تشهد إيطاليا، تلك الدولة العجوز، الضاربة بجذورها في التاريخ، استفتاء دستوريًا الأحد، الرابع من ديسمبر/كانون الأول، ومن شأن هذا الاستفتاء أن يسحب البساط من تحت أقدام الحكومة الحالية بزعامة ماتيو رينزي، لاسيما وأن كثيرًا من الصحف العالمية تتناول الأمر بعيدًا عن كونه استفتاء على إصلاحات دستورية، وتعتبره استفتاء على شرعية الحكومة الحالية. فهذه صحيفة لاتريبون الفرنسية تتساءل عما إذا كان رينزي قادرًا على الفوز بالاستفتاء أم لا؟


على خطى «كاميرون»

في 27 سبتمبر/أيلول الماضي، دعا رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينزي المواطنين الإيطاليين للاستفتاء في الرابع من ديسمبر/كانون الأول على بعض الإصلاحات الدستورية الجذرية، وستكون تلك الإصلاحات حال تمريرها هي أولى التعديلات للدستور الحالي منذ إقراره عام 1948. و تطرح التعديلات الدستورية التي تقدّمت بها حكومة يسار الوسط، إصلاحات لتدعيم مجلس النواب على حساب مجلس الشيوخ، في إطار رغبة الحكومة وضع حد لنظام تقسيم البرلمان لغرفتين كما هو الحال اليوم. وكانت التعديلات قد لاقت موافقة البرلمان ولكن بفارق ضئيل عن خيار الرفض، ما جعل الاحتكام للشارع أمرًا لا مفر منه.

وبموجب الإصلاحات المطروحة، فلن يكون لمجلس الشيوخ الحق في إسقاط الحكومة، ويُقلَّص عدد أعضائه من 315 إلى 100، وهم الذين سيتم انتخابهم مستقبلا عن طريق المجالس المحلية، ويتم انتخاب أعضاء المجلس وفق الدستور الحالي باقتراع مباشر من قبل المواطنين، ممن تبلغ أعمارهم سن الـ25. إضافةً لهذا، لن يتم دفع مكافآت لأعضائه، مما يوفر للدولة حوالي 500 مليون يورو. الشيء المثير للدهشة، هو ما أثارته مؤسسة إبسوس، أن 9% فقط من الإيطاليين على علم بتفاصيل التعديلات، بينما البقية الباقية ستصوت إيجابًا أو سلبًا على أداء الحكومة!

وبحسب الدستور الإيطالي، فإن المشرّع/البرلمان مكوّن من غرفتين اثنتين، يعملان معًا على قدم المساواة، لا تمر التشريعات إلا بموافقتهما معًا، وهو ما يُعرف بنظام التشريع الثنائي، ومن سوْءاته أن التشريعات لكي يتم إقرارها تستلزم الكثير من الوقت. على سبيل المثال، القانون الذي يقضي بالمساواة في الحقوق بين الأطفال الذين يتم إنجابهم خارج مؤسسة الزواج، وبين هؤلاء الذي أُنجبوا داخلها، استغرق ليتم إقراره حوالي 1300 يوم!

وتشهد البلاد انقسامًا حادًا بشأن الأداء الهزيل للحكومة، في ظل أجواء مضطربة سياسيًا (توالت على إيطاليا 63 حكومة منذ عام 1948)، ومتردية إقتصاديًا، و يشهد القطاع المصرفي في البلاد أزمةً حادة تنذر بإفلاسه، في ظل معدلات بطالة بلغت 11.9%، وعجز في الميزان التجاري. وجدير بالذكر أن إيطاليا كانت في العام 2013 ثاني أكبر المدينين في منطقة اليورو، وخامس أكبر المدينين على مستوى العالم.

هذا التردي يجعل الفرصة سانحة لنزع بساط السلطة من تحت أقدام رينزي، في ظل تنامي الخطاب الشعبوي اليميني عالميًا؛ هناك في الولايات المتحدة، حيث دونالد ترامب أصبح رئيسيًا، وهنا في بريطانيا حيث «البريكست»، وهناك على الحدود الشمالية لإيطاليا، وفي ذات اليوم الذي سيُجرى فيه الاستفتاء، تكون الجولة الرئاسية الحاسمة منعقدة في النمسا، والصراع محتدم بين اليميني المتطرف نوربرت هوفر، ومنافسه ألكسندر فان دير بلين، مرشح حزب الخضر.

اقرأ أيضًا:قبل أن يحكم اليمين المتطرف عاصمة أوروبية


«لا» لا تعني الخروج ولكن..

http://gty.im/493896915

تدفع حكومة يسار الوسط باتجاه الموافقة على الإصلاحات التي إن مرّت، فإن مزيدًا من القوانين الإصلاحية سيتم تمريرها، وفي ظل التدهور الاقتصادي الذي تشهده البلاد، سيكون الشأن الاقتصادي هو الحاضر بقوة برلمانيا، على الأقل فيما يخص تمرير الموازنة العامة. وسيتحدد دور مجلس الشيوخ في القضايا الكبرى فقط، كإقرار إصلاحات دستورية أخرى، أو التصديق على اتفاقات الاتحاد الأوروبي.

الاستفتاء الإيطالي ليس كمثيله البريطاني، ولا يعني رفض الإصلاحات أن الإيطاليين عازمون على الخروج من منطقة اليورو أو الاتحاد الأوروبي، لكن ثمة تداعيات بعيدة الأمد نسبيًا، فرينزي وعد باستقالته حال رفض الإصلاحات، لأنه يعتبر هذا الرفض الشعبي – إن حدث – رفضًا للأجندة الإصلاحية التي جاء بها للسلطة عام 2014، لانتشال إيطاليا من مستنقع الأزمات – على حد تعبيره -.

بعض المتابعين يرون أنه لا ينبغي النظر للاستفتاء على أنه استفتاء على عضوية إيطاليا للاتحاد الأوروبي، فحكومة رينزي إذا أقدمت على الاستقالة حال رفض التعديلات، فإن حكومة لتسيير الأعمال ستتشكل للإعداد لانتخابات مبكرة مطلع العام 2017، وكان من المفترض أن تتم الانتخابات بموعدها الاعتيادي عام 2018.

لكن بالنظر إلى معطيات 6 مؤسسات رصد للرأي، نهاية نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم، فإن أي انتخابات في البلاد ستفضي إلى حصول حزب رينزي على ما بين 31% إلى 32% من الأصوات، مقابل 45% إلى 47% لتنظيمات اليمين الشعبوي المتطرف. البديل إذن حال استقالة رينزي، هو اليمين الشعبوي.


الكوميديان الشعبوي يقارع «رينزي»

يشهد الاقتصاد الإيطالي تعثرًا كبيرًا، في ظل معدلات متزايدة من البطالة ومديونية باهظة، وهذا التعثر من شأنه أن يذهب بالبلاد حيث ذهبت المملكة العظمى، بريطانيا!

http://gty.im/493343985

في الأيام الأخيرة قبل الاستفتاء، بدا النزال حامي الوطيس بين بيبي غوريللو، زعيم حركة «خمس نجوم»، وبين رئيس الوزراء. ويستند غوريللو في مقارعته لريزني على ما حققه اليمين الشعبوي، الذي يمثله هو، بانتزاعهم رئاسة البلدية في ثلاثين مدينة إيطالية، من ضمنها العاصمة الإدارية روما، والاقتصادية ميلانو.

ويستند غوريللو كذلك في مقارعته رأس السلطة الحالية على الظرف الدولي الاستثنائي، بصعود اليمين الشعبوي في أكثر من دولة بالعالم. و تمثلت مظاهر هذا التحدي في العديد من المظاهرات التي سيَّرها قادة الحركة اعتراضًا على التعديلات الدستورية.

«لا» التي نرفعها ليست للسياسة وإنما للفرد، للواقع، وللوضع الإجتماعي، دعونا نبحث بداخلنا عن هذا الرفض ولنقل لا لهذه الأوضاع.
بيبي غوريللو

بيبي غوريللو، رجل التناقضات، كوميديان دخل السياسة من باب الفن الساخر، حتى صار واحدًا من قيادات «خمس نجوم». استطاع أثناء مسيرته الفنية أن يجمع الملايين من المشاهدين أمام برامجه الساخرة. في ذات سهرة، وصل عدد متابعيه عبر الشاشات 15 مليون مشاهد! دخل السياسة من باب السخرية من الفساد السياسي، وهو ما عرّضه للمنع من الإذاعة والتلفزة في بعض الأحيان.

تُوجَّه لغوريللو انتقادات كثيرة، أغلبها يتهمه بالتناقض بين ما يدعو إليه وما يطبقه، فهو دائم الدعوة للتقشف بينما يعيش مترفًا، ودائم الحديث عن الفساد بينما يتهرب من الضرائب!

المقارعة بين الرجلين تبدو في إطار وقوف كل منهما على رأس معسكره، فرينزي ومعه أبناء الحزب الديموقراطي، ومجموعات الضغط المرتبطة بأصحاب الأعمال والمال، تقف مع التعديلات الدستورية؛ كلٌ لمأربه الخاص.

رينزي يرى أن الاستفتاء بالأساس هو اختبارٌ لشرعيته وما إذا كانت شعبيته التي أتى بها في 2014 لا تزال كما هي أم انخفضت، والحزب يقف من خلفه، مع أنباء عن انشقاقات داخلية على مستوى عالٍ. رجال الأعمال جميعهم مع الاستقرار، والحِزم الإصلاحية التي تبغيها الحكومة القائمة في البلاد، رغم أنها غير شعبوية بالمرة.

على خلاف رينزي وحزبه ومجموعات الضغط الاقتصادية، الجميع يقف على الشاطئ المقابل لأسباب مختلفة. بعضهم يرى الإصلاحات الدستورية لم تكن إلا لإحكام ساكني قصر شيجي (مقر الحكومة) السيطرة على مقاليد الحكم، ويرون في التعديلات تعديًا على توازن القوة الذي وضعه الآباء، أولئك الذين شهدوا صعود الفاشية، بعناية. يكتمل عقد المعسكر الرافض للتعديلات بكافة المعارضين السياسيين التقليديين لرينزي من اليسار واليمين، وأغلبهم تبنى هذا الموقف لإجباره على الاستقالة والذهاب مبكرًا لصناديق الاقتراع.

وسواء تغلب رينزي على خصومه رغم صعوبة تحقق ذلك، أو رفض الشارع الإيطالي هذه التعديلات، فلا تزال الكثير من الخطوات المجهولة في انتظار إيطاليا، ومستقبلها السياسي المضطرب والاقتصادي المتردي.