صحيح أن الثورة الإيرانية وحركة المجاهدين الأفغان «تركتا أثرًا في الوجدان والعاطفة والعقل، وأضافتا أبعادًا أخرى في تلمس الحركة الإسلامية لدورها المقبل»، وأنه كان للثورة في إيران رمزية خاصة من حيث موقفها المباشر من القضية الفلسطينية، كما يقول خالد مشعل في حوار صحفي قديم معه؛ إلا أن العلاقة الفعلية بين حماس وإيران بدأت بعد ذلك بزمن طويل، وتحديدًا بعد أربع سنوات على تأسيس حماس.

يمكن القول إن الثورة الإيرانية كانت واحدة من أعظم الأحداث الكبرى التي أخذت تدفع حركة التاريخ في الثلث الأخير من القرن الماضي نحو تحولاتها الكبرى، وكان وقعها على الفلسطينيين هائلاً، سواء على ثورتهم وحركتهم الوطنية، أو على الإسلاميين منهم.

وبالرغم من كل ما يمكن قوله عن التوظيف الإيراني للقضية الفلسطينية في سياق مشروع خاص، لاسيما بعد تراجع أفق الثورة لصالح ضيق الدولة، فإن الوعي الإيراني استدخل إليه القضية الفلسطينية منذ وقت مبكر، كما في مظاهرات العام 1950 التي انطلقت من المدرسة الفيضية في مدينة قم ردًّا على اعتراف الشاه بـ «إسرائيل»، وتبادله الممثليات معها.

كان الموقف من «إسرائيل» هو موقف من الشاه نفسه، فقد ألغت حكومة مصدق قرارات الشاه بخصوص العلاقة مع «إسرائيل»، وسمت جماعة نفسها في العام 1965 باسم «حركة تحرير إيران من براثن الصهيونية»، وحتى الخميني نفسه أخذ يسمي البهائيين بعملاء «إسرائيل»، وفي العام 1968 التقى بممثلين من حركة فتح وأفتى بوجوب مساندتهم، ولو بدفع قسم من «حق الإمام» إليهم.

وهكذا بدأت العلاقات مبكرة جدًّا بين مناوئي الشاه، وفصائل الثورة الفلسطينية، سواء من قوى اليسار الإيراني، أو من الإسلاميين الإيرانيين الذين أخذوا منذ العام 1969 يتدربون في معسكرات فتح، وكان ياسر عرفات أول زعيم أجنبي تطأ قدماه طهران بعد الثورة، وتحديدًا في 19 شباط/فبراير 1979.

منحت الثورة الإيرانية رافعة إضافية للإخوان المسلمين في فلسطين، ومع ذلك كان موقفهم منها مركّبًا.

إسلاميًّا؛ دفعت الثورة الإيرانية الإسلاميين الفلسطينيين إلى الأمام. أخذ اليسار الفلسطيني في التراجع، وبدأت مجموعات يسارية داخل فتح بالتحول نحو الإسلام، بينما اندفع الشهيد فتحي الشقاقي نحو الخميني والثورة الإيرانية، وكان أكثر الإسلاميين الفلسطينيين تأثرًا بها.

أما الإخوان المسلمون الفلسطينيون، وإذ منحتهم الثورة الإيرانية رافعة إضافية إلى جانب الروافع الأخرى التي أخذت تتشكل في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، فإن موقفهم منها كان مركّبًا. ولكن، وعلى أي حال، فقد كان من آثار ثورة في الشرق القصي، الغريب لغة ومذهبًا، على بلد صغير كفلسطين؛ فوز الكتلة الإسلامية الوليدة لعامين دراسيين متواليين بانتخابات مجلس الطلبة في جامعة النجاح.

افتقر الإخوان المسلمون الفلسطينيون إلى الوعي الطائفي كما هو شأن أكثر جماعات الإخوان العربية، إذا استثني منها الجماعة السورية والجماعات الخليجية، وعلى الأرجح فإن الإخوان الفلسطينيين قد اطلعوا على الأدبيات التي تحدثت عن علاقات نواب صفوي، وجماعته «فدائيان إسلام» بالإخوان المسلمين في مصر، ومن قبل ذلك علاقات البنا ببعض رجالات الشيعة الإيرانيين، وما انبثق عن تلك العلاقات من مؤسسات للتقريب بين المذاهب وما شابه، دون أن يتعمق الإخوان الفلسطينيون في الدرس المذهبي، أو أن يتوفر لديهم شغف معرفي بهذا الخصوص.

من المفارقات الطريفة الدالة على رؤية الإخوان الفلسطينيين المركبة للثورة الإيرانية، ما يذكره إبراهيم غوشة الناطق الرسمي السابق لحركة حماس، في مذكراته الموسومة بـ (المئذنة الحمراء)، عن المظاهرات التي نظمها الإخوان الأردنيون بمناسبة انتصار الثورة الإيرانية، وكيف أن عبد الله عزام، الذي صار تاليًا رمزًا إخوانيًّا جهاديًّا قريبًا من الفضاء السلفي، كان «أكثر رموز الإخوان اندفاعًا مع الثورة الإسلامية في إيران»، ولكنه تراجع عن موقفه بعد هجرته إلى أفغانستان، وبعدما تبين له «أن البعد الشيعي يطغى على الثورة الإسلامية».

ومع ذلك تولد وعي طائفي طارئ لدى الإخوان الفلسطينيين، بحكم التحسس من المجموعة الجديدة التي أخذ في تشكيلها الشهيد فتحي الشقاقي، وبَنت خطابها على نقد الإخوان، وضمنته دعاية للثورة الإيرانية، واهتمامًا بالغًا بالتقريب بين السنّة والشيعة، بيد أن هذا الوعي الطارئ سرعان ما تراجع دون أن يتطور إلى موقف طائفي، أو إلى حالة معرفية.

يمكن القول إن الاتصال الأول بين حماس وإيران، كان في العام 1990، في مؤتمر صغير أقامته طهران لدعم الانتفاضة.

بعد تأسيس حماس، يمكن القول إن الاتصال الأول بين حماس وإيران كان في العام 1990، في مؤتمر صغير أقامته طهران لدعم الانتفاضة حضره عن حماس القيادي المؤسس فيها خليل القوقا، ثم تطور إلى علاقات أوسع مع المؤتمر الثاني الذي كان في العام 1991، واستفادت منه حماس في فتح مكتب تمثيلي دائم لها في إيران، بينما شكل الإبعاد إلى مرج الزهور، فاتحة لتعزيز علاقاتها بما صار لاحقًا المحور الإيراني بأطرافه المتعددة.

بالإضافة إلى الدعم والتدريب العسكري الذي أخذت تقدمه إيران لحماس في أواسط تسعينيات القرن الماضي، وانتقال قيادة حماس إلى دمشق بعد إخراجها من الأردن؛ كان فوز حماس بالانتخابات التشريعية في العام 2006، وتشكيلها الحكومة، ثم حسمها العسكري لصراعها مع فتح في غزة، واحدًا من أهم عوامل تعزيز علاقة حماس بالمحور الإيراني، الذي وفر لها الغطاء الإقليمي، ونوافذ العلاقات الدولية، بالإضافة للدعمين العسكري والمالي.

لكن ما كان يتعزز في الأعلى، كان يتراجع في الأسفل، مع بدء انتشار السلفية، بانفجار ثورة الاتصالات التي أدخلت إلى الفلسطينيين -ومنهم جمهور حماس- وعيًا جديدًا بالتشيع، وقد أخذت هذه المعرفة بالتعاظم من بعد العام 2003؛ أي من بعد احتلال العراق، واطلاع الفلسطينيين على نموذج شيعي لا يتسق والتصورات التي خلقتها دعاية الثورة الإيرانية وملحقاتها، وهو ما ساهم في هزّ الموقف من إيران وحزب الله اللذين بديا كحلفاء للقادمين على ظهور الدبابات الأميركية!.

ظل الأمر يتعاظم لدى قواعد حماس حتى لم يعد محتملاً مع الثورة السورية، فقد مارس جمهور حماس ضغطًا هائلاً على قيادتهم، التي كانت غالبًا غائبة عن الجدل الذي ينفتح بالتدريج لدى القواعد بحكم تزايد أدوات المعرفة والاتصال لديهم، ودون أن تتمكن؛ أي القيادة، من صياغة وعي سياسي لدى جمهورها بطبيعة تحالفاتها وما تتضمنه من نقاط التقاء وافتراق، ودون أن تتمكن على المستوى الخارجي من صياغة خطاب سياسي يراعي مصالحها ويوضح احتياجات ثغرها والأمانة التي تتولاها.

مع خروج حماس من سوريا، انقطعت علاقتها بالنظام السوري، وانقطع الدعم الإيراني دون انقطاع العلاقة، ليتبين أن ثمة افتراقًا هائلاً في التصور حول طبيعة التحالفات، ومنذ ذلك الحين ومحاولات تحسين العلاقة قائمة، وقد أخذت حيزًا واسعًا من الجدل الداخلي لدى حماس، لاسيما وأن الآمال التي بنتها الحركة على الثورات العربية انهارت سريعًا، وقد ظهر أنها كانت مستعجلة، وتنم عن ضعف في قراءة التحولات التي لم تزل تحفر في عمق المنطقة العربية.

مع خروج حماس من سوريا، انقطعت علاقتها بالنظام السوري، وانقطع الدعم الإيراني دون انقطاع العلاقة.

كان الخروج، من سوريا –في رأيي- حتميًّا، فبالإضافة للأسباب الأخلاقية، والإستراتيجية البعيدة، والأمنية القريبة، كان الوسط الذي تتحرك فيه حماس واسعًا، وفيه من يتبنى موقفًا شديد الانحياز للثورة السورية، ولكن الحركة، على ما يبدو لم تعالج المسألة في النقاش الداخلي على نحو واسع ودقيق.

كما أنها تبنت خطابًا خارجيًّا وسع موقفها من رفض الانحياز للنظام السوري، إلى ما يشبه تحولها إلى طرف في الأزمة، على نحو لا يناسب ظرفها ويفوق إمكانياتها، ودون أن تستفيد من ذلك في فتح بدائل إقليمية، ودون أن تكون الأثمان الباهظة التي تكلفتها جراء موقفها من الثورة السورية مقنعة لدى أطراف في الثورة لم تزل تحاسب حماس على علاقاتها الماضية بالنظام السوري أو علاقاتها المستجدة مع إيران!.

لم تكن الخلافات داخل حماس حول إدارة العلاقة مع إيران خافية على المراقبين، وتحديدًا من بعد استشهاد قائد القسام أحمد الجعبري، إذ دفعت قيادة القسام بعد ذلك نحو تحسين العلاقة مع إيران، كما ظهر في كلمة القسام بعد الحرب الأخيرة على غزة والتي شكرت فيها إيران، أو في تعزيتها بسمير القنطار.

منذ فترة والعلاقات، ومنها الدعم، آخذة في التحسن، حتى قبل فوز يحيى السنوار برئاسة حماس في غزة، ولم تكن مشاركة حماس في مؤتمر دعم الانتفاضة الأخير الذي عقد في طهران في 21 شباط/ فبراير الجاري، سوى إعلانًا لنتائج الجهود المبذولة منذ فترة لاستئناف العلاقات بشكلها السابق.

تظل حماس الآن أمام جملة من التحديات، والتي أهمها الاستفادة من تجربتها الماضية في إدارة علاقات إقليمية متوازنة ومدروسة، وصياغة خطاب يتسم بالرصانة ويتجنب الخفة والارتجال، ويراعي المؤثرات على قواعدها وعناصرها، ولكن الأهم أن تحسن قراءة التحولات الإقليمية والدولية، ولاسيما مع ما يبدو حتى اللحظة من موقف أمريكي يحاول إعادة تشكيل محور عربي لمواجهة إيران.