تناقلت وسائل الإعلام العالمية مساء الإثنين الماضي، خبر تعرّض جامعة «أوهايو» بالولايات المتحدة الأمريكية لهجوم على يد شاب من أصل صومالي يدعى عبد الرزاق علي أرتان، وهو الهجوم الذي خلف تسعة جرحى في حرم الجامعة بعد دهسهم بسيارة الأخير وطعن بعضهم بسكين كان يحملها في يده، وذلك قبل أن تقتله الشرطة، كما نقلت وسائل إعلام أمريكية.

و تقليديًا فسيثير الهجوم الأخير كما هو متوقع، كما أثارت الهجمات الأخرى قبل ذلك الجدل مجددًا حول الإسلام وعلاقته بالعنف، ذلك دون التوقف ولو مرة واحدة بشكل ملائم عند الخلفيات الاجتماعية والنفسية لتلك الظاهرة التي أضحت مصدًرا لهواجس الكثيرين. ظاهرة العنف القادم من مسلمين، تلك التي أثمرت ما يعرف اليوم بحالة «الإسلاموفوبيا» أو رهاب الإسلام، التي تصاعد انتشارها في المجتمعات الغربية، منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وتكللت تلك الحالة بوصول ترامب المعروف بخطابه المعادي للمسلمين للبيت الأبيض.

تعددت الدراسات التي ناقشت علاقة الإسلام والعنف، دون نقاش جدي لأي من تلك الهجمات و منفذيها في ضوء خلفياتها الاجتماعية وسياقاتها المحلية، كما يتم تناول وتحليل أي عمل من أعمال العنف في أي ثقافة أو مجتمع آخر، ودون إدانة الإطار الثقافي والحضاري الذي يصدر منه بعض الجانحين و المختلين برمته، وهو ما يحدث فقط في عالمنا الراهن فيما يبدو مع الإسلام والمسلمين فحسب.


هل كان المتطرفون «الإسلاميون» إسلاميين حقًا؟

عمر متين: «الإيدز» قد يكون السبب

لم نجد في هذا الإطار أي تناول ملائم للخلفيات النفسية والحالة الاجتماعية والشخصية لمرتكب جريمة ملهى المثليين في أورلاندو بولاية فلوريدا الأمريكية، عمر متين على سبيل المثال، الذي لم يكن أصوليًا إسلاميًا، بل كان يعاني صراعًا نفسيًا فيما يبدو مع مثليته الجنسية التي اتضحت لاحقًا في إطار تطور التحقيقات والتغطية الإعلامية للقضية، بل ومن مشكلته الخاصة تحديدًا مع مجتمع المثليين اللاتينيين، كما ذكر صديق مثلي له يدعى ميجيل في لقاء مع شبكة Univision الأمريكية، حيث عانى متين من هؤلاء كما ذكر الأخير بالنبذ، وشعر بأنهم يستغلونه، فضلاً على أنه قد أقام مع شخصين منهم علاقة جنسية غير آمنة، أخبره أحدهم بعدها أنه يحمل فيروس الإيدز، وهو ما تسبب في الأخير بأزمة نفسية حادة قبيل حادثة إطلاق النار مباشرة؛ ولذلك لم يكن مستغربًا بالنهاية أن نجد معظم القتلى بذلك الملهى في تلك الليلة كانوا من أصول لاتينية.[1]

بوحلاج: «الإرهابي» الذي لم يكن متدينًا

كما لا تجد كذلك في هذا السياق تناولاً تحليليًا معمقًا على المستوى ذاته يتحرى خلفيات شخصية محمد لحويج بوهلال منفذ هجوم نيس في يوليو / تموز الماضي، الذي أسفر عن مقتل 84 شخصًا بعد دهسهم على يد الأخير، إذ لم يكن كذلك بوهلال إسلاميًا «متطرفًا» كعمر متين، بل كان شخصًا له خمس سوابق جنائية سابقة؛ إحداها يتعلق بالعنف المسلح، فضلاً عن شهادة المحيطين به حول تعاطي الأخير الكحوليات، وميوله الجنسية المزدوجة، وانغماسه في أنشطة مشبوهة، وهو ما يبعد الأخير عن دائرة التدين في حدوده البسيطة فضلاً عن الأصولية الدينية بداهةً.[2]

و هو ما ينطبق أيضًا في السياق نفسه على اللاجئ السوري منفذ هجوم انسباخ بجنوب ألمانيا في يوليو/ تموز الماضي، الذي كان يعاني من اضطرابات نفسية وحاول الانتحار مرتين قبل أن يلقى مصرعه في ذلك الهجوم المشار إليه.

هجمات باريس: إرهاب ديني أم انتفاضة مهمشين؟

وعلى مستوى أكبر بعض الشيء في الإطار ذاته، لم يتوقف الكثيرون كذلك كما ينبغي للنظر أيضًا إلى هجمات باريس في نهاية العام الماضي، في ضوء خلفية تاريخية واجتماعية شديدة الأهمية في السياق الفرنسي؛ ألا وهي أحداث اضطرابات 2005 العنيفة بين شباب الضواحي وبين الشرطة الفرنسية، التي اتُهم المسلمون في ضواحي باريس الفقيرة وقتها بإشعالها.

وقد أعدت مجموعة الأزمات الدولية عام 2006 في هذا الإطار دراسة اقترحت فيها أن توقف الدولة الفرنسية -من جانبها أولاً- العنف الذي تمارسه الدولة ضد الضواحي العمالية التي تقطنها أغلبية مسلمة، والعمل على إشراك سكانها المسلمين في العملية السياسية.[3]


ليس ثمة «إرهاب عالمي»، لتحلّ كل دولة مشكلاتها الداخلية

يقدم الباحث الفلسطيني بكلية هارتفرد بجامعة أكسفورد هاني عواد -في معرض تناول هجمات باريس العام الماضي- تحليلاً شديد الأهمية، يذكر فيه أن العوامل الثقافية لها أهمية خاصة في دراسة مختلف الظواهر الاجتماعيّة بما فيها العنف. ولكن هذا لا يعني بحسب عواد جوْهرةَ الثقافة بالنهاية والتعامل معها وكأنّها مفصولة عن ظروف إنتاجها الاجتماعية. فالحركات الاجتماعية وأعمال الاحتجاج سواء كانت سلمية أو عنيفة مصدرها ومحركها في الغالب هو عوامل محلية حسبما يقول؛ لأنه وفي عصرِ العولمة وانتشار وسائل الإعلام والتواصل رغم أن الناس يتأثرون بغيرهم و يقلدون أو يحاكون إستراتيجيات وتجارب احتجاجية أخرى في العالم كما يذكر، ولكنهم ما يفعلون ذلك غالبًا بحسبه، للإجابة على تساؤلات تخص ظروفهم المباشرة.[4]

و يضيف عواد بأنه وعند وقوع أحداث عنفٍ في أوروبا أو في أمريكا، يبدأ بعض المحللين الحديث بإطناب عن دور العولمة بتحويل «المحلي» إلى «عالمي»، إذ هنالك سيل جارف من الدراسات و المقالات -حسبما يقول- تخلصُ إلى نتيجةٍ مفادها أن الإسلام الجهادي بدأ كظاهرةٍ محلية في أفغانستان ثم تحول بفعل وسائل الاتصال إلى ظاهرة عالمية. ولكن أغلب هؤلاء ينسى أو يتناسى كما يقول أن الوجه الآخر للعولمة (Globalization) هو ما يُسمى في العلوم الاجتماعية «التبيئة» (Localization)، وهي العملية التي يربطُ من خلالها الناس في مُدنهم وقراهم «العالمي» بالـ«المحلي» ويصبحون قادرين على إيجاد علاقة حقيقية أو متوهمة بين ما يحدث في القاهرة أو دمشق أو كابول وبين ما يحدث في باريس أو لندن أو نيويورك، ويوحدون بالتالي بين الأعداء هنا وهناك.[5]

http://gty.im/497361680

و لهذه الأسباب يذهب عواد إلى أن الادعاء بأنّ ثمة ثقافة إسلامية أو جهادية أو وهابية ذات طابعٍ عالمي حرّكت مسلمين لارتكاب أعمال إرهاب في باريس أو غيرها هو مغالطة منطقية، فالثقافات كما يقول لا تنتقل بالعدوى، وأنه إذا كان هنالك من ثقافة حركت هؤلاء لارتكاب أعمال العنف الديني والإرهاب فإنها ستكون بحسبه ثقافةً فرنسية بالنهاية؛ أي ثقافة المهمشين الفرنسيين التي تحاول الرد على التمييز والإقصاء الاجتماعي والطبقي بإستراتيجياتٍ تلجأ إلى الجريمة والعنف الدينيّ وسياسات الهوية.[6]

و يقول عواد إن القاسم المشترك لدى جميع من كُشف عنهم ممن شارك في هذه الهجمات حتى الآن هو كالآتي:

1. جميعهم وُلدوا بضواحٍ فقيرة وبعضها مشهورٌ بالعنف والجريمة والعديد من المنفذين من له سوابق جنائية بالفعل [7]2. جميعهم بلا استثناء حديثو التدين؛ اثنان على الأقل من المنفذين عُرف عنهما تعاطي الكحول، وواحد على الأقل سبق اتهامه بتعاطي المخدرات. لم يُعرف عن أحد المنفذين ارتياد المساجد. إحدى الصُحف وصفت المنفذين بأنهم «بلْطجية صِغار تطرفوا». [8]

ويختتم عواد حديثه بالنهاية قائلاً بأن معرفة هؤلاء بالدين لا تُقارن بالمرة بمعرفتهم بألعاب الكمبيوتر والإنترنت والحياة الليلية والموسيقى وأفلام هوليوود. فهم بحسبه أبناء حياة الصَخَب وليسوا بالمرة أبناء مساجد ولا يعرفون لا ابن تيمية ولا ابن عبد الوهاب.[9]


سجل جنائي مليء بالجرائم: الدين ليس وحده في قفص الاتهام

و عطفًا على ما أورده عواد عن الخلفيات والسوابق الجنائية لمنفذي هجمات باريس، تشير الإحصائيات من جهة أخرى أن خمسين بالمائة ممن التحقوا بداعش قادمين من بلجيكا وحدها هم مدانون سابقون.[10]

و لا يشذ منفذو عملية الهجوم على صحيفة شارلي إبدو في 7 يناير / كانون الثاني 2015، شريف كواشي وأحمد كوليبالي، عن هذا النمط المتكرر، إذ كانوا أيضًا سجناء سابقين في جرائم سرقة وسطو مسلح.[11]

http://gty.im/461125704

وهذا النمط الملحوظ لا ينطبق فقط على هؤلاء الأوروبيين السابقين من ذوي الأصول العربي، بل إن العديد من الأوروبيين أنفسهم الذين انضموا للتنظيم؛ كالبريطاني إين ديفيز قاطع الرؤوس المعروف، لهم بدورهم ماضيهم الجنائي الخاص أيضًا، حيث كان الأخير على سبيل المثال زعيمًا لعصابة للاتجار في المخدرات بلندن وتعرض لعقوبة السجن.[12]

و قد كان من أبرز الغربيين المنضمين للتظيم عدد من من مطربى الراب و الـ(Gangsters rap) تحديدًا؛ كمطرب الراب الألماني دينيس كوسبرت الشهير بـ(ديسو دوج) والمطرب الأمريكي دوجلاس ماك آرثر. واللافت هنا أنه رغم عمل هؤلاء بالمجال الفني وشهرتهم النسبية، إلا أنهم يتمتعون كذلك بسوابق جنائية.

و تطول تلك القائمة للسلفيين الجهاديين من الجنائيين السابقين لتشمل العديد من الوجوه الجهادية المعروفة كسالم بن غانم أحد أهم قيادات تنظيم الدولة الفرنسيين، صاحب السجل الجنائي المعروف المتعلق بجرائم تتعلق بالسرقة والاتجار في المخدرات، وكذلك محمد مراح منفذ هجمات تولوز الشهيرة في 2012 لصالح تنظيم القاعدة، وهو مدان سابق في جرائم سرقة وارتكاب أعمال عنف.[13]

و في أسبانيا، وبعد أن تم إسقاط خليتين تابعتين لتنظيم القاعدة، إحداهما للسوري عماد الدين بركات أبو الدحداح، والأخرى التي تم اكتشافها في “مليلية”، تفاجأت السلطات الأسبانية أن مئات العناصر الجهادية الموجودة لديها في السجون بعد القبض على أعضاء تلك الخلايا هم من الجنائيين السابقين.[14]

ويعد الشخص صاحب الفضل الأول منذ البداية في وجود تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام بالشكل الذي هو عليه اليوم، نموذج واضح أيضًا على ذلك النمط المطرد، إذ كان أبو مصعب الزرقاوي، القائد السابق لتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، السلف التنظيمي «للدولة الإسلامية» له تاريخ شخصي مثقل بالقضايا والسوابق الجنائية في ماضيه السابق، وسجل جنائي حافل بالجرائم.

و يذكر الصحفي والإعلامي يسري فوده في كتابه «في طريق الأذى» شهادة من وثائق عُثر عليها في إحدى الأماكن التابعة لتنظيم القاعدة في أفغانستان، كان من المفترض أن يرسلها أحد «المجاهدين» لأخيه [15]، ويقول جزء من نص الرسالة:

أخي الحبيب عبد الرحمن …. وجودي مع هؤلاء الناس هنا قد زعزع إيماني بعقيدتي وبجدية الجهاد، فطبعهم شرس وماضيهم مليء بالأعمال الإجرامية، حتى بعضهم لا يستطيع قراءة القرآن. من جهة التدريب فإنني أُعتبر أفشل وأبطأ الموجودين، فكل يوم نتدرب على استعمال السلاح، وكذلك نتدرب على السرقة والكذب وممالقة الآخرين.. فتصور عليَّ أن أخبئ أغراضي الشخصية، خصوصًا المصحف الذي أهديتني إياه؛ حتى لا يختفي مثلما اختفت ساعتي في أول أسبوع وصلت فيه إلى المخيم.

إلا أنه رغم كل تلك الدلائل وغيرها التي تشير إلى أوجه أخرى لطبيعة العنف القادم من بعض أبناء الأقليات المسلمة في الغرب، يظل حتى الآن التعاطي مع أعمال العنف المتكررة والمستمرة في هذا الإطار حبيسًا للصور النمطية السائدة والمقولبة في التيار السائد في وسائل الإعلام والرأي العام الغربي التي تربط الإسلام مباشرةً بأي عمل معاصر من أعمال العنف؛ ولذلك سنتناول في هذا الإطار في الجزء الثاني من هذا المقال لعلنا أن نسهم قليلاً في المستقبل في الحد من هيمنة تلك التصورات السائدة، بمزيد من التفصيل النسبي سيسيولوجيا الظاهرة، وأغوارها الاجتماعية البعيدة عادةً عن التناول.


[1] صديق متين «المثلي» يدّعي أن الإصابة بالإيدز سبب هجوم أورلاندو، تقرير منشور على موقع سكاي نيوز عربية بتاريخ الخميس 23 يونيو, 2016 على الرابط أدناه. [2] هل وضع مسلم له ميول جنسية متعددة فرنسا على شفا حرب أهلية؟، تقرير منشور على موقع هافينغتون بوست عربي نقلاً عن The Daily Beast الأميركية بتاريخ 19/07/2016. [3] فرنسا ومسلموها: الاضطرابات، الجهادية، ونزع الصيغة السياسية، ملخص تنفيذي لتقرير من إعداد مجموعة الأزمات الدولية، باريس/ بروكسل، 9 آذار 2006. [4] هاني عواد، ثقافة فرنسية لا إسلامية، مقال منشور للباحث الفلسطيني هاني عواد على حسابه على موقع التواصل الاجتماعى facebook بتاريخ November 19, 2015.[5] المصدر السابق.[6] المصدر السابق.[7] المصدر السابق.[8] هاني عواد، ثقافة فرنسية لا إسلامية، مقال منشور للباحث الفلسطيني هاني عواد على حسابه على موقع التواصل الاجتماعى facebook بتاريخ November 19, 2015.[9] المصدر السابق. [10] عائشة نصار، بالأسماء والعمليات.. خطوات تصتيع الإرهابي في سجون أوروبا، جريدة الفجر المصرية، العدد 555, الخميس, 24 مارس 2016. [11] المصدر السابق. [12] المصدر السابق. [13] المصدر السابق. [14] المصدر السابق. [15] يسرى فودة، في طريق الأذى – من معاقل القاعدة إلى حواضن داعش، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 2015، ص 81.