من الصعب أن ينجو أحد من شعور خفي بالانزعاج أو الغرابة أثناء مكوثه في عالم البؤساء لـ«فيكتور هوجو»، ما أتحدث عنه هنا هو ذلك التدخل الأخلاقي والاشتباك القيمي الذي يصدر من الراوي تجاه أحداث الرواية. لا يكتفي الراوي بالسرد على غرار ما يقتضيه كونه راوٍ عليم وليس شخصية من الشخوص، بل يصدر أحكامه الأخلاقية بين الحين والأخر منتقدا أو مشيدا بأفعال الشخصيات.

كان بإمكان هوجو أن يتخلى عن هذا الراوي ويجري أحداث روايته على ألسنة شخوصه وبهذا كان بإمكانه أن يصدر أحكامه الأخلاقية كما يشاء دون العبث ببنية الرواية ودون أن يشعر القارئ بالوصاية المفروضة عليه، لكن أزعم أنه كانت تراوده نفس المعضلة ونفس التساؤل الذي يواجهه كل من قرر السير في طريق المثقف. لم يرد هوجو التخلي عن البنية، عن الصورة الكاملة، عن الحقيقة الكونية التي تتجاوز الشخوص لكنه لم يستطع الإمساك بالقيمة ولم يكن بإمكانه أن يقرر التصرف الأخلاقي دون هذا الاشتباك.

يخطر على البال أحيانا في هذا السياق مشهد عجيب لـ«حنة أرندت» وهي تركب في مؤخرة شاحنة تعبر بها الحدود هاربة من البطش النازي، ربما في تلك اللحظة بالذات قررت أن تتخلى عن الفلسفة التي برعت فيها وأن تتخلى عن دور «الراوي العليم» الذي كان بإمكانها أن تكونه، وقررت أن تسلك طريقًا آخر يكون باستطاعتها من خلاله الاشتباك والدفاع عن نفسها كـ يهودية.

إذا تمت مهاجمتك كيهودي لا يكون بوسعك إلا أن تدافع عن نفسك كيهودي.
حنة أرندت

في هذه العبارة تنفي حنة كل إمكانية للهروب من معركة الوجود، وكل تشبّث بمقاعد عُلوية أو أبراج عاجية يلجأ إليها المثقف كسلا أو خوفا؛ هذا التمزق والصراع ليس أحادي الطرف بل هو قوتان تعملان في اتجاهين متعاكسين، تدرك ذلك في أول ليلة في الزنزانة حين يُغلق الحارس البابَ الحديدي الصدئ والثقيل، وحين يعم الصمت، ولا يبق أمامك سوى الجدار، ولا تجد عن يمينك جدارًا وعن يسارك جدار. حينها ربما يجول بذهنك أن التفكير عديم الجدوى، أو التثقف هذر لا قيمة له، فما يهم في النهاية هو القوة التي نجحت في أن تنزع عنك ذاتك وحريتك، في تلك اللحظة بالذات يكتسب فعل التثقف قيمة مضاعفة ليس كونه هواية أو رفاهية، بل اختيار واع وخطير ومحاولة إلى النفوذ إلى ما خلف القوة المجردة أو الحتمية الواهية.

قليل من المثقفين المشتبكين نجا من تلك اللحظة، من لحظة الأسْر التي تعرّضت فيها جدوى ثقافته للإمتحان، لم ينجُ منها «باسل الأعرج» ولا «عمر المختار» و لا «علي شريعتي» ولا «أنطونيو غرامشي» ولا «برتراند راسل» ولا حتى «حنة أرندت». لكن السجن ليس هو المحنة الوحيدة التي تمتحن إيمان المثقف بجدوى ثقافته، فاللحظة التي تلقى فيها عبدالوهاب المسيري ضربة من عصا الجندي وهو يقف بجانب عشرات المتظاهرين الآخرين أثناء مظاهرات حركة كفاية لا تقل كثافة ولا ديمومة عن لحظة اغلاق باب الزنزانة.

هذا الجمع بين الثقافة والاشتباك، بين الرؤية والحركة هو معضلة المثقف وأزمة المشتبك، فلا يكون أمام أي منهما بدّ إلا أن ينصاع لمقولة باسل الأعرج:

بدك تصير مثقف ؟ لازم تكون مثقف مشتبك. واذا ما بدك تشتبك لا فيك و لا في ثقافتك!

بين المثقف العضوي والمثقف المنفي

ربما ليس بالإمكان الحديث عن دور المثقف وفعله دون المرور على ماهيته وجوهره وكيفية تشكله. ربما يجوز لنا أيضا في هذا السياق تجاوز السيرورة و التمظهرات التاريخية للمثقف ودوره وصولا إلى أهم نسقين متقابلين يمكننا البحث من خلالهما عن هذه الماهية وهذا الجوهر.

يقف مثقف غرامشي العضوي الشهير معبرا عن أحد هذين النسقين حيث يرى غرامشي أن لا وجود لمن يسمون بغير المثقفين إذ أن أبسط المهن اليدوية تتطلب قدرا معينا من التفكير ورؤية معينة للوجود. يصبح دور المثقف في هذه الحالة هو تزويد الفئة أو الطبقة الاجتماعية المنتمي إليها بنظام التجانس الخاص بها و بوعيها حول ذاتها ووظيفتها ورؤيتها للعالم.

تصبح مهمة هذا المثقف الذي نتج عن الطبقة أو الفئة الاجتماعية وارتبط بها وبمؤسساتها الثقافية هو قيادة عملية تفكيك الهيمنة الثقافية التي تمارسها الطبقات الأخرى أو بمعنى آخر الأيديولوجيات الباقية من العهود السابقة لحكم الطبقة إذ أن البنى العلوية الثقافية والروحية لا تنهار بانهيار الطبقة وتبدل مواقعها إنما تكتسب استقلالية خاصة ويصبح من الضروري تفكيكها ونقدها من قبل المثقف العضوي.

يرى غرامشي كذلك أن للمثقفين استقلالهم النسبي عن الطبقة التي ينتمون إليها فهم ليسوا انعكاسا للطبقة الاجتماعية بل منظمين ومربين ومشكلين لوعيها وتجانسها. يأتي استقلالهم كذلك بسبب المنظمات الوسيطة التي يعملون من خلالها إذ قد تزيد هذه المنظمات الفجوة بين المثقفين والطبقة التي ينتمون إليها.

في مقابل هذا المثقف العضوي الذي خلق من بطن الطبقة ويعمل لأجل هيمنتها ولأجل وعيها وتماسكها يأتي مثقف إدوارد سعيد المنفي، يرى سعيد أن المثقف هو ذلك الموهوب ذو الشخصية الفريدة التي تمكنه من حمل رسالة ما أو اتخاذ موقف ما. بالنسبة لسعيد فإن ممارسة فعل التثقف من خلال طبقة ما أو مؤسسة ما يفرغ الفعل من مضمونه ويحرف المثقف عن وظيفته الرئيسية وهي مهمة نقدية بالأساس.

يطل هذا المثقف اللامنتمي على مجتمعه من المنفى الذي فرض عليه أو فرضه على نفسه وتبرز أهمية المنفى هنا في تجريده للمثقف من مصالحه وأهوائه الشخصية إذ يصبح قادرا من موقعه ذاك على رؤية مواضع الخلل والخطأ في البنى الاجتماعية والسياسية ويصبح بإمكانه إتخاذ مواقفه الأخلاقية والقيمية دون خوف من تأثير مصالحه الشخصية عليه. على هذا المثقف أن يكون كونيا أن يبشر بقيم كونية وإن من خلال قضيته الوطنية والقومية الخاصة. لا يخشى ادوارد سعيد على مثقفه من العزلة والتقوقع فهذه العزلة وهذا التقوقع أو المنفى بتعبير سعيد هو ما يؤهله لفعل النقد في المقام الأول.


الاشتباك بين الحتمية الفلسفية والاختيار الفردي

إن مفهوم «اشتباك المثقف» ليس قيمة عليا تشكل جوهره من حيث هو مثقف بل إن هذا الإشتباك في حد ذاته ينطلق أحيانا من رؤية فلسفية تبرره أو حتى يكتسب طابعه من إنعدام هذه الرؤية الفلسفية. ربما تكون ثنائية ( الناشط السياسي – المصلح الاجتماعي) التي تمثلها المقابلة بين (برتراند راسل – حنة أرندت) هي النموذج الأمثل لإلقاء الضوء على منطلقات الاشتباك في المقام الأول.

كلا الفيلسوفين راسِل و أرندت صبغا وجه النشاط السياسي والفكري في القرن العشرين بما يمثلانه من ذورة الاشتباك التي قد يصل إليها المثقف إلا أن اختلاف المنظور الفلسفي لكل منهما أدى إلى بروز نمطين من النشاط الثقافي الملتحم بالواقع. كان راسل بالإضافة إلى كونه فيلسوفا ورياضيا ومنطقيا من أبرز الناشطين السياسيين في القرن العشرين ابتداءً من الحرب العالمية الأولى وحتى وفاته في 1970، كما كان داعية سلام، مهتمًا بالشأن العام والدفاع عن حقوق المضطهدين، نشيطًا في مجال نزع الأسلحة النووية، ومحاكمات مجرمي الحرب، وكان لمؤسستيه «السلام الأطلسية» و«برتراند راسل للسلام» المتخصصة في جهود نزع السلاح أدوار رائدة في المجتمع المدني أدت في النهاية إلى تشكيل أول محكمة دولية لمحاكمة مجرمي الحرب سميت بـ «محكمة راسل لمحاكمة المجازر» التي ارتكبتها الولايات المتحدة في فيتنام.

مع هذا النشاط الكبير الذي لعبه برتراند راسل إلا أنه كان في إطار الناشط السياسي، أي أن نشاطه كان بدافع المواطنة والمسؤولية الفردية وليس الإلزام الفلسفي، وهي المساحة التي أتاحتها له فلسفته الوضعية المنفصلة عن التاريخ، والتي ترى أن الفلسفة في النهاية تبحث عن القيم الكونية، واللازمنية ويبقى الفعل التاريخي مرهونا بالفرد.

على الجانب الآخر اتخذت حنة أرندت الهاربة من البطش النازي طريق المصلح الاجتماعي؛ فهي لم ترَ مكانا للفلسفة خارج إطار التاريخ، ولم تر دافعا للتفلسف والتثقف خارج فعل الإصلاح الاجتماعي؛ لهذا ركزت في أعمالها على نقد البنى الهشّة للحداثة التي أدت إلى نشوء الدول التوتاليتارية، وذلك في كتابيها الرئيسين «الدولة التوتاليتارية» و «الوضع البشري». في المحصّلة لم يكن فعل حنة أرندت الثقافي منفصلا عن رؤيتها للتغيير، بل كانت ترى أنهما امتداد لجوهر واحد هو رسالتها كمثقفة وفيلسوفة سياسية.

ربما تكمن ذروة هذه المقابلة بين النشاط السياسي للفيسلوف ومهمة الإصلاح الاجتماعي في ذلك الجزء من المناظرة الشهيرة بين الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو الذي يرى أن مهمة المفكر تقتصر في الكشف عن آليات عمل السلطة، وتمثلات القوى في المجتمع، بينما يبقى النشاط السياسي موقفا فرديا نابعا من المسؤولية الفردية لا مسؤولية المثقف.

في المقابل يرى عالم اللغويات والناشط الأمريكي نعوم تشومسكي أن التبشير بشكل أكثر عدالة للمجتمع هو من واجبات المصلح الاجتماعي الذي لا يجب عليه الاكتفاء بالنقد إنما بتقديم تصوره الخاص لمجتمع أكثر عدالة. يمتد هذا الافتراق بين الفليسوفين بعيدا حتى في رؤيتيهما للطبيعة البشرية ففوكو الذي يرى أن الإنسان رهين بيئته الثقافية والاجتماعية، من هنا لا يؤمن فوكو بالقيم الكونية إنما بقيم محلية متغيرة حسب الزمان والمكان، على عكس تشومسكي الذي هداه عمله في اللغويات إلى وجود مبادئ فطرية أساسية موجودة لدى البشر تمكنهم من الإبداع؛ لهذا آمن بوجود قيم كونية وبتصور عام للعدل يجب السعي نحوه.


الدرس الكانطي

إن المقاربات والنظريات والنماذج التفسيرية التي يستعين بها المثقف والفيلسوف وعالم الاجتماع لا تشكّل سوى البنية، أو مجرى النهر الذي يسير فيه الفعل الاجتماعي وسيرورة الشعب التاريخية، لكن القيم بما هي متولدة عن الحركة، وفي تغير وتطور مستمر لا يمكن إدراكها إلا بالسباحة في النهر، وملامسة الماء واختباره ولمسه وتذوقه، فليست كل الأنهر سواء.

قد يصبح من المفهوم لدى المثقف في لحظة ما أن فعل المقاومة والثورة فعل واجب طبقا للحتميات والبنى التي تحكُم التاريخ، لكنه دون ممارسة الفعل والاشتباك معه تغير عنه اعتبارات القدرة والظرف الاقتصادي والاجتماعي، وربما حتى حالات الناس السيكولوجية والذهنية. دون اشتباك لا يكون بمقدور المثقف الحكم على السياسي ونقده نقدا صحيحا أو أخلاقيا، فلا يكون بإمكانه أن يعتقد أن المفاوضات في لحظة زمنية ما خيانة، أو أن العمل العسكري تهوّر أو انتحار، تلك أحكام مناطاتها التجربة والقدرة والإرادة.

إذا كان بإمكاننا إنزال الدرس الكانطي عن الأشياء وعدم قدرة الإنسان على معرفتها لذاتها دون تجربة؛ فإن التجارب الاجتماعية والتاريخية لا يمكن كذلك إدراكها وفهمها ونقدها دون اشتباك معها!

المراجع
  1. أنطونيو غرامشي .. المثقف العضوي
  2. عن المثقف والثورة، عزمي بشارة مايو 2013
  3. "المثقف والسلطة" إدوارد سعيد
  4. "الفلسفة في زمن الإرهاب" جيوفاني بورادوري