لقراءة الحلقة الأولى


برغم كل شيء لم يبتلع عماد فكرة أنه صار من مواطني (زور). كان يحمل كل ذكرياته وحنينه للأرض، ويشعر بشوق عارم لزوجته. ترى إلى أي مدى يعتبر زواجك من كائن في بُعد آخر خيانة لمها زوجتك؟

كان بحاجة لـ (كيفياليبانماياسوش) لأنها تقوده في ظلمات ذلك العالم كما فعلت بياتريس مع دانتي في رحلته للعالم الآخر، ثم إن لديه اليوم طفلاً جميلاً. وكانت (كيفياليبانماياسوش) تؤكد له أنه سيأتي يوم يجد نفسه فيها على كوكبه في ذات اللحظة التي فارقه فيها.. لكن هناك مشاكل معقدة .. هل يعود لنفس الزمن؟ هل يحتفظ بنفس الحجم الذي بدأ الرحلة به؟

كان الأمر شبيهًا بجليفر .. لربما وجد نفسه عملاقًا وسط أقزام ويقيدونه بالحبال لرمال الشط، أو يجد نفسه قزمًا ينام في قوقعة … يحتاج لما هو أكثر من الحظ كي يعود لنفس الحجم بالضبط. وماذا عن نفس الزمن؟ الأمر شبيه بقصص الخيال العلمي.. لربما يجد نفسه في عصر الحروب الصليبية أو عصر غزو المكسيك أو عصر الحرب العالمية الأولى ويختنق بالغاز.. كل شيء وارد.

كانت (كيفياليبانماياسوش) مهتمة بمعرفة كل شيء عن عالم عماد، ووجهت له الكثير من الأسئلة وقد أجاب عن كل سؤال، لكنه لم يظفر بالفهم في كل مرة. كانت هناك أشياء لا تفهمها ولا تتصورها. زور عالم مغلق متكامل لا ترى فيه السماء أو البحر، بالواقع هناك بحر وسماء داخل هذا التكوين العضوي الشبيه بالرحم؛ لهذا لم تتصور (كيفياليبانماياسوش) قط أن هناك من يركب طائرة يعبر بها الأجواء، كما أن أشياء مثل الرعد والبرق بدت لها غريبة تدل على التخلف.

ذات مرة فتحت الطاقة المطلة على الخارج، وسمع عماد في ذهنه جملة تتكرر:

-«العالم رقم 1865 – أ»

رأى (كيفياليبانماياسوش) تتجه للطاقة لنتطلق منها ثم دعته هو وأشرف – الذي تسميه (جراموسانتافونمك) – كي يتبعاها. في الخارج كان عالم حبييبي غريب كأن عاصفة رملية هبت هنا منذ وقت وجيز. وفي الخارج رأى كتلاً هلامية عملاقة بحجم الشاحنة تزحف.. ولاحظ أن لها أنوية ضخمة وأن المادة الهلامية رقراقة تتحرك حركة دوامية دائمة. بعض الكتل كان كرات عملاقة وبعضها كان أقرب لمستطيلات ضخمة.

ثم بدأ يفهم. سألها في ذعر:

-«هذه بكتيريا أليس كذلك ؟»

-«نحن قضينا على هذه الكلمة لكني أعرف معناها من الكتب .. هذا صحيح»

-«معنى هذا أننا في حجم الفيروس!»

-«أعرف معنى هذه الكلمة كذلك»

كانت إحدى الكتل تدنو من الطاقة في خطى بطيئة لكنها واثقة، فقالت (كيفياليبانماياسوش) في ذهنه:

-«من الحكمة أن ندخل. هذه الكتل تبدو خطرة»

بالطبع .. من السهل أن تفترس خلية البكتيريا الفيروسات، دعك من أن حجم الفيروس هنا لابد أنه يماثل الطفل الصغير. ترى ما حجم البشر هنا؟ لابد أنهم عمالقة لدرجة عدم استيعابهم، ولربما كان أحد البشر هو الأرض التي يستقر فوقها عالم (زور).. كانت هناك قصة خيال علمي شهيرة لستانسلاف ليم، ينزل فيها رواد الفضاء فوق كوكب عملاق اسمه سولاريس، ثم يكتشفون أن الكوكب كائن حي.

هكذا انغلقت الطاقة من جديد.

كانت في كل يوم تجلسه أمام الشاشات وتعلمه أشياء عن زور، لكنها ظلت تجهل أمورًا كثيرة عن الأرض.. لماذا لا ينشغل أطفال أرضنا بتبادل الجينات البيولوجية؟ يمكنك نقل خبرات كاملة عن طريق نقل الجينات لطفل فيصير مهندسًا أو عالمًا..

قال لها عماد:

-ـ«الأطفال لابد أن يلعبوا ويقضوا وقتهم في الرسم ومحاولة تعلم حروف الكتابة»

لم تفهم ما معنى الرسم، ولم يجد قلمًا أو ورقة يشرح لها فيها معنى الرسم..

قالت له وهي تنظر للشاشة:

-ـ«هذا العالم يدعى 1917 – ب. أعتقد أنه رحب ودود .. يمكننا أن ننزل ونرى»

انفتحت الكوة .. أنت تعرف أنه لا بد من تصريح من ألتيما العظيم يسمح لك بالخروج، وقد قال ألتيما إنه لا يعرف الكثير عن هذا العالم لكنه لا يمانع، وفي الخارج رأى عماد ما يبدو كأنه صحراء ممتدة..

قال لها في ذهنه:

-«هل تعرفين حجمنا هنا؟»

-«لابد من حيوان أو حشرة نقارن نفسنا بها.. لربما كنا عمالقة في حجم جبل، ولربما كنا في حجم الذرات»

-خرج يمشي فوق الرمال اللينة .. لا بأس .. الهواء نقي والأرض ثابتة ..

وجد صخرة على الأرض، فأمسك بها وركع على ركبته .. بدأ يخط على التربة أشكالاً ..

-«هل هذا هو الرسم ؟»

ابتسم وواصل العمل دون أن يقول شيئًا ..

رسم عنكبوتًا لا بأس به ..ثم رسم نسرًا يفرد جناحيه … لم تكن رسومًا رائعة لكنها ترمز للشيء بشكل ذكي .. ثم أنه خط خطوطًا تمثل قردًا .. تمثل عقربًا ..

-«هل هذه مخلوقات من عالمك ؟»

-«نعم .. ومن الغريب أنه لا يوجد عالم حيواني عندكم في زور»

هلل الطفل وقد راقت له هذه اللعبة فبحث عن صخرة أخرى وراح يحاول تقليد أبيه في الرسم .. وشعر عماد برضا. لديه مما يعلمه لهؤلاء القوم، فهم مثلاً لم يسمعوا قط عن نشاط اسمه الرسم.

لكن (كيفياليبانماياسوش) كانت محبطة. قالت بلا مبالاة:

-«ما جدوى هذا النشاط؟ محاولة أن تقلد الواقع. الصور الإشعاعية بيتا جاما تفعل هذا بشكل أفضل»

لم يستطع أن يشرح لها.. هذه أشياء لا تُفسّر.. ما قيمة الفن أصلاً؟.. لا يمكن وصف الأمر في كلمات .. لو شرحت قيمة الرسم أو قيمة النحت أو قيمة الأدب، لما وجدت ما تقوله.

قال لها وهو ينهض من ركوعه:

-«هذا شيء غريزي في الناس .. منذ ملايين السنين كان رجل الكهف يرسم كل شيء على الجدران . كان يحكي بالرسوم قصة حياته كاملة»

-«لأنه لم يملك أشعة بيتا جاما.. أما اليوم فهذا تضييع للوقت»

هذه كانت المكافأة على ما بذله من جهد، وقد شعر بخجل من نفسه مع حنق شديد. تناول كف ابنه أشرف وعاد بلا كلمة واحدة إلى عالم زور.

مرت الأيام… هي تتعلم الكثير عن الأرض، وهو يتعلم الكثير عن زور، ويحاول في الوقت ذاته القيام بمهمة عسيرة؛ هي نقل بعض ثقافة الأرضيين لابنه أشرف. لكن الأمر عسير فعلاً. كيف تنقل له فكرة الوطن أو فكرة الدين ؟ هؤلاء القوم لا دين لها لكنهم يحترمون ألتيما جدًا.

جاءت اللحظة المثيرة، عندما كان جالسًا أمام الشاشة، فسمع الخاطرة تتردد في ذهنه:

-«نحن الآن في كوكب يبدو شبيهًا جدًا بالعالم الذي جئت منه !..»

يتبع