يمكنك فهم حقيقة معاداة الإسلاميين بكل فرقهم وطوائفهم للتيارات العلمانية واليسارية، بل يمكنك تقبل بغضهم لأنظمة الحكم الرسمية وخاصة في المنطقة العربية، والتي تتعامل مع أبناء الجماعات الإسلامية، وكأنهم ألوف من «الزومبي» المثقلين بالخطايا السياسية والدينية؛ وبالتالي قمعُهم بكافة الطرق الحلُ الوحيد لمواجهتهم، ولكن لا يمكنك فهم المغالاة في ضرب الإسلاميين لبعضهم البعض، ومحاولة كل فريق وأد مشروع الآخر، الذي يهدف في النهاية لإبقاء الفكرة الإسلامية في دوائر المنافسة السياسية والاجتماعية في البلدان الإسلامية.


الإخوان والسلفيون: التميع والإقصاء وجهًا للوجه

بالرغم من الثوب الفضفاض للحركة السلفية في مصر، إلا أنها على اتساع فرقها تقف حلوق أعضائها وشيوخِها ومنظريها «غصة» من جماعة الإخوان المسلمين، التنظيم الإسلامي الأكبر في العالم حتى الآن، بعض خلافات الإخوان والسلفيين فكري وديني، والبعض الآخر لا يفهم منه إلا «الغيرة» والخوف من سيطرة مشروع على الآخر، لا سيما وأنهما يتنافسان على أرضٍ واحدة.

والمراقب لتاريخ الحركة الإسلامية في مصر، سيدرك أن تاريخ التوتر بين الإخوان والسلفيين يعود لنشأة الجماعة، مرورا بنهج قادتها في العمل السياسي، بداية من مؤسسها الأول حسن البنا، والذي تعتبره غالبية الفرق السلفية، منهج تميع وبراجماتية نفعية خالصة على حساب الدين، ما أشعل الصراع بينهما، وبدأت أولى حلقات الصدام منذ الأعوام الأولى لميلاد الحركة السلفية، في سبعينات القرن الماضي بالإسكندرية.

وشهدت العلاقة بين الطرفين تنافسًا محمومًا وصل لصدام دامٍ بين طلاب الإخوان والسلفيين بجامعة الإسكندرية عام 1980، بسبب رفض طلاب السلفية العمل تحت مظلة وهيمنة طلاب الإخوان.

وجاءت ثورة يناير لتضرب الطموحات السياسية أسافين ساخنة بين السلف والإخوان، وبُذلت محاولات وجهود كبيرة لتوحيد الموقف السياسي طويلًا بين الجماعات الإسلامية، وأشرف على جهود التقريب، المشايخ محمد حسان، ومحمد عبد المقصود، وأحمد النقيب، وصفوت حجازي، ومحمد يسري إبراهيم، وعبود وطارق الزمر، وعبد الرحمن البر.

لم تحقق مساعي المشايخ، إلا توافقًا مؤقتًا بين الإسلاميين في الاستفتاء على التعديلات الدستورية، والحفاظ على المادة الثانية من الدستور، ومعركة هوية مصر الإسلامية، وما سمي بالمبادئ فوق الدستورية، والانتخابات الرئاسية 2012، ووضع الدستور، لتأتي أول انتخابات برلمانية، وتظهر معها صعوبة التوافق بين الإخوان والسلفيين، ليفشل الإسلاميون في تشكيل تحالف انتخابي واحد يجمع أحزابهم.

وفضّل «حرية وعدالة الإخوان» الانضمام للتحالف الديمقراطي بجانب عدد من القوى والأحزاب المدنية، بينما خاض السلفيون المعركة بتحالف من أجل مصر، الذي ضم أحزاب «النور، والأصالة، والبناء والتنمية، والإصلاح»، وجميعها أحزاب من داخل العباءة السلفية.

ورغم تعهدات قيادات ومشايخ الطرفان بالتزام شرع الله في المنافسة الانتخابية، إلا أن ذلك لم يثنِ الإخوان عن الدعوة لمرشحيهم أمام اللجان، وغيرها من الممارسات التي اعتبرتها الأحزاب السلفية خروجًا على الاتفاق، لتترك هي الأخرى التزامها، وتلجأ للترويج لأعضائها، عبر الزج بأسماء الشيخ حسان ومحمد حسين يعقوب وكبار أعلام السلف، من أصحاب الجماهيرية التي تفوق الإخوان أضعافًا مضاعفة، في دعايتهم الانتخابية.

«إعلام الإخوان» المُدرب جيدا على قيادة الحملات الانتخابية، وكيفيات قلب الطاولة في الوقت الذي يريد، تصدى لانتهازية النور، وعمل على فضحه، ليضع مصداقية أصحاب «اللحى الطويلة» في مواجهة مع الشارع، وبالطبع الشيخ محمد حسان.

وحسمت خبرة الإخوان الصراع، وانصاع حسان لما أسماه السلفيون وقتها بـ«الفخ الإخواني» وغضب بشدة، وخرج ليشن هجومًا شديدًا على الدعوة السلفية وحزب النور بسبب استخدام اسمه في دعايتهم الانتخابية للحزب، دون استئذانه في ذلك.

وجاءت أحداث 30 يونيو، ليشارك حزب النور السلفي في الإطاحة بالإخوان من السلطة، وتتعمق الجراح والاتهامات التي انتهت بقطيعة مستمرة بين الطرفين حتى اليوم.


الإسلاميون والصوفية: لكم الدروشة ولنا الحُكم

لا يمكن أن نرى المشهد الصوفي بعد ثورة 25 يناير، كما كان قبلها، فالأحداث والتحالفات وحروب التفسيق التي مورست ضد الصوفيين في تلك الفترة، كتبت تاريخًا جديدًا للحركة الصوفية ونظرتها للسياسة، والتي لا يمكن بغيرها تمكين أتباعها من فرض واقعهم كقوة مؤثرة، لا يستهان بها في المجتمع المصري.

وللتصوف في مصر، أئمة ومصابيح زاهرة في تاريخ الأمة، أبرزهم ابن الفارض، والمرسى أبو العباس، والسيد البدوي، والبوصيري، وإبراهيم الدسوقي، إلى آخر العلامات المضيئة في تاريخ التصوف بمصر، وكان أكثر ما يميز أتباع الصوفية أنهم رواد عالم آخر، لا يرى من الحياة إلا الشعر والإنشاد والإيمان المطمئن بالله، والزهد المترفع والاستغناء في زمن لا يحكمه إلا ميزان المطامع.

بدأ التحام «الدراويش» بالحياة العامة والواقع السياسي بشكل تدريجي، وتحديدًا منذ قيام ثورة 1919، وانضواء رموز الصوفية تحت راية الحراك الوطني ضد الإنجليز، ليرتفع الصوفيون بعد ذلك على سلم مغازلة السياسة، ليصل إلى المشاركة والمنافسة الأيدلوجية مع الإسلاميين، إبان أحداث ثورة 25 يناير، وخاصة بعد إدراك الصوفيين، تشبع الحركات الإسلامية بما فيها الإخوان، بالأفكار المتسلفة الإقصائية بل والمكفرة لهم.

ومع تصاعد الهجوم السلفي، تمرد الصوفيون على تقزيم الإخوان لهم، وحصرهم في أدوار محددة، حيث توافق الجماعة للطرق الصوفية على دور روحي فقط، بينما ترفض بشدة حضورهم الاجتماعي والسياسي، وهو الأمر الذي يعتبره التيار الصوفي «غيرة وخوف» من شعبيته في الشارع، خاصة وأنه يستطيع اللعب في مساحات دينية، لا علاقة لها بالتشدد أو حمل السلاح، وتصفية الخلافات بالعنف، والاصطدام برأس الدولة ونظامه السياسي أيًا كان موقفه منه.

وفي الوقت الذي تفننت فيه قوى الإسلام السياسي في «تخويف الصوفية» احتضنتهم السلطة، التي كانت تدرك جيدًا قوتهم على الأرض، فكان رموز نظام مبارك على سبيل المثال يشاركون في احتفالاتهم، ويسمحون لهم بحريات شاسعة في إحياء موالدهم، ولم يكتفوا بذلك، بل قرر مبارك نفسه تعيين الشيخ عبد الهادي القصبي، صاحب الشعبية الكبيرة، شيخًا لمشايخ الصوفية، ما يعني أنه ضمن تبعيتها الكاملة، وتحييد هذا التيار الجارف، عن أي مواجهة محتملة لنظامه مع الجماعات الإسلامية.

وبعد سقوط مبارك، ومع نهم السلفية في التربص بهم، سارعت الصوفية بالتصويت بـ«لا» في الإعلان الدستوري الذي تبناه الإسلاميون، بالتوافق مع المجلس العسكري، ليتحالف الصوفيون بذلك مع الجبهة الوطنية للتغيير، والتيار المدني الذي تبنى وقتها ضرورة كتابة الدستور أولا.

وجاءت الانتخابات الرئاسية 2012 ليجدد الصوفية رفضهم للإسلاميين، ويعلنون تأييدهم للفريق أحمد شفيق، في مواجهة الدكتور محمد مرسي، مرشح التيار الإسلامي، وهنا أيضًا لم ينتبه الإسلاميون لخطورة إقصاء تيار عريض والإمعان في خسارته، فكانت الضربة القاصمة بعد 30 يونيو، حيث تحولت الحركة الصوفية تماما، وباتت تلعب دورا سياسيا واضحا، وأيدت الإطاحة بمحمد مرسي.

ورشحت التيارات الصوفية ممثلا لها في لجنة الخمسين، التي شُكلت بعد عزل مرسي، لسن دستور جديد للبلاد، واكب ذلك صعودًا ملفتًت للصوفية في المشهد السياسي، حيث يرأس عبد الهادي القصبي حاليا، لجنة التضامن بمجلس النواب، وله تواجد قوي على الساحة السياسية والعربية.


الجهاديون والصوفية؛ سبق السيف العذل

في الوقت الذي تفننت فيه قوى الإسلام السياسي في «تخويف الصوفية» احتضنتهم السلطة، التي كانت تدرك جيدًا قوتهم على الأرض
الغيرة بين التيارات الإسلامية موجودة وفاعلة بقوة، ومحاولة إصباغ الخلافات الدينية على كامل العلاقة بينهم، لا يُمرر إلا مزيدًا من الفرقة والتشتت.

لم يكن إقدام تنظيم داعش، على ذبح الشيخ سليمان أبو حراز، التسعيني الصوفي، ابن قبيلة السواركة، وصاحب الشعبية المتسعة في سيناء، مجرد إدانة لما اعتبره «سحرًا ودجلًا»، يمارسه الرجل، بل كان خوفًا أيدلوجيًا رهيبًا، كشف عنه شهود العيان والمتعايشون مع الرجل، الذين أكدوا أن الدواعش كغيرهم من غالبية تيارات الإسلاميين؛ يستشعرون القلق دائما من المشايخ المعتدلين، والمؤثرين لدى الأهالي، خاصة إن كانوا يعادون فكرهم قولًا وفعلًا.

وكان «أبو حراز» يدعو علانية لنبذ الفكر المتطرف، ولشدة تأثيره بين القبائل، اتهمه الدواعش بالعمل مع أجهزة الأمن، واختطفوه ثم أخفوه عدة أشهر ، وأعادوه بعد إدراك التنظيم حجم تأثيره، في ظل حربهم الطاحنة مع الجيش المصري، فاضطروا لإعادته مرة أخرى، مع أخذ تعهدات عليه مصحوبة بالتهديدات، أن لا يعود لممارسة أكاذيبه على الناس مرة أخرى، حسب مزاعمهم.

لم يرتدع «أبو حراز»، بل لم يعبأ بتهديداتهم من الأصل، ما جعل من وجوده «تهديدًا شرعيًا» لتنظيم الدولة، فقرر الخلاص منه، واعتبر أن طريقته في حث الناس على الإكثار من الصلاة على النبي، شركًا بالله، واستند في تكفيره إلى إجازة «حراز» للاستعانة بالأنبياء والأولياء في الدعاء إلى الله، ليستجيب لدعواتهم، ما يعني أنه شرك واضح، يستوجب تطبيق الحد.

الغيرة بين التيارات الإسلامية موجودة وفاعلة بقوة، ومحاولة إصباغ الخلافات الدينية على كامل العلاقة بينهم خاصة في وقت الأزمات، لا يُمرر إلا مزيدًا من الفرقة والتشتت وتزكية الفكر الإقصائي المُنفر، والمخالف لنواميس الكون.