ترتبط صيرورة التربية ونهجها، في الحركة الإسلامية؛ باستقامة القيادة الاجتماعيّة على ذات النهج ودوام مُكابدتها له. إذ التربية هي الوظيفة الأهم للقيادة الاجتماعيّة، وهي النموذج النبوي في الدعوة إلى الله؛ النموذج الذي تُخالط فيه القدوة المتوهِّجة بالقيم القرآنية قدرًا يسيرًا من التوجيه المباشر، حتى يستقيم المربَّى على مراد ربّه ويُسلم له سبحانه، فيحمل همّ غيره بحُسن حمله لهمّ نفسه. وأعظم محنة قد تواجهها الحركة الإسلامية، أو أيًا من طلائعها؛ هي سقوط القدوة، على غرار ما وقع في مصر بشكلٍ فاضحٍ بعد 25 يناير 2011؛ إذ سقط جيلٌ كامل من العلماء والدعاة والمعلّمين والكُتّاب والسياسين والشخصيات العامة.

إن غياب القدوة يعني غياب الحادي والمعلِّم والمرشِد، ويعني بنفس الوقت حدوث قدرٍ من الانقطاع التاريخي بين الجيل المبتلى بفقدان القدوة، والأجيال السابقة عليه. إنه يعني التيه؛ بصورة أو بأخرى. ذلك أن الحركة الإسلامية قطارٌ تاريخي تتصل عرباته من جيلٍ إلى جيل، صعودًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه إلى أبينا إبراهيم، لتتصل الرابطة بأبينا آدم. إن هذه الروح التاريخية المتجاوزة للواقع اﻵني والمستشرِفة لطلائع القافلة التي غاصت في أعماق الزمن، يحدوها الإنسان/النبي الأول؛ هي المزية الأهم، ومكمن القوة الأكبر في التصوّر الإسلامي. إن الوعي التاريخي الذي ينتقل من جيل إلى جيل ليس رفاهية يُمكن الاستغناء عنها. ذلك أن الوعي التاريخي لا ينقل لنا سرديّة وقائعيّة محضة، ولا يُمرر نظرياتٍ في الحكم والإدارة والاقتصاد، فكل هذا اللغو مبسوطٌ في الكتب؛ لكنه ينقل المنظومة الأخلاقية-الاجتماعية المرتبطة بالدعوة، عمليًا وبالتواتُر؛ وهو ما لا يُمكن أبدًا تحصيله من الكتب، ولا تُغني عنه شتّى أنواع المعارف. إن سقوط القدوة في مجتمعٍ ما يعني تعرّيه، للحظةٍ معيّنة تطول أو تقصُر؛ من كل قيمة أخلاقية، وهبوط مناعة ذلك المجتمع، من ثم؛ إلى أدنى درجاتها، ليصير عُرضةً للموت بأكثر الفيروسات تفاهة!

إن المنظومات الأخلاقية-الاجتماعية لا تنتقل من خلال التعليم العلماني ولا من خلال الإعلام ولا من خلال الكتب ومصادر الثقافة؛ بل تنتقل بالتربية المباشرة بالقدوة الحسنة. إن سقوط القدوة يعني سقوط المنظومة التي يُفترض بها أن تُمثّلها، بغض النظر عما تعتقده أو تمارسه تلك “القدوة” على الحقيقة. ولا يُمكن إحلال التعليم والإعلام والثقافة النظرية محل هذه التربية ذات الطبيعة “العرفانية”، وهو ما يجعل المجتمع المُبتلى يُعاني هُزالًا حقيقيًا، ليس لتشرُّبه قيمًا عكسية طوال فترة ضعفه فحسب، بل لأنه فُتِن في قيم مناعته التي شوهتها القدوة الساقطة. لأن الغالبية ستصير، نتيجةً لذلك وبمرور الوقت؛ جاهلةً كُليًا بحقيقة القيم “الأصلية” التي تحكي عنها السير والتراجم، فهم لم يروها في الواقع العملي ماثلة أو مُتجسِّدة في أناسي، ولو قل عددهم. إن القيم الأخلاقية تنفصل بهذه الطريقة عن الحياة، لا لتصير في روع الجيل المُبتلى “مثاليّات” نظريّة “ساذجة” فحسب؛ بل ليتم التشكيك فيها وفي مصدر إلزامها، وهو ما يعني تقويضها معرفيًا وأنطولوجيًا.

ولا يُمكن لمجتمعٍ أن يستمر في الوجود بعد تقوّض منظومته الأخلاقيّة بهذه الطريقة. إن الاستنارة الغربيّة لم تفعل ذلك بالإنسان، ولم تعريه من قيمه بهذه الوحشية، وإنما فصلت القيم عن مصدرها الكنسي، ونصَّبت لها مصدرًا وضعيًا نفعيًا جديدًا، له ذات المقدرة الإلزامية، بل جعلت سلطة الدولة الحديثة وقانونها مصدر الإلزام الجديد أرسخ ماديًا وأكثر صرامة وضراوة. صحيح أن هذه القيم تهدّلت وصارت القيمة الوحيدة في عصر “الما بعديات” هي ما يتواطأ عليه الناخبون؛ إلا أن حتى ذلك التواطؤ يستند لمصدر إلزامٍ حقيقي، وهو ما لم يتحقق معشاره في بلدٍ كمصر؛ دولة فاشلة لا يحترم قانونها كبير ولا صغير، بل يتواطأ الجميع على هتكه وخرقه والتلاعُب به طول الوقت، فإذا ما أضيف لذلك سقوط القدوة؛ تبيّن لك أننا بصدد فوضى شاملة.

………

إن التربية في منظومة الحركة الإسلامية، كما أرادها الله؛ ليست تربية نظرية سكونية باردة، بل إن التربية والحركة يكادان يترادفان جراء ضخامة المساحة التي يتقاطعان فيها. إذ لا تتشكَّل صيرورة التربية إلا بحركة المجتمع المسلم موافِقًا لمراد الله، مهتديًا بهدي نبيّه؛ فالتربية لا تكون إلا بالحركة، الفردية والجماعية؛كذا فإن أحد أهم أهداف الحركة على الإطلاق هو تربية النفس وتزكيتها بانفتاح أفق تعرُّفها إلى الله واكتشاف سننه ونواميسه في الكون. إن سلامة الرياضة الروحية لا تتحقق إلا بالسير في الأرض.

ومما يُبلور الفارق بين النموذجين، والفارق بين القيادة الاجتماعية والسياسيين “الإسلاميين”؛ تمييز علي شريعتي، رحمه الله؛ بين مفهومي السياسة والبولوتيك (ولمالك بن نبي رأيٌ مشابه). إذ السياسة عنده، كما يوحي المدلول التاريخي للفظة واستخدامها في اللسان العربي؛ مرتبطة بحركة دائمة، إصلاحٌ لأمر الإنسان والمجتمع، معالجة له وسياسة لأموره؛ إنهُ سياقٌ تضطلع فيه السلطة/القدوة بعملٍ أخلاقي، ليس بالتلقين الأيديولوجي ولا بالقهر السلطوي، كما قد يظن بعض المتحمّسين أو المغرضين؛ بل بحراسة القيم التي نُسج على أساسها الاجتماع الإنساني الحرّ، ابتداءًا؛ حراسة تلك القيم بتجسيد أسمى مراتب القدوة في تمثُّل حقيقتها، بالنفس والأهل والحواشي والقافة؛ صيانة لها من عبث الهوى وتلبيسات الأبالسة وانتكاسات الفطرة، وهي القيم المستقاة مباشرةً من الوحي ومن سيرة النبي المعصوم، صلى الله عليه وسلم. وهذا هو عصب ولُبّ وجوهر تمايُز نظام الخلافة الراشدة عن أنظمة الملك؛ حُسن القدوة الذي يُجسِّده الإمام المؤمن الذي يجتهد مُكابدًا نفسه ابتداءًا، ليستقيم على ما آمن به؛ وهو على نقيض القهر الملكي السلطوي لإلزام الخلق بما اختاره طاغوت قائم على ترشيد الواقع، وإن لم يؤمن ذلك الطاغوت على الحقيقة باختياره المصلحي، ناهيك عمن وقع عليهم القهر. وبهذا؛ تختلف السياسة عن البولوتيك، التي أُعرِّبها ب”السياسة الغربية”؛ إذ أن البولوتيك محض خدمة للإنسان وإدارة لموارد واقعه المادية باﻷساس، فهي لا تطوي أي عناية برأس مالٍ رمزي أو حراسة لمنظومة قيم معينة، وإن سهرت على إنفاذ قانون الدولة وحماية دستورها، الذي يُيسر مسألة الإدارة بدون احتكاكاتٍ تُعطِّلُها، سواء بين الشعب والسلطة أو بين الشعب وبعضه بعضا؛ ومن ثم لا تتعامل البولوتيك مع حاجة الإنسان والاجتماع الدائمة للترقية والتزكية، فمنطلقها طوباوي بالكامل؛ يفترض وصول الإنسان والاجتماع لحالةٍ مُثلى لا تتغير ولا تتبدَّل، وهو ما يؤدي بهذه السلطة في نهاية الأمر لحراسة أهواء “المواطن” وشهواته. لذا؛ يذهب شريعتي، محقًا؛ إلى أن أسبقية خدمة الإنسان على إصلاحه تُكرِّسُ انحرافه، ومن ثم كانت أولوية الدعوة في الحركة الإسلامية سابقة على السياسة أولًا وثانيًا وثالثًا. وهي أولويّةٌ لا تنتهي ولا تتغيّر، أيًا كان الوضع السياسي؛ فهي أولوية مرتبطة بطبيعة الإنسان نفسه، وقدرته الدائمة على الإخلاد إلى الأرض واتباع الهوى، ومن ثم لزم أن تكون الأولوية التربوية حاضرة دائمة لازمة، وفي السراء قبل الضرّاء.

إن الحركة الإسلاميّة من هذا المنظور تصير هي حركة المجتمع المسلم الدائمة لتزكية نفسه، من خلال تزكية أفراده لأنفسهم، وتواصيهم بالحق والصبر فيما بينهم، وقيامهم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إن الحركة الإسلامية تصير بهذا المعنى صيرورة تزكيةٍ محضة. رحلة رياضة روحية جماعيّة داخل التاريخ. رحلة قد تُثمر بطبيعة الحال أوضاعًا اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسية معيّنة، تتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان؛ لكنها لا تستهدف هذه الأوضاع ولا تقف عندها طويلًا، ولا تنشغل بالتنظير الاستباقي لها؛ فإنما تتمخَّض كل هذه الأوضاع عن صيرورة التزكية/التربية، وتنحرف بتراجُع أولوية التزكية/التربية، أو تطول استقامتها، إلى أجلٍ؛ بحرصٍ على مراقبة الله في كلِّ أمرٍ. إن التزكية/التربية تصير، من ثم؛ مُرادفًا للإسلام وللحركة الإسلامية، وتصير هي القاطرة التي تُحدد وجهة الفرد والمجتمع المسلمين، وتصير كذلك هي “المعمل” الذي يُفرِّخ كل الأشكال الحضارية والثقافية للمسلمين.

…….

إنه حين يتطرق بالإسلاميين الحديث إلى التربية والتعليم؛ فإن أكثرهم يعترف، إما صراحة أو ضمنًا؛ بحجم التشوش والفساد الهائلين في المنظومة التعليمية الرسميّة، بما تنطوي عليه من سرديات تاريخية مزورة، وقيم منحطة، وموازين مقلوبة.

لكن من النادر أن يعترف أحدهم، خصوصًا الحزبيين والمسيسين؛ بحجم الفساد الذي تسببت به المنظومة التربوية/التعليمية “الموازية” السكونيّة والمتوهَّمة الاختلاف، والتي اختطتها الحركات الإسلامية (من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار) لنفسها منذ الأستاذ البنا، رحمه الله؛ إلى اليوم.

وإذا كانت الأداة الأولى والأهم التي استعانت بها الحركات الإسلامية، لإبلاغ دعواتها على اختلافاتها؛ هي التربية والتعليم، وبناء الفرد المسلم. فإن هذه الأداة السكونية الطابع، في الغالب الأعم؛ قد استُخدِمَت بمحمولٍ كامنٍ وغير واع، محمول مُناقضٍ لأهدافها وغائيتها، ليعيد تشكيلها وصياغة تصوراتها على المدى البعيد. خصوصًا حين انفصلت الحركة عن النظر، فغُيّبت الغائية الإلهية عن الحركة، وصار النظر سفسطة المجالس النخبوية.

وحسب علمي؛ فلا توجد حركة أو تنظيم أو حزب “إسلامي” معاصر لا تتفق رؤيته مع مجمل رؤية البنا، رحمه الله؛ بل ولا يصدُر أيها، بدرجةٍ أو بأخرى؛ إلا عن تلك الرؤية في كل ما يأتيه، ولو خالف الرجل في بعض التفاصيل أو التكتيكات العملية؛ إلا أنه يتفق مع ترتيبه لسلم أولويات الدعوة من بدايته إلى نهايته: تكوين الفرد المسلم والأسرة المسلمة، ثم المجتمع المسلم، ثم الحكومة المسلمة، فالدولة، فالخلافة الإسلامية، وأخيرًا الوصول إلى أستاذية العالم. وكأنها طوبيا ومقامات ثابتة لا تتغير!

وهذه هي الكارثة … !

لقد ورثت الحركات الإسلامية مُسلماتها الحركيّة بغير نقدٍ ولا فهمٍ ولا تمحيص؛ ورثتها بغير إدراكٍ للسياقات التاريخية، وللمؤثرات المعرفية، ثم أسبغت عليها ما شاء لها الهوى من المقولات الشرعية؛ حتى يتم دمجها ليس في السياق المتنوع والعريض للفرق الإسلامية فحسب، بل ليتم فرضها باعتبارها الإسلام ذاته.

لكن لماذا تمثّل هذه الرؤية المتواترة عن البنا كارثة؟

تجد الإجابة باختصار في العناصر التالية:

1- الانطباع الذي يتركه هذا السُلم في النفس، خصوصًا لمن ليس لهم أدنى اطلاع على الفلسفة وعلم الكلام وتاريخ الفرق والحركات الإسلامية؛ وهو الانطباع بأن الدعوة “سلم” له بداية معلومة ونهاية محددة، ومن ثم مؤقت بزمن معلوم. وليس صيرورة مفتوحة، لا نعلم نهايتها على وجه التحديد؛ صيرورة تتوازى فيها كل “المراحل” بشكل أكثر مرونة من الصلابة التي تبدو في السلم الأيقوني … صيرورة لا يعلم نهايتها (نهاية التاريخ) إلا الله سبحانه!

2- توهُّم إمكان الانتقال الكامل والنهائي من كل مرحلة “دعوية” إلى التي تليها داخل التاريخ، ومن ثم يعتبر البعض الحديث عن “مرحلة سابقة” لونًا من ألوان الحنين غير الواقعي للماضي. وهذا التوهُّم صادر عن نفس المرحاض الذي صدرت عنه أكثر الأيديولوجيات والسرديات والمذاهب الفلسفية الغربية. ومثال ذلك سردية انتقال الإنسانية من الدين (الميتافيزيقا) إلى العلم (الفيزيقا)؛كغاية نهائية وذروة للوجود البشري تجُبُّ ما قبلها.

3- أثر صورة المتتالية الطوباوية ذات النهاية المعلومة على رؤية الإسلاميين للتاريخ؛ إذ تحل فيه القداسة بمجرد معرفة “نهايته” … وأحيانًا “بدايته”! فلا يعود مجالًا للتجربة والخطأ البشريين؛ تؤخذ العبرة من ماضيه، ويلتمس في حاضره ومستقبله التوفيق من الله؛ بل يتحول السعي ل”نهاية التاريخ” إلى هدفٍ “ديني” قائم بذاته. فالمؤمن هنا لا يتحقق خارج الطوبيا الموهومة؛ أي لا يتحقق إلا باكتمال حلول القداسة في التاريخ، ثم في الأرض، وفي الصورة التي توهَّمها عن الأمة.

4- تشوّه منطلقات الحركة وضلالها عن غايتها الربانية، بعد أن تحولت وجهتها عن مرضاة الله أينما كانت إلى نقطةٍ بعينها داخل التاريخ؛ نقطة مرغوبة يتم إسباغ كل هالات القداسة عليها. ومن ثمّ تتبنى الحركات الإسلامية براغماتية “مصالح ومفاسد” مادية آنية. براغماتية “إلحاديّة” لا علاقة لها بمصلحة الدعوة إلى الله، وما قد يفسدها.

5- اختزال النهج/السبيل، الذي يجب أن تسلكه الحركة الغائية إلى الله؛ في منهج نظري يمتحن عليه دين الناس قربًا وبعدًا، برغم أن هذا المنهج النظري نفسه قد انفصل عن الممارسة/الحركة، لحساب براغماتية “المصالح والمفاسد”!

……

إن التربية ليست وقود الحركة الإسلامية، بل هي الحركة ذاتها؛ فلا حركة بغير تربية/تزكية. إن جوهر الحركة هو المكابدة الدائمة داخل صيرورة التربية/التزكية. وولوج هذه الصيرورة، خضوعًا للتكليف؛ هو ما يُسمّى عندنا ب”الحركة الإسلامية”. أما ما عدا ذلك؛ فأحزاب وتنظيمات لا تختلف كثيرًا عن مثيلاتها العلمانية، بل هي أضل سبيلا؛ ذلك أنها لا تُوقِفُ الحركة الإنسانية التاريخية وتخلُد إلى واقعٍ سياسي واجتماعي واقتصادي جاهليٍ مُنحطٍ فحسب، بل لأنها أصلًا تُلفِّقُ من انبطاحها “إسلامًا” تاريخيًا معياريًا تُحاكِم إليه الناس. إنها تجتهد في إيقاف حركة كل المسلمين ليوافقوا فرقتها/حزبها في إخلادها، ويا ليتها نالت حظًا من الريادة الحركية/الاجتهادية؛ بل هي محض دليلٍ عن انحراف وجهة الحركة الإسلامية، وإخلادها مُنتكسة بوجهتها إلى الأرض؛ وحاجتها إلى إعادة تقويم. ولم يجعل الله من أداة لتقويم خلقه سوى تربية النفس وتزكيتها. والله يُزكّي من يشاء، وهو السميع العليم.