القرار العربي إلى دول النفط، بل المطالبة أيضا بألا تنفرد هذه الدول بتقرير سياسة النفط؛ فهي وإن قادتها الصدفة الجيولوجية إلى امتلاكها لآبار النفط، فإن النفط يظل أهم ورقة عربية، والعالم يحاسب العرب عليه، ويخطط ضد العرب، أو في مواجهتهم، أو إلى جانبهم، بسبب النفط.

في إبريل 1959 انعقد «المؤتمر الأول للبترول العربي» بمشاركة مندوبين عن الدول العربية النفطية وغير النفطية، ولعل أهم نتائجه كانت مجرد انعقاده، محاولة تعريب قضية النفط، جعلها اهتماما عربيا، بمعني إسقاط الإقليمية وتحطيم حصارها داخل الكيانات الهزيلة، مواجهة احتكار شركات النفط بالمائة مليون عربي.

وقد كان المؤتمر الأول والأخير! ففي سبتمبر 1960 أُعلن عن تأسيس منظمة «الدول المصدرة للنفط – الأوبك» التي كان أغلب دولها آنذاك على علاقة غير طيبة مع عبد الناصر ومصر. ورغم الاعتراف بأن الأوبك كان ولا يزال أغلب أعضائها من العرب، وأن الثقل العربي كان يزداد فيها يوما بعد يوم، وأنها فرضت -أو فُرض عليها- التأميم في النهاية، إلا أن أخطر ما أنتجته المنظمة هو إسقاط عروبة النفط، فقد صار القرار في النفط العربي يُتخذ من طهران وفنزويلا وأندونيسيا؛ وبدلا من إخضاع النفط لقيادة العرب الشرعية ممثلة في مجموع الأمة العربية، جرى العكس، وهو إخضاع القيادة لنفوذ النفط.

http://gty.im/453314633

يرى كشك أنه جرى -عمدا وبتخطيط من كيسنجر- نقل مركز الثقل العربي إلى دول لم تكن مهيئة بشريا وتاريخيا وجغرافيا للقيادة ولم تسع إليها، على حساب القوي العربية الرئيسية -مصر خصيصا- التي لم تكن مصدرة للنفط على نطاق واسع فلم تتبوأ موقعا في الأوبك أو النظام الجديد. فظهرت «دبلوماسية دفتر الشيكات» التي لا تجدي نفعًا ولا تحل مشكلة، أي صارت أموال الخليج عبئا عليها، وجعلتها عرضة للابتزاز، وجعل دعمها أشبه بالجزية. فكان النفط وسيلة «لتعطيل» القرار العربي بدل العكس. والحق أن تلك الدول لم تكن فقط الأقل قدرة على ممارسة ذلك الدور، بل والأقل رغبة كذلك، فقد حرصت على تفاديه، تاركة للأخوة حرية الممارسة إن شاءوا.


سنوات سِمان .. وسنوات عجاف

الوحدة العربية تقتضي وحدة الموارد كما الواجبات، وهذا يعني رفض التسليم بأن ينتقل مركز القرار العربي إلى دول النفط، والمطالبة بألا تنفرد بتقرير سياسته

يتطرق الكاتب إلى ارتفاع أسعار النفط في السبعينيات بعد قرار العرب حظر النفط على الدول المؤيدة لاسرائيل، ورفع الأسعار إبان حرب أكتوبر، وما تلا ذلك من تأثيرات اقتصادية دامت لنحو عقد من الزمان ظلت خلالها أصابع الاتهام -ظاهريًّا على الأقل- موجهة إلى العرب باعتبارهم المسؤول عما آلت إليه الأوضاع في العالم الصناعي، وظل خلالها العرب مزهويين بقدرتهم على التحكم في اقتصادات أوروبا وأمريكا وهم يتجشأون الخمور في حانات باريس، ثم الانخفاض الجنوني و انهيار سوق النفط في بداية الثمانينيات والذي بلغ ذروته في 1986 -وقت صدور الطبعة الأولي من الكتاب- فانقلب الزهو العربي حسرة، وانقلب الحقد الغربي شماتة. والحق أنه وخلال مرحلة الشماتة تلك، بدأت الحقائق تتكشف: فلا الإدارة الأمريكية كانت ممتعضة حقا من رفع السعر، ولا السعوديون رغبوا في ذلك كما كان شائعا.

ويمكن تلخيص الأسباب التي دفعت كيسنجر إلى التمسك بارتفاع الأسعار في ثلاثة أسباب:أولها: هو رفع السعر لصالح الاقتصاد الأمريكي لأنه يرهق اقتصادات المزاحمين. وقد نُقل عن كيسنجر أنه عندما طلب من الشركات التدخل لمنع رفع السعر، رفض ورد: «إن ارتفاع سعر الطاقة سيؤثر أساسًا على أوروبا واليابان. وربما يقوي هذا قدرة الولايات المتحدة على منافستهما».

فالولايات المتحدة كانت أقل دول العالم الصناعي اعتمادًا على النفط المستورد، وبالتالي فقد حدث ما أشار إليه كيسنجر وانكمش التقدم الياباني والألماني، وضعفت منافستهما للصناعة الأمريكية.

ثانيا: الرغبة في إفقاد العرب قدرتهم على استخدام النفط مجددًّا كسلاح.

http://gty.im/78737702

حيث عملت ماكينة الدعاية الأمريكية على تشويه صورة العرب، وحث الغرب عموما والأمريكان خصوصا على تقليل اعتمادهم على النفط -والنفط (العربي) تحديدا. فزاد الاعتماد على الطاقة المتجددة، واندفعالشركات إلى التنقيب عن النفط في بحر الشمال وآلاسكا، ودخلت نيجيريا على خط الدول المصدرة، وبعد أن كانت التوقعات أن العالم سيحتاج عشرين مليون برميل يوميا من السعودية، صار يضيق بثلاثة ملايين برميل يوميا، هي كل إنتاجها.

ثالثا: كانت الولايات المتحدة هي الرابح الاول من رفع سعر النفط، فاستثماراتها لها نصيب الأسد في نفط آلاسكا والمكسيك وكندا. والعالم يشتري النفط بالدولار، فكلما زاد حجم المدفوع ثمنا للنفط كلما زاد الطلب على الدولار فارتفع سعره عالميا.

وبعد أن كان الدولار في أضعف أوضاعه في مطلع السبعينيات، إذا به اليوم أقوي عملة! باختصار لقد خاضت الدول العربية معركة الإنتاج والأسعار، وخسرتها كالعادة!

والحقيقة أن السعوديون كانوا مدركين لخطورة رفع السعر، لكنهم لم يكونوا قادرين وحدهم على الوقوف في وجه باقي الدول المصدرة، وذلك أدعي للمؤاخذة، فأكبر العيوب هو نقص القادرين على الكمال، والعارفين بالصواب.


العربي يفوح نفطًا: سياسة دفتر الشيكات

ظل العرب مزهويين بقدرتهم على التحكم في اقتصادات أوروبا وأمريكا، ثم انهار سوق النفط في بداية الثمانينيات فانقلب الزهو العربي حسرة

أدت الوضعية الشاذة للنفط، بظهوره في مناطق قليلة السكان، وفي ظل المفهوم الإقليمي الضيق، ومع تدفق المال في ظل هزيمة شعارات العروبة، إلى تعرض الدول النفطية للابتزاز من دول عربية أخرى، سواء بالاستجداء أو التهديد. فنما النفور من الدعم أو الدفع باسم «الأخوة العربية»، وجرى البحث عن مصارف أخرى للمال.

ويورد الكاتب قصة «سوق المناخ» في الكويت حيث كانت تجري المضاربات على أسهم وهمية لشركات وهمية بسعر يصل إلى ثمانمائة في المائة من سعر الإصدار، حتي انهار السوق واضطرت الحكومة إلى التدخل، وجاءت بعثة من متحف الشمع في لندن لعمل تمثال لمن أسموه «أكبر مفلس في التاريخ»!

أدت الوضعية الشاذة للنفط، إلى تعرض الدول النفطية للابتزاز من دول عربية أخرى، سواء بالاستجداء أو التهديد

اتجهت الاستثمارات إلى الخارج، وتسابقت الشركات لتوقيع العقود الفريدة بأرباح خيالية وبعمولات خيالية لسماسرة كانوا في أغلب الأحيان بلا فائدة حقيقة. فهذه شركة تطلب ستة مليارات دولار لتنفيذ شبكة تليفونات في بلد خليجي. فلما ثارت الشركات المنافسة وصدر القرار بطرحها في مناقصة، قدمت الشركة عرضا بثلاثة مليارات دولار فقط! وترددت أنباء أن عمولة سمسار لبناني في هذه الصفقة بلغت ثلاثين مليون دولار!

ورغم التسليم بجدية المحاولات لخلق مصادر إنتاجية أخري، كمحاولة المملكة تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح وتطوير صناعة البتروكيماويات، فإن مشاريع التنمية تلك لم تحقق الهدف المرجو وهو خلق قاعدة انتاجية؛ وأهم من ذلك لم تحدث التطور المطلوب في المجتمع، لأن العقلية النفطية القائمة على حصر عدد المنتفعين بقوانين الجنسية وقيود التملك بالإضافة إلى التخلف الموروث، جعلت المال يندفع الي الخارج. فالعمال الأجانب الذين صاروا يشكلون النسبة الأكبر من سكان البلاد صاروا يجمعون أكبر قدر ممكن من المال ويغادرون به البلاد، فلا خلقت طبقة عاملة وطنية، ولا اندمج الدم المهاجر بخبراته ورغبته في العمل، ولا استفادت البلاد من الأجور الفادحة التي تدفع لهؤلاء العمال والخبراء!

وختاما: يؤكد الكاتب على ضرورة قيام حلف عربي يعنى بقضية النفط، تكون مصر والسعودية نواته الصلبة، والمشاركة في مشروعات عملاقة بين الرأسمالية النفطية والقوى الاقتصادية العربية في مصر والسودان والمغرب وغيرهم، في ظل قوانين ونظم تكفل الأمن والحماية، وعلى أساس المصالح المشتركة لا الشعارات والأغاني، فقط إذا أردنا إنقاذ إمبراطورية النفط من الانهيار الوشيك.


[1] بدأت الأوبك بخمس دول هي: السعودية والعراق وإيران وفنزيلا والكويت.[2] لم يكن المؤلف هو أول من طرح فكرة رغبة الولايات المتحدة الخفية في إبقاء أسعار النفط مرتفعة. ومن أهم المصادر التي تحدثت حول هذا الموضوع: كتاب جاك أندرسون المعلق الأمريكي الشهير المتخصص في نشر وثائق المخابرات الأمريكية.