محتوى مترجم
المصدر
Jacobian
التاريخ
2017/01/17
الكاتب
سامويل إيرل

في جميع أنحاء العالم الرأسمالي وما وراءه تتشكل النوستالجيا «الحنين» للقومية وكراهية الأجانب وتظهر مجموعة من القادة القدامى والجدد ليعلنوا أن أفضل أيامنا هي التي مضت، وأنهم الأكثر كفاءة لبناء «أمس» أفضل. هم يقولون «انسوا المستقبل» فالماضي هو المكان المناسب، لكن ليس جميع الأشخاص مدعوين لذلك الماضي.

في الولايات المتحدة، يتجه دونالد ترامب صوب البيت الأبيض بعد وعده الشهير بـ «جعل أمريكا عظيمة مجددا» وإعادة الأيام الخوالي مجددا، بينما يقترح فرض حظر على هجرة جميع المسلمين لتمهيد الطريق.. وفي فرنسا، تتصدر مارين لوبان زعيمة الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة استطلاعات الرأي من خلال نفس تلك التصريحات المبهمة من رثاء لماضٍ يدعو للفخر وإلقاء اللوم على «التهديد الإسلامي» في زوال ذلك الماضي.. وفي روسيا، يتودد الرئيس فلاديمير بوتين إلى العظمة التاريخية لبلاده من أجل الهجوم على مجتمعات الـ«LGBT» وترسيخ سلطته.

في شتى أنحاء العالم، من بريطانيا إلى تركيا إلى الفلبين، نشهد متغيرات للفكرة نفسها: فيض حماسي من الحنين إلى ماضٍ يدعو للفخر مقترنا بعداء للغرباء

في شتى أنحاء العالم، من بريطانيا إلى تركيا إلى الفلبين، نشهد متغيرات للفكرة نفسها: فيض حماسي من الحنين إلى ماضٍ يدعو للفخر مقترنا بعداء للغرباء. تختلف تصورات هذا الماضي اعتمادا على الأمة لكن في نهاية المطاف، فهي ترقى إلى الشيء نفسه وهو: وطن وهمي مع شعور قوي بالانتماء إليه.

ليس ذلك الحنين بالشيء الجديد، فالذاكرة الخيالية لطالما كانت عمادا للأمم، واجترار الذكريات المبهجة أمر قديم قدم الذاكرة نفسها. وبسؤال من كانوا يعيشون قديما كيف كانوا يقضون يومهم، فهناك مثل مجري يرد على ذلك السؤال «كانت الأمور معتدلة، ليست جيدة كما كانت بالأمس، لكنها أفضل من غد».

لكن حتى وإن كان الحنين يمثل باعثا قديم الأزل، فمحتواه وأهميته على المسرح السياسي يتغيران مع مرور الوقت. وحينما ظهر الحنين كمرض فردي، تم تشخيصه للمرة الأولى من قبل طبيب سويسري في القرن السابع عشر، كان يعني حرفيا الاشتياق للعودة إلى الوطن. وزعم ذلك الطبيب أنه يمكن الشفاء من ذلك المرض من خلال تعاطي الأفيون والقيام برحلة إلى جبال الآلب. واليوم، تنقلب الآية: فالحنين يُقدم كعلاج لجميع أمراضنا السياسية.

للوهلة الأولى، ربما يبدو أن استحضار الماضي الأسعد أمر حميد، لكن جانبا كبيرا من الحنين هذه الأيام يأتي إلى جانب مجموعة من آثاره الجانبية الضارة. خلال تهميش الآخرين سواء الأجانب والمهاجرين وأفراد مجتمع «LGBT»، وجميع من لا ينتمون للوطن، يمكن للنوستالجيين الرجعيين تحويل الماضي إلى موقع للتمكين.

ومن أجل إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، فإنه يتعين رفض الآخرين. إن إقصاء الآخرين يجعل ماضي هؤلاء أكثر ثراء، الشيء الذي يمكنهم أن يزعموا ملكيتهم له.

وهذه هي السخرية السوداء التي تكمن في غضب الجوقة التي تكن العداء للمهاجرين وتقول لهم «عودوا من حيث أتيتم». ذلك الكاره للأجانب يرغب أكثر من أي شخص آخر، العودة لحظة في التاريخ حيث كان بلدهم كتلة متجانسة. أما العنصري، فشأنه شأن جميع النوستالجيين، لديه حنين إلى وطن لم يمتلكه قط.

هذه النوستالجيا، وجانبها المظلم ستكون وحشا يصعب الاستهانة به. في حين أنه يمكننا القتال من أجل المستقبل ويكون الحاضر موجودا ويمكن أن نختاره أو نتركه، فالماضي ربما يكون هو ما نريد حدوثه. على الرغم من ذلك، فإن فهم القوى التي تحرك عودة النوستالجيا السياسية، قد يساعد في إبطال مفعولها السام.

من المعروف أن الإغراء بإلقاء نظرة على الماضي يزداد بينما ينخفض الرضاء عن الحاضر ويتلاشى الإيمان بالمستقبل. إن استحضار ذكريات أفضل الأوقات بالماضي، سواء كانت حقيقية أم لا، تُعد بمثابة مخرج سهل من مشاعر انعدام الأمن والبُعد.

في يومنا هذا، تحيط بنا جميع تلك المشاعر حيث كتب عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومن «على كل مستويات الحياة البشرية، يكون لديك الموقف نفسه، وهو عدم اليقين».

إن الدافع الأساسي لعدم اليقين، على الرغم من ذلك، لا يتمثل في التعددية الثقافية أو الهجرة كما يزعم القوميون المتشوقون للماضي. لكن الدافع أعظم من ذلك بكثير ألا وهو الرأسمالية العالمية والنيوليبرالية. تخلق الرأسمالية تغيرات ضخمة داخل المجتمعات المحلية دون أدنى اعتبار للتلاحم الاجتماعي، عن طريق إخضاع كل شيء في العالم لمنطق السوق.

تظهر بشكل سريع أشكال جديدة من العمل ووسائل النقل والمواصلات والاتصالات، بينما تُهمل أشياء أخرى بنفس السرعة، وتنشأ أشكال جديدة من العلاقات الاجتماعية وتصبح علاقات أخرى بالية. وسرعان ما بدأت الأشياء حول الناس في الاختفاء بداية من سيارات الأجرة السوداء وحتى مكاتب البريد ومن مصانع الصلب وحتى مناجم الفحم، واختفت هويتهم أيضا معها.

ينبغي أن يُنظر إلى الماضي كشيء نتعلم منه ومصدر إلهام ولا ينبغي أن ننظر إليه قط على أنه شيء كامل أو إستراتيجية مفضلة بطبيعتها

من أجل التصدي للقومية المتشوقة للماضي، فليس كافيا أن يتم تجريد ذلك الماضي من الهالة التي تحيط به، والشيء الأكثر أهمية هو استعادة الإحساس بالأمل بأن مستقبلا جديدا أفضل سيأتي، وهذا هو التحدي الأعظم لليسار، فمنذ انهيار الاتحاد السوفيتي، والوفاة الرمزية لليوتوبيا التي ميزته، كان التقدم لا يتجاوز إطراء تحسينات إضافية للوضع الراهن لليبرالية الجديدة. في حين تحدث البعض عن نهاية التاريخ، لكن ما حدث هو نهاية المستقبل.

يعترف الكثيرون في اليسار بالحاجة إلى بديل جديد يبعث على الأمل، فهم يوقنون بضرورة صياغة والقتال من أجل سياسات اشتراكية لا تعتمد على الماضي. قد تكون هناك بداية جيدة من خلال إعادة التأكيد على الظلم الذي لطالما ناهضه اليسار. إن انعدام المساواة الاقتصادية هي الآفة التي تحدق بكل مجتمع رأسمالي، وهو أيضا المرض الذي يتفاقم من سيئ إلى أسوأ، والذي تبرز منه الكثير من الأمراض الأخرى.

الإحصائيات تحدثنا كثيرا عما نقصده، فمنذ الانهيار الاقتصادي في عام 2008، ذهب 95% من نمو الدخل في أمريكا إلى 1% فقط وهم أغنى الأغنياء. في بريطانيا، وبحسب مؤشر فوتسي 100 الذي صدر في 4 من يناير الماضي، فإن كبار أرباب العمل في بريطانيا استطاعوا تكوين ثروة خلال يومين ونصف أكثر مما يكسبه العمال خلال عام كامل. أما على الصعيد العالمي، فيُشار إلى أن 8 رجال فقط تقدر ثرواتهم بـ 3.6 مليارات دولار. تلك الفوارق رهيبة، وتُعد إهانة للمبادئ الأساسية للعدالة والحرية لذا فإن إسقاط التسلسل الهرمي للطبقة التي خلقت تلك الفوارق ينبغي أن يكون في صميم جميع حملات اليسار.

لطالما أحاط بنا مفهوم انعدام المساواة، لذا فإن النوستالجيا ليست خيارا. وفي غياب مفهوم المساواة الاقتصادية، سيستمر الناس في تغذية قلوبهم على الأوهام القديمة ولن ينتبهوا عندما تغدو قلوبهم أكثر وحشية.

ينبغي أن يُنظر إلى الماضي كشيء نتعلم منه ومصدر إلهام ولا ينبغي أن ننظر إليه قط على أنه شيء كامل أو إستراتيجية مفضلة بطبيعتها. عندما نستدعي الماضي بالحنين إليه، فإننا نستدعي الأخطاء والظلم والصراعات والمعاناة التي لطالما رافقته.

إن النوستالجيا لدى شخص ربما تكون كابوسا لآخر، ونحن لسنا بحاجة إلى مزيد من الكوابيس الآن.