تعددت المسميات والأصل واحد، مقولة تصف بموضوعية وإنصاف لا ريب فيهما من يطلقون على أنفسهم، جزافاً، الجماعات الجهادية؛ فالمتأمل للتسلسل الزمني لتطور تلك الكيانات، يجد أنها روافد قد انبثقت من منبع واحد ألا وهو الفكر القطبي؛ فالإرث الثقيل الذي خلّفه «سيد قطب» لاسيما كتابه «معالم في الطريق» الصادر في ستينيات الألفية الماضية كان الأساس الذي استقت منه تلك الجماعات فكرها الجهادي وشكّل عقلها السياسي ولما كان تناول الظاهرة بالدراسة والتمحيص والتحليل الشامل لجُلّ أبعادها ومسبباتها أولى خطوات التعاطي معها بما يكفل جلب منافعها أو درء مفاسدها، كان لزاماً إيلاء مزيد من الاهتمام للأدبيات والنصوص التي تؤطر عقيدة الجماعات الجهادية ومنهجها، وتحكم استراتيجية عملها وتشرّع عملياتها الجهادية، ومن ثم القدرة على فهم ظاهرة الجماعات الجهادية .بصورة أعمق دونما تهويل أو تهوين ما يُفضي بدوره إلى وضع استراتيجيات فاعلة لكبح جماح هكذا جماعات

ومن هنا تكمن أهمية كتاب «الفكر الإسلامي الجهادي المعاصر»؛ إذ يسعى في جزئه الأول إلى عرض أبرز الأدبيات المعاصرة للفكر الجهادي والمرتبطة بأكثر الشخصيات تأثيراً في الأوساط الجهادية.

وقد قُسّمت هذه الأدبيات تبعاً لطبيعتها لستة محاور؛ فهناك نصوص تتحدث عن العقيدة السلفية الجهادية، ونصوص تركّز على منهج تلك الجماعات ورؤيتها للمجتمعات الحالية، ونصوص ترسم استراتيجية عمل تلك الجماعات، ونصوص تشرّع العمليات الجهادية استناداً لأدلة شرعية، وأخرى في رقائق الجهاد تتناول الشق المتعلق بالتربية وبناء الأسرة المسلمة وكذا دور المرأة في المجتمع الإسلامي.

وكذا النصوص التي حوت مراجعات عبّرت عن النقد الذاتي والجدل الداخلي بين أفراد بعينهم أو جماعات بعينها من جهة وبين من ظلوا معتنقين للفكر الجهادي.

أما الجزء الثاني من الكتاب، فهو يتعرض لتلك النصوص بالتحليل والنقد مبيناً أبرز معضلات وأساطير الفكر الجهادي والرد عليها ومن ثم تقديم استراتيجية تصحيحية يمكن الركون إليها للخروج من مأزق تلك الجماعات الجهادية. ويُختتم الكتاب بملحق يعرض المفاهيم الرئيسية المرتبطة بالفكر الجهادي، وسير ذاتية مختصرة لأبرز الشخصيات التنظيرية والحركية الجهادية، وكذا أهم التنظيمات والحركات الجهادية المعاصرة.


مقتطفات من نص «الولاء والبراء» لأيمن الظواهري

كان من أهم النصوص التي عرضها الكتاب في جزئه الأول نص «الولاء والبراء» لقيادي تنظيم القاعدة الحالي «أيمن الظواهري»، وهو الكتاب الأبرز والرسالة الأكثر انتشاراً في عُرف هكذا تنظيم، إذ تناول عقيدة الولاء والبراء بالشرح والتطبيق على الواقع الحالي للمجتمعات الإسلامية.

وقد حوى الكتاب فصلين؛ أولهما، تناول أركان عقيدة الولاء البراء استناداً لأدلة قرآنية وأحاديث نبوية، وقد لخصها «الظواهري» في النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء ونصرهم على المؤمنين، فمن يتخذهم أولياء وينصرهم على المؤمنين فهو كافر، وكذا بغض الكافرين والإعراض عن مودتهم، والبعد عن اتخاذهم بطانة والإدلاء إليهم بأسرار المسلمين، والنهي عن تولية الكافرين في المناصب العليا، والأمر بالجهاد للكفار «الأصليين» والمنافقين والمرتدين.

أما الفصل الثاني، فقد تناول صور الانحراف في عقيدة الولاء والبراء، وقد أقرّ «الظواهري» في هذا الفصل كفر الحكام في البلدان الإسلامية بصفة عامة، والعربية على وجه التحديد، واستند في ذلك إلى كون هؤلاء الحكام لا يحكمون بالشريعة الإسلامية فضلاً عن موالاتهم، على حد قوله، لليهود والنصارى إذ عمدت القوى الاستعمارية على ترسيخ حكم الموالين لها عن طريق الرشاوى والأموال.

ارتأى «الظواهري» أن هيئة الأمم المتحدة إنما هي هيئة عالمية كفرية لا تحتكم للشريعة، وتخضع لآراء خمس دول وهي أكابر المجرمين، على حد تعبيره، وهي الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن. وزعم أيضاً أن الأمم المتحدة هي التي أجبرت الدول العربية على الاعتراف الكامل بالكيان الصهيوني، ومن ثم إنكار ركن من أركان الشريعة الإسلامية وهو الجهاد ومحاربة ذلك الكيان الصهيوني.

أشار «الظواهري» إلى تسخير بلاد المسلمين لخدمة الدول الصليبية، وذلك من خلال إفساح المجال أمام القوى العظمى لإقامة قواعد عسكرية لها في البلدان العربية والإسلامية من المحيط إلى الخليج.

جدير بالذكر أن الظواهري قد استعرض الأدوات التي يستخدمها حكام الدول العربية والإسلامية الموالين للصليبين والصهاينة، على حد زعمه، للترويج لأفكارهم بما يخدم سياساتهم ويوفّر لها قاعدة شعبية، وتتمثل تلك الأدوات في العلماء الرسميين وهم «علماء السلاطين»، الذين تعمد إليهم الأنظمة الحاكمة لتخدير عقول الشباب المجاهد، والكتّاب والصحفيين والإعلاميين والمفكرين.


نحو عملية تصحيحية بمنأى عن ثنائيات الخير والشر

ارتأى «الظواهري» أن هيئة الأمم المتحدة إنما هي هيئة عالمية كفرية لا تحتكم للشريعة، وتخضع لآراء خمس دول وهي أكابر المجرمين، على حد تعبيره

يجادل الكاتب في جزئه الثاني إشكالية رئيسية مفادها أن الانطلاق من ثنائيات الخير والشر، ونعت االجهادي بأوصاف بغية دفعه نحو العدول عن فكره أو الحيلولة دون انضمام الآخرين إليه لن تجدي نفعاً؛ ذلك لأن الفكر الجهادي ينطلق من دعائم فكرية راسخة ولها إرث طويل.

كما أن الردود الدينية على معتنقي الفكر الجهادي لا طائل منها؛ لكونها تصدر عن مؤسسات دينية ترتبط بصلات مؤسسية مع الدول القومية التي لا يعترف بها الفكر الجهادي، كما أن الجهادين يعدّون المؤسسات الدينية، لاسيما الرسمية منها، أداة طيعة في يد الأنطمة الحاكمة، والتي تعتبر كافرة على حد زعم الجهادين، مما يستوجب الجهاد ضدها، فضلاً عن كون المؤسسات الدينية تستند على أدبيات يمكن تأويلها بشكل يحرّض على العنف، وعدم تلاقي وجداننا مع هذه الحقيقة لا يعني بأية حال عدم وجودها.

فيما يتعلق بدور التيارات الليبرالية ونخب المجتمع المدني، فعليها أن تتوقف عن الخلط بين محاربة الفكر الجهادي ومحاربة الأفكار الدينية، والتشويه المستمر والمتعمد

«الحرب على الإرهاب» عبارة ابْتُذلت كثيراً خلال العقدين الماضيين كونها فشلت فشلاً ذريعاً في وضع حد لتهديدات الجماعات الإرهابية، وعاثت القوى العظمى بدعوى تلك الحرب الوهمية فساداً، فضلاً عن كونها السبب الرئيسي لتغول الأجهزة الأمنية والبوليسية في البلدان العربية والإسلامية ضاربةً بالآليات القانونية والدستورية عرض الحائط.

ومن هنا كان لزاماً إجراء عملية تصحيحية شاملة للخروج من المأزق الحالي، لكلٍ دوره المنوط به تأديته لمواجهة الفكر الجهادي. فعلى مستوى الإطار الوطني للدول القومية، يجب أن تضطلع الدول باتخاذ ما يلزم من إجراءات تكفل وضع حد لتغول الأجهزة الأمنية والبوليسية وهيمنتها على عملية صنع القرار السياسي من خلال إعادة هيكلة العلاقات المدنية العسكرية، وكذا اتخاذ كافة التدابير للحيلولة دون انتهاك حقوق مواطني الدولة.

أما فيما يتعلق بدور التيارات الليبرالية ونخب المجتمع المدني، فعليها أن تتوقف عن الخلط بين محاربة الفكر الجهادي ومحاربة الأفكار الدينية، والتشويه المستمر والمتعمد وكذا الهجوم على كل ما هو ديني.

ولعل التحدي الحقيقي الذي يواجه هذه التيارات يكمن بالأساس في قدرتها على تنحية المواقف السياسية والأيديولوجية جانباً، والدفاع عن حقوق كل التيارات السياسية بما فيها التيارات الإسلامية، وفي مقدمتها الحق في الحياة والحق في محاكمة عادلة ومعيشة آدمية في السجون والمعتقلات.

أما عن الدور الذي ينبغي على المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية الاضطلاع به إنْ أرادت اللحاق بركب تلك العملية التصحيحية الشاملة فيتمثّل في مصالحة الدين مع البشر أو بمعنى آخر التوفيق بين الدين كرسالة والدين ككائن اجتماعي وسياسي وثقافي من خلال تكييف الدين تاريخياً وفتح باب الاجتهاد في شرح وتفسير النصوص الدينية كي تتلاءم مع مستحدثات الحياة غير المنتهية، وكذا تكييفه اجتماعياً لكى يتوافق مع طبيعة كل مجتمع وعاداته وتقاليده وظروفه التاريخية.

ولا يفوتنا محورية تكييف الدين بشرية أو أنسنة الدين ليكون موجهاً للبشر كافة؛ لغير المؤمن قبل المؤمن، للفقير قبل الغني، للشعب قبل السلطان، لمن قست عليهم الحياة قبل من أنعمتهم، وكذا إعادة الاعتبار للبعد الفردي في علاقة الإنسان بربه.

ذلك لأن إضفاء الطابع الجمعي على الدين قد حوّله إلى طقوس جامدة تعبّر عن علاقات القوة والسيطرة، وأخيراً إعادة هيكلة المؤسسات الدينية ما يكفل استقلاليتها وقيامها بأدوارها الاجتماعية والروحية والتنمية، وإذ ذاك فقط تؤتي الحرب على الإرهاب أكلها.