أثار فوز دونالد ترامب المفاجئ برئاسة الولايات المتحدة موجةً من الاحتجاجات الواسعة، قوامها فئة الشباب بالأساس، في مختلف الولايات الشرقية والغربية.

صوّت معظم الشباب والسود واللاتين وساكني المدن الكبرى لصالح هيلاري كلينتون، في حين حظي دونالد ترامب بشكل رئيسي بأصوات الفئات العمرية الأكبر سنًا من البيض المتركزين في ريف ولايات الوسط الأمريكي؛ ما أهله للفوز بأغلبية أصوات المجمع الانتخابي بـ 306 مندوبًا في مقابل 232 مندوبًا لمنافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون.

لكن ترامب في حقيقة الأمر مدين بفوزه للنظام الانتخابي الأمريكي العتيق، والعائد للقرن الثامن عشر، أكثر منه لأصوات الناخبين؛ إذ حصل ترامب على 62 مليون صوت؛ أي أقل بمليوني صوت عن الـ 64 مليون ناخب، الذين أدلوا بأصواتهم لصالح هيلاري كلينتون.


مسألة قديمة جديدة

تعود أصول النظام الانتخابي الحالي في الولايات المتحدة إلى أواخر القرن الثامن عشر؛ إذ يرجع ميراثه بالأساس إلى أحد الأفكار الرئيسية التي كانت محل جدل بين «الآباء المؤسسين» إبان نشأة الولايات المتحدة الأمريكية، وهي اعتبار الدولة الأمريكية إطارًا لاتحاد مجموعة من الدول يحتفظ كل منها بمساحة واسعة من الاستقلالية لتطبيق القوانين والرؤى التي تريدها؛ أي أنها بالأصح «اتحاد الدول الأمريكية» أكثر منها «ولايات» تابعة للمركز.

في مقابل هذا المبدأ كان عدد من الآباء المؤسسين، مثّلوا أقلية، أكثر ميلًا للفكرة الداعية إلى صهر كيان هذه الولايات، أو «الدول المؤسسة»، في كيان الدولة الكبيرة «الولايات المتحدة»، ومنح قوانينها ومؤسساتها التشريعية والقضائية والتنفيذية قدرًا واسعًا من السلطة والتحكم في هذه الولايات.

ورغم انتصار المبدأ الاستقلالي وإقراره في القانون والدستور بشكل واضح، بلغ حد منح كل ولاية حق «تشكيل ميليشيات عسكرية خاصة بها» (كضمان لحماية الولاية، والأفراد، من تغول السلطة المركزية)، وكان من أهم تجلياته تأسيس هذا النظام الانتخابي الفريد الذي يعطي كل ولاية عددًا من «أصوات المندوبين» مساويًا لعدد ممثليها في الكونجرس الأمريكي، ويعطي جميع أصوات هؤلاء المندوبين، للمرشح الفائز في الولاية، مع استثناء بسيط يتجلى في ولايتي ماين ونبراسكا.

لمزيد من التفاصيل حول النظام الانتخابي في الولايات المتحدة :دليلك لفهم الانتخابات الأمريكية.

رغم هذا الانتصار الظاهر للمبدأ الاستقلالي، إلا أن الزمن كان كفيلًا بتآكل هذه الاستقلالية رويدًا رويدًا. بدأ ذلك مع رئاسة لينكون الذي قرر شن الحرب الأهلية الأمريكية ضد الولايات الجنوبية، التي أعلنت انفصالها رفضًا لقرار لينكون القاضي بتحرير العبيد. دامت الحرب الأهلية الأمريكية 4 سنوات وراح ضحيتها 650 ألف شخص، إلا أنها قد انتهت إلى إجبار الولايات الجنوبية على العودة إلى كيان الولايات المتحدة، وتطبيق قانون تحرير العبيد المركزي قسرًا في هذه الولايات.

كانت هذه بادرة تلتها مزيد من الحوادث التي رسخت يومًا بعد يوم من سلطة الحكومة المركزية والمباحث الفيدرالية، التنفيذيتين، وزادت من هيمنة المحكمة الدستورية على التشريعات التي تسنها الولايات لنفسها. كل هذا بالتزامن مع تطور المواصلات ووسائل التواصل والإعلام؛ الأمر الذي سمح باندماج سكان الولايات وتداخلهم؛ ما أدى في المحصلة إلى مزيد من صهر كيان الولايات (الدول) المستقلة في الدولة الأكبر الجامعة.


أن يُلدغ الديموقراطيون من ذات الجحر مرتين

في عام 2000، وبينما كان بيل كلينتون يجمع متعلقاته استعدادًا لمغادرة البيت الأبيض، كان السباق الرئاسي على أشده بين المتنافسيْن: الديموقراطي آل جور، والجمهوري جورج بوش الابن. حبس الجميع أنفاسه ترقبًا وانتظارًا لنتيجة ولاية فلوريدا الحاسمة، بعد أن جمع آل جور 266 صوتًا انتخابيًا وأصبح قاب قوسين أو أدنى من الفوز .

إلا أن بوش الابن استطاع حسم الولاية لصالحه بفارق 537 صوتًا عن آل جور؛ ما مكنه من الفوز بجميع أصوات مندوبي الولاية الـ 29 في المجمع الانتخابي وأهّله بالتالي للانتصار في الانتخابات.

ربح بوش الابن انتخابات عام 2000 بعد أن حصل على 271 مندوبًا من إجمالي عدد المندوبين، رغم حصول آل جور على 51 مليون صوت، بفارق يزيد على النصف مليون صوت عن غريمه بوش؛ إلا أن النظام الانتخابي «العجيب» أهدر أصوات نصف مليون مواطن في عموم البلاد، في مقابل 537 صوتًا «فلوريديًا»، وأهدى البيت الأبيض على طبق من فضة للجمهوريين.

بعد 16 عامًا، وفي سباق رئاسي أكثر حدة واستقطابًا؛ تكررت الكوميديا السوداء. استطاع المرشح الجمهوري دونالد ترامب الفوز بمعظم الولايات المتأرجحة بفارق ضئيل عن منافسته هيلاري كلينتون؛ الأمر الذي مكنه من الحصول على كافة أصوات مندوبي هذه الولايات وتحقيق الفوز في السباق الرئاسي، رغم حصول هيلاري على أغلب أصوات عموم الناخبين وبفارق يتجاوز «الـمليونين» عن عدد الأصوات التي نالها ترامب.


لنتخلص من كل هذا العبث

بغض النظر عن السبب الحقيقي وراء ذلك، سواء أكان براجماتية أو إيمانًا بفكرة استقلالية الولايات، يميل الجمهوريون، وناخبوهم، المحافظون، البيض، الأكبر سنًا، والمدافعون بشدة عن «حقهم الدستوري» في حمل السلاح و«تأسيس الميليشيات»، للحفاظ على شكل النظام الانتخابي العتيق القائم في الولايات المتحدة.

يأتي هذا على النقيض من شباب عصر العولمة، الأكثر تواصلًا واندماجًا وانفتاحًا على المهاجرين، ومختلف الأعراق والأفكار التي تشكل المجتمع الأمريكي، والذي يميل بطبيعة الحال إلى الحزب الديموقراطي. يطالب هؤلاء الشباب بإلغاء نظام «المجمع الانتخابي» القائم؛ إذ يرون فيه نظامًا ظالمًا لا يساوي بين أصوات المواطنين الأمريكيين، وتعود أصوله إلى زمن بائد، كان التواصل فيه بين الولايات محدودًا ومتعسرًا؛ ما يجعله غير متلائم مع القرن الحادي والعشرين؛ في مقابل إقرار نظام جديد يسمح بانتخاب الرئيس مباشرة من عموم الشعب، ويساوي بين أصوات المواطنين.

كان من الطبيعي، في ظل هذا الميل المزاجي والواقع الديموغرافي، أن تأتي المطالبات بإلغاء المجمع الانتخابي وتعديل نظام الانتخابات، لتصبح بالتصويت المباشر من قبل المواطنين، من الحزب الديموقراطي، متزايد الشعبية بين الشباب، كما كان من الطبيعي أن يمسي هذا التعديل أحد أهم الوعود الانتخابية لمرشحة الحزب هيلاري كلينتون.

في هذا الإطار بادرت عدد من الولايات الزرقاء (الديموقراطية)، ككاليفورنيا وماريلاند وهاواي، على مدار السنوات الماضية بالدعوة لتشريع قانون عام، يلزم مندوبي مختلف الولايات بالتصويت لصالح المرشح الحاصل على أغلبية أصوات المواطنين في عموم الولايات المتحدة، لا للمرشح الحائز على أغلب أصوات الناخبين في ولايتهم التي يمثلونها فقط.

رغم أن هذا الاقتراح قد يعني، إذا ما تم إقراره جدلًا، أنه بإمكاننا أن نستيقظ يوم التاسع عشر من ديسمبر/كانون الأول لنجد أن هيلاري كلينتون قد أصبحت «رئيس الولايات المتحدة الخامس والأربعين»، إلا أن ذلك لن يحدث على الأرجح نظرًا لخوض المرشحين للانتخابات وفقًا للنظام الانتخابي القائم، والذي سيعد أي تغيير له بعد ظهور النتائج نوعًا من الاستهانة بالقوانين والناخبين معًا، لاسيما وقد اعترفت هيلاري كلينتون، ومن ورائها الحزب الديموقراطي، بالهزيمة.


إذن لماذا يعيد الحزب الديموقراطي طرح مبادرته هذه الآن بينما لم تبرد بعد حرارة الانتخابات ولم تتوقف الاحتجاجات في الشوارع ضد نتيجتها غير المتوقعة؟!.

تكمن الإجابة في أن الحزب الديموقراطي لا يهدف من وراء هذه المبادرة إلى إعلان هيلاري كلينتون فائزة بانتخابات التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني، بقدر ما يهدف إلى استغلال الحراك القائم، وموجة الاحتاجاجات التي تشهدها البلاد، للدفع نحو إقرار قانون انتخابي جديد، يصب في صالح مرشح الحزب الديموقراطي في الانتخابات الرئاسية المقبلة (2020) ولا يهدر التفوق في أصوات عموم الناخبين الذي يحظى به الحزب كل مرة. لاسيما وأن الانتخابات القادمة، بعد هذا المنعطف الدراماتيكي الذي تمخضت عنه انتخابات 2016، ستكون علامة فارقة وحاسمة في التاريخ الأمريكي، وربما تاريخ العالم أجمع.