كان المشهد مليئًا بالغموض والتناقض حينما خرج عادل الجبير وزير الخارجية السعودي في الثالث من يناير/كانون الثاني لعام 2016،ليعلن عن قطع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بين الرياض وطهران على خلفية الاعتداء على المقار الدبلوماسية السعودية بالداخل الإيراني، لتظهر المملكة العربية بهذا القرار بمظهر الدولة القوية التي تستطيع الوقوف في وجه الجمهورية الإسلامية؛ تلك الدولة التي لا تكف عن تدخلاتها المستمرة في الشؤون الداخلية لدول الخليج العربي.

وهكذا تُظهر السعودية نفسها كقائد لمنطقة الخليج، تتخذ القرارات والمبادرات لتتبعها دول مجلس التعاون بعدد من من الخطوات العقابية المتفاوتة، فرأينا البحرين تخرج في ذات اليوم لتعلن عن قطع علاقاتها الدبلوماسية مع إيران، في حين استدعت قطر والكويت سفراءهما في طهران.

وفي خضم هذا المشهد التصعيدي الملتهب، نرى الإمارات تكتفي بتخفيض التمثيل الدبلوماسي لها في طهران من سفير إلى قائم بالأعمال دون أن تتأثر العلاقات التجارية بين البلدين أو يصيبها أي ضرر، وهكذا تبعتها سلطنة عُمان بخطوة أكثر تهاونًا في التعامل مع الموقف، إذ اكتفت فقط بالإعراب عن أسفها لما تعرض له مقر سفارة المملكة.

في ظل هذا الموقف الخليجي المتفاوت كان لابد من أن نتساءل عن سبب هذا التباين في العلاقات مع إيران، والتي لا يكاد يمر يوم دون أن يخرج علينا أحد المسؤولين الخليجين وخاصة وزراء الخارجية ليعلنوا ويأكدوا الموقف الخليجي الموحد في وجه النفوذ الإيراني ومحاولاتها المستمرة لزعزة أمن واستقرار دول الخليج.

فلماذا إذن التفاوت والتراجع عندما يتعلق الأمر باتخاذ خطوات فعلية على أرض الواقع؟، هل لهذا علاقة بطبيعة العلاقات المتباينة بين دول مجلس التعاون وإيران؟.


الخليج وإيران: حروب تصعيدية أم مصالح متبادلة؟

يمكن في هذا السياق القول بأنه لا يوجد من بين الدول الخليجية -باستثناء الإمارات وعُمان- من يملك علاقات تجارية وثيقة مع إيران، إذ تنظر هذه الدول إليها باعتبارها خطرًا إستراتيجيًا، لا يكاد يمر يوم أو مناسبة معينة دولية أو إقليمية حتى تكرر هذه الدول عباراتها المستمرة ويخرج بيانها الختامي ليندد بالتدخلات الإيرانية ويستنكر ممارساتها بالمنطقة داعيًا إلى تصدي المجتمع الدولي لها.

فالبنسبة إلى السعودية -على سبيل المثال- وفي ظل التوتر السياسي المستمر بين البلدين، لم يتجاوز حجم التبادل التجاري بين البلدين الـ500 مليون دولار، هذا وقد أعلنت فيما بعد عن قطع علاقاتها الاقتصادية مع طهران تزامنًا مع قطع العلاقات الدبلوماسية. كما يرجع ذلك الانخفاض إلى وجود معوقات أساسية للتبادل التجاري المباشر بينهما من عدم التنسيق المباشر بين رجال الأعمال في الجانبين تأثرًا بمناخ التوتر السياسي بينهما، وعدم وضوح الصورة لديهما عن احتياجات كل طرف باحتياجات الطرف الآخر.

أما البحرين، تلك الدولة التي دائمًا ما تشجب وتخرج لتؤكد معاناتها المستمرة من المشروع الإيراني الطائفي بها، فإنها بحكم الجوار مع طهران فقد ارتبطت معها بعدد من العلاقات الاقتصادية البسيطة أيضًا، حيث وقع البلدان اتفاقًا يتعلق بمنع الازدواج الضريبي ودعم التبادل لتسهيل الاستثمار البحريني في إيران.

وكان هناك أيضًا تعاون مصرفي بين البلدين من خلال إنشاء بنك المستقبل الإيراني عام 2004، والذي يتخذ لنفسه مقرًا بالمنامة، كمشروع مشترك لتوسيع نطاق الأعمال التجارية بين اقتصادات دول الخليج وإيران، إلا أنه واجه ضغوطًا سياسية متواصلة حتى أصبح الآن مهددًا بالإغلاق إثر قطع العلاقات بين البلدين.

وبالنسبة إلى قطر، فالوضع مختلف إلى حد كبير عما سبقها، ففي إطار المساعي القطرية الحثيثة وإستراتيجيتها لتوسيع استثماراتها العالمية، فقد كان الجار الإيراني أحد التوجهات الاستثمارية للدوحة.

عملت قطر على تعزيز هذه العلاقات التجارية عبر الإعلان عن إنشاء منطقة مشتركة للتجارة الحرة داخل إيران، وفي ظل التطور في العلاقات بين الدولتين جاءت اتفاقية إقامة منطقة اقتصادية حرة مع إيران عام 2014، في مدينة بوشهر لتؤكد حرص البلدين على إقامة مشاريع صناعية واستثمارية مشتركة.

فيما سارت الكويت على خطى قطر، وشهدت علاقاتها الاقتصادية مع إيران نموًا ملحوظًا عام 2015، أسفر عن توقيع عن توقيع ست اتفاقيات تعاون في المجال الاقتصادي، واتفاقية بشأن التعاون في الشؤون الجمركية؛ لتسهيل إجراءات التبادل التجاري بين البلدين.


الإمارات تغرد بعيدًا

عودٌ على بدء، يمكن القول إن هذه العلاقات التي سبق ذكرها في جانب والعلاقات بين الإمارات وإيران في جانب آخر، فحدّث ولا حرج عن العلاقات التجارية بين الطرفين، والتي تستحوذ فيها الإمارات على 80% من التبادلات التجارية بين طهران ودول مجلس التعاون، كما تعد إيران رابع شريك تجاري للإمارات، حيث يوجد أكثر من عشرة آلاف شركة إيرانية وهو ما يجعل الإمارات ثاني أكبر شريك تجاري لإيران.

ولا تخفي الإمارات هذا الأمر، فقد أكد وزير الاقتصاد الإماراتي سلطان المنصوري، صراحة بأن حجم التبادل التجاري بين بلاده وإيران بلغ 17 مليار دولار بنهاية عام 2014، فيما قُدّر حجم هذا التبادل التجاري بـ 15.7 مليار دولار في عام 2013 و 17.8 مليار دولار في عام 2012 و 23 مليار دولار في عام 2011 و 20 مليار دولار في عام 2010.

ومنذ فرض العقوبات الدولية على إيران، كانت الإمارات، وإمارة دبي تحديدًا، بمثابة المنفذ الرئيسي للاقتصاد الإيراني، وللجزء الأكبر من الواردات التي يحتاج إليها.

عملت دبي كمنطقة ترانزيت للتجارة الإيرانية، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل وصل إلى حد تأكيد العديد من التقارير والتصريحات الرسمية الأمريكية أن الكثير من الشركات العاملة في تجارة إعادة التصدير في دبي كانت ممرًا رئيسيًا لعبور بعض المكونات ثنائية الاستخدام المدني-العسكري التي أسهمت في تمكين إيران من مواصلة تطوير برنامجها النووي.

وفي هذا السياق شكّل قطاع الطيران والقطاع المالي مجالًا رئيسيًا للتعاون بين البلدين، وتعد دبي مركزًا إستراتيجيًا لخدمات الطيران في المنطقة. وبينما تسببت العقوبات على طهران في تدهور القطاع المالي بها، إلا أن دبي تحتضن المقرات الإقليمية لمعظم البنوك الكبرى الراغبة في الاستثمار في أسواق الشرق الأوسط وأفريقيا، وهو الأمر الذي تستفيد منه إيران لقربها منها، فالرحلة الجوية بين طهران ودبي لا تستغرق سوى ساعتين.


ماذا عن السلطنة؟

وأخيرًا عن العلاقة بين سلطنة عمان وإيران، فيلاحظ أنها تحذو حذو الإمارات ولكن بوتيرة أقل، فهناك نمو ملحوظ في التبادل التجاري المباشر بين البلدين، حيث تشير الإحصاءات إلى أن التبادل التجاري بينهما في العام 2015 بلغ 560 مليون دولار، وها قد لامس المليار دولار في أكتوبر الماضي.

هذا وتشكل قطاعات المناجم والنفط والبتروكيمائيات أبرز القطاعات التي تستهدفها عمان بالداخل الإيراني، كما يسعى كلا البلدين لبناء سوق إيراني بالقرب من العاصمة العمانية مسقط.

دعونا لا ننسى التساؤل الذي تم طرحه من قبل حول دور العامل الاقتصادي في العلاقات بين الطرفين، فبعد هذا الاستعراض السريع يمكن القول إنه بالفعل الاقتصاد، فقد كان سببًا رئيسيًا في التراوح والتباين في هذه العلاقات الخليجية مع إيران، وإلى اليوم لا يمكن الجزم أيهما تابع للآخر، السياسة أم الاقتصاد؟!.

فالدول التي لاترتبط بشكل تجاري كبير مع إيران، مثل السعودية والبحرين، هي الدول التي اتخذت نهجًا تصعيديًا واضحًا عبر قطع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية، أما الدول التي ترتبط بعلاقات تجارية ومصالح متبادلة مع طهران فقد اكتفت فقط بتخفيض مستوى العلاقات والإعراب عن الأسف كما فعلت الإمارات وسلطنة عمان، ولكن مع التأكيد على ضرورة الحفاظ على العلاقات التجارية بين الطرفين على مستواها، بل وتطويرها ما دام في الإمكان ذلك.

لكن مع هذا يجب التأكيد أن العامل الاقتصادي ليس هو السبب الوحيد أو المحدد الرئيسي لطبيعة العلاقات بين المحورين، فهناك بالطبع العديد من العوامل الأخرى المتعلقة بالأساس بسياسة كل دولة من دول الخليج. فهناك مثلًا الإمارات، التي تتبع سياسة براجماتية في علاقاتها مع إيران تقوم على تعزيز المصالح التجارية بين الطرفين والاستفادة منها على الرغم من الاحتلال الإيراني لجزرها الثلاث (طنب الكبرى والصغرى وأبو موسى).

أما عن سلطنة عمان فهي تتبع سياسة مختلفة إلى حد بعيد في علاقاتها مع دول الخليج، حيث لا تسير على خطاها، سواء من حيث محاولاتها لتعزيز العمل الخليجي المشترك كما هو الحال في فكرة الاتحاد الخليجي الموحد أو علاقاتها مع إيران، حيث يمكن القول إن عمان تسير على سياسة مسك العصا من المنتصف في سياساتها تجاه الجانبين.


تعاون اقتصادي برغم العداء: هكذا تكون السياسة الدولية

وختامًا، يثار تساؤل أخير حول المنطق من هذه العلاقات التجارية بين إيران ودول التعاون الخليجي في ظل هذا الكم من التوتر والتصعيد المستمر والاتهامات المتبادلة أو الحرب الكلامية بينهما؛ هل الأمر يتعلق فقط بالتجاور الجغرافي والمصالح الاقتصادية أم أن هناك عوامل أخرى؟.

إجابة على هذا يمكن الإشارة إلى أنه بجانب العوامل الاقتصادية والعوامل الجغرافية هناك العوامل المتعلقة بمنطق العلاقات الدولية، والذي يقوم على الشد والجذب وعدم خلق العدو بصورة صريحة، إلى جانب عدم تضييق الخناق عليه وترك منفذ للهرب أو مجال للحوار، حتى لا يؤدي ذلك إلى التصعيد العسكري وما يترتب عليه من نتائج فجة.

ومن هنا يدرك الجانبان الخليجي والإيراني ضرورة ألا تقوم العلاقات بينهما على القطيعة التامة وأن توجد مثل هذه العلاقات التجارية المتبادلة تخفيفًا لحدة التوتر بينهما حفاظًا على الأمن القومي لكل منهما.