بهذا المفتاح يعيد «عمرو صبحي» تدوير الخيبة العاطفية مرات متوالية وكأنه عالق في آلة مضبوطة على «ضبط المصنع»، وربما هذا ما يفسر جماليًا ظاهرةَ التكرارِ اللفظيّ والتصويري، بل والتعدد التصويري أيضا للشيء الواحد فيما يشبه محاولة لإعادة الإنتاج والانفلات من حصار اللغة حيث (لا شيء خارج النص)؛ فالمفردات جثث والفم تابوت وهو محاصر بين الكلمات فمه على حافة الكلام لكنه لا ينطق ولذلك فإن دريدا كان محقًّا.

لا يأخذ عمرو صبحي من التفكيكية إلا الهروب منها حيث يعمل التدوير والتكرار على تقليل فرص القارئ المشارك خاصة أن النصوص متشابكة وكأنها نص واحد طويل وبالتالي فالمؤلف ليس ميتًا أبدًا بل حاضر ومعلن عن نفسه مرارًا بطرائق عدة.

يوظف الكاتب ببراعة كل ما يوحي بعدم الصلاحية المفضية إلى إعادة التدوير كمفردات الصدأ، والوحدة، والدواء، والقمامة – جرس الباب الصدئ / شموس صدئة / الصدأ في فمي لا يتفتت / القلوب الصدئة / أجسادنا معتمة وحزننا شفيف – أحب وحدتي أكثر منك / لهب يخاف أن يموت وحيدا / في الوحدة وهي موت – حبات الدواء لا تجلب السعادة / أقراص الحموضة / أقراص بروزاك / الحموضة توقظني في الخامسة – حاوية القمامة / مخلفات قلبي / جسدي مصنع للأحذية / فلنملأ قلوبنا بالأحذية وبراميل القمامة.

ويهيئ لذلك أجواء من العتمة والتنكير والإقصاء فيما يشبه الرفض والعدائية حتى يكون كل ما سواه آخرين بلا تعريف حتى إنه يحدق في النيون بندية -ملامح باهتة / العتمة ترتاح في عيني/ وجدتني معتما / الشمس لا تفضل المبيت هنا / أبحث عن النور بيدين ممدودتين إلى العتمة – على الحافة / في الزاوية / يحدق في الهاوية / على حافة الطريق وهامش الأحداث -ألقي بالآخرين / اسحب الهواء من الآخرين / أصير مسدسًا يرسل الموت للآخرين / أصير إلهًا للآخرين / غريب يطلب قداحة.

ذا التتبع يكتشف القارئ أن الفراغ الداخلي وكسل القلب حتى صار (كالفيل يطارد فراشة)، ويقينه بالخيبة أفضى به إلى العداء المطلق حيث يُحمِّل العالمَ كلَّ شيء بينما هو لا يحاول الاجتياز بل يقول «لا تعودي لأني على الأرجح سأتركك مجددًا» – أتقمص اللاشيء / كومًا من اللاشيء / منهمكًا في اللاشيء / منحتُها اللاشيء.

يشعر الكاتب بثقل الأمر ويعلم أنه مذنب وتخاذله ملحوظ فيحتاج لبداية نصوصه تمهيدًا وإهداء وتوطئة ومفتتحًا إضافة إلى رسومات داخلية معظمها لوجوه صريحة يخرج من رأسها شيءٌ ما، ناهيك عن وضْعِ عناوينَ لنصوصِ السطر الواحد وكذلك الإحالات والاقتباسات.

هذا التدوير والتكرار لا يخص النصوص مجموعة بل على مستوى النصِّ الواحد يلجأ عمرو صبحي إليه أسلوبيًا أيضًا في أكثر من ثماني قصائد بطريقةِ تعدُّدِ التشبيهاتِ وتشابهِ الصياغة – لا شيء يوقف الزمان / لا المدن لا البحر لا الأغنية ——– 6 لاءات متتالية – لا فائدة من الحب

طالما يقف القلب مكتوفاً —— 13 طالما متتالية

– أحدثكم عن / 30 عن متتالية –

أشياء يصعب الحديث عنها / مثل ————– 10 أمثال متتالية

-الحياة / موت فقد هيبته / تفاحة مهجورة ———- 6 تشبيهات متتالية

– تقفين مثل ——- 4 تشبيهات

– أقف مثل ——– 4 تشبيهات وهكذا.

هذه الظاهرة الأسلوبية وإن وَجدنا لها مبررًا جماليًّا ووجدنا فيها قدراتٍ تصويريةً أيضًا إلا أنها وعلى مستوى مجموعة ليست بالصغيرة قد تسبب فتورًا في التلقّي خاصةً مع أُحادية الحالة ولذلك ساعد خيالُ الكاتبِ في مناطق أخرى كثيرة على إحداث التوازن المطلوب وإن لم يكن كافيًا.

والحقيقة أنّ عمرو صبحي في تجربته الرابعة وبانفتاح قراءته على تجاربَ ربما أشار إلى بعضها في الديوان قد (درّبَ نفسَه على الخيال) قبل أن تكون عينُه ذاكرةً كما يقول هو، فأبدع صورًا جديدةً وملفتة على ماديتها أحيانًا وهي كثيرة ومنتشرة لولا الزحام الذي أخفى بعضها

-يحمل وعولاً من الشك المستأنس في رأسه

-لا أخاف العدم يرعبني الوجود

-البكاء يخاصمني كأني قتلت أباه

-لي في التراب ميراث وفي الإيقاع ولادة

عبء الكلمة ثقيل كسراب من فولاذ

-إذا تخدر جرحك المفتوح فاعلم أنك تموت

-أصب الأسمنت داخلي وأهشم عظامي كل مساء

-هل كان على صورتك أن تفترش حصى قلبي كنقطة حبر تتخذ بيتا من الماء

-فتاة لا تبحث عن رجل يضع قلبها في حذائه وتضع صورته في حقيبتها

-ملوثة بالفضيلة وتحمل على ظهرها مقصلة

ومع تكرار تلك المحاولات والانفلات تفرز التجربة نَصَّين مكتملَين في رأيي ومنفردَين حتى على مستوى الصياغة وأراهما عتبةَ الكتابة القادمةِ للشاعر إذا أراد ذلك،وهُما (بورك من في النار) و(اعتزلت الغرام) حيث التخفف والنظرة الكلية واللغة التي تحيل بذاتها لا من خارجها.

في هذين النصين تحديدًا انتمى عمرو إلى التفكيكية التي وصف بها نفسَه في أول المجموعة يُذكِّر الشاعرُ قارئه أنه إيقاعيٌّ بالأساس في ثلاثة نصوص موزونة مع كل سردٍ ويشير إلى الموسيقى عامة كلما أتيحت له الفرصة.

إعادة تدوير الخيبة لعمرو صبحي تجربةٌ متسقة مع ذاتها يخطو بها الكاتب بخياله ولغته خطوةً إلى الأمام ولو تخفَّف قليلاً من التكرار والإحالات لخطى خطوتَين أشكرُ للكاتب تلك المتعةَ التي وضعني فيها وأحسده على مجازه البكر منتظرًا مجموعتَه القادمة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.