في لقاء ثري مع المفكر والمؤرخ والقاضي والقانوني المصري والرمز الإسلامي الكبير المستشار «طارق البشري»، النائب الأول لرئيس مجلس الدولة سابقًا، حول مستجدات الأوضاع في الوطن والأمة والعالم، تطرق في حوار خاص لـ«إضاءات» لعدد من القضايا الساخنة مثل قضية قطع العلاقات مع قطر وقضية جزيرتي تيران وصنافير.

س: كيف ترون هذه العملية الجارية من مقاطعة السعودية والإمارات والبحرين ومصر لدولة قطر برا وبحرا وجوا، ثم تحشيد هذه الدول لغيرها ضدها، وتصعيدها للضغوط على قطر من خلال قائمة اتهام بالإرهاب تضم عددا من الشخصيات على رأسها الشيخ «يوسف القرضاوي»، ومؤسسات أهلية وخيرية، مروجة لتمويل قطر للإرهاب، فضلا على تصريحات رسمية بضرورة تخليها عن مساندة حركة حماس، وجماعة الإخوان، أو أنها تقف في صف إيران.. ما جعل التحليلات تتضارب حول الأسباب الكامنة وراء هذه الخطوة؟

البشري: لا شك أنها عملية غير بصيرة؛ أن تقوم هذه الدول بمقاطعة قطر. وإذا كنا يمكن أن نجادل في الأسباب، لكن ماذا عن النتائج والآثار الخطيرة التي تترتب على مثل هذا العمل غير المسئول. لقد أدى ذلك الفعل إلى مزيد من تدخل وتمكن إيران وتركيا في المنطقة العربية.. طبعًا أنا لست ضد حضور الدولتين، بل إني مع التعامل معهما بإيجابية، الآن نحتاج إلى قوة التجمع بين دولنا في هذه المنطقة، لكن أن يكون هذا التدخل ضد المنطقة فضلًا على أن يكون على حساب تعاونها وتضامنها وقدراتها على استغلال مقدراتها لصالح شعوبها، لهذا يتعين أن نتفاداه.

قطر سياستها في الأساس إعلامية، واتجاهاتها أكثر إيجابية للصالح الوطني؛ أفضل من اتجاهات السعودية والإمارات ومصر، وهذا مما يزعجهم. قطر تتمثل بالأساس في قناة الجزيرة التي تتيح مساحة للتيارات الإسلامية، وللتيار الوطني الفلسطيني، وللقضية الفلسطينية، وتبدو كملجأ لعدد من التيارات والرموز الوطنية التي تخلى بقية العرب عنها؛ فيلجئون إلى قطر. ويبدو أن تلك الدول التي فرضت المقاطعة على قطر تريد أن تستكمل معاركها ضد الشعوب وممثليها في خارج أراضيها بعد أن شعرت بتسويتها للأوضاع داخليا لصالح الاستبداد بعد أن هددت الثورات استمراره.

س: ولكن ماذا عن الأطراف القائمة بالمقاطعة وبالأخص المملكة العربية السعودية؟ هل أصبح موقفها من حركة حماس عدائيا بارزا؟ وهل صارت مطاردة الإخوان أولوية في سياستها الخارجية؟

البشري: أما السعودية فسياستها في الأساس مع الولايات المتحدة؛ إيجابًا وسلبًا، وهي لم تخرج عن الخط الأمريكي في يوم من الأيام. ومن ثم فهي في الحقيقة تعمل ضد حركات الاستقلال الوطني، فضلا عن حركات التحرر السياسي الداخلي، إن لم يكن مباشرة، فبفعل التوجه العام لسياستها الخارجية، ما لم يكن للسياسة الأمريكية رأي آخر على نحو ما جرى في أفغانستان أوائل الثمانينيات.

وكون السياسة السعودية لم تكن ظاهرًا ضد حماس أو حركات المقاومة الفلسطينية عامةً من قبل، مع وضوح عداء الولايات المتحدة لهذه الحركات المقاومة، فإنما هو نوع من المواءمة السياسية لا أكثر.

أما مع الإخوان فالجاري هو توزيع أدوار: الولايات المتحدة لا تعادي جماعة الإخوان مباشرة؛ لأنها حركة سلمية وإظهار العداء لها يؤدي إلى تقوية حجج وجانب الاتجاهات الإسلامية المسلحة، لكن الولايات المتحدة في الوقت نفسه لا تريد أن يقوى أي تيار إسلامي يمكن أن يكون له دور سياسي في المنطقة العربية أو غيرها؛ ومن ثم لم ترحب بصعود الإسلاميين عقب الثورات؛ لأن الدور السياسي الإسلامي في التحليل النهائي سيكون وطنيًا، ويبحث عن سياسات وطنية مستقلة ومتميزة. كما أنه -وهذ ما حدث فعلًا في العقود الأخيرة- لم نجد حركة شعبية منظمة وعلمانية في أي من أقطارنا الإسلامية تكون وطنية مستقلة، إنما صارت كل الحركات الوطنية في بلادنا حركات ذات نزعة إسلامية.. أليس كذلك؟

النقطة الثانية المهمة أنه ثبت بالتجربة التاريخية بعد انتهاء الاستعمار القديم في صورته القائمة على الاحتلال العسكري أن الحركات الإسلامية- أو قل الفكرية الإسلامية وحدها- هي التي تستطيع أن تعبئ الجماهير وتحشدها في تشكيلات تنظيمية واسعة النطاق. وهذا ما يراد منعه ويتعين تفاديه من قبل قوى الاستبداد الداخلية في أقطارنا ومن البلاد الغربية التي تستهدف السيطرة على مصائرنا.. أليس كذلك؟

ولقد أكدت هذا المعنى ثورات الربيع العربي عامة –وبالأخص ثورة 25 يناير- التي أظهرت أن العلمانية حينما يتاح لها فرصة التشكيلات التنظيمية فإنها تفشل تماما في إقامة أي تشكيل سياسي شعبي، ولم ينجح قط حتى في الانتخابات التي تجرى إلا التشكيلات ذات المرجعية الإسلامية.

وهذان هما الوجهان اللذان تتعامل معهما السياسة الأمريكية بإظهار أنها ليست ضد التيارات الإسلامية الوسطية المعتدلة، في الوقت نفسه تشجع الحكومات القُطْرية على محاربتها والقضاء عليها.

س: لكن هذه التيارات التي تصفونها بالعلمانية تبدي موقفا وطنيا قويا فيما يتعلق بقضية الجزيرتين المصريتين (تيران وصنافير)، ومن ثم يواجهون محاولة النظام القائم التنازل عنهما لصالح السعودية، وهذا ينقلنا أيضا إلى فحص الموقف المصري الراهن، سواء في قضية الجزيرتين أو قضية قطر.

البشري: خير وبركة أن يأخذوا –أي التيارات العلمانية- هذا الموقف من الدفاع عن مصرية تيران وصنافير، ونحن نؤيد كل من يقف هذا الموقف؛ لأنهما فعلًا جزء من التراب المصري الذي لا يجوز ولا يحق لأحد ولا لأي مؤسسة أو هيئة أن تتنازل عنه أو أن تفرط فيه بإرادتها.

واستطرادًا في هذا الأمر، فأنا –بوصفي رجل قانون- أعرف دومًا أن أي شخص عندما يتخذ موقفا قانونيا فهو يدافع عن حقه فيما يستحقه، ويقدم الوثائق والمستندات والأدلة لكي يثبت حقه واستحقاقه، ويرفع الدعاوى في هذا الشأن، ويجند كل طاقاته لكي يدافع عن حقه واستحقاقاته. ولكن هذه هي المرة الأولى في حياتي وفي خبرتي القانونية والقضائية أن أجد شخصًا –وهو الدولة المصرية- يدافع عن أنها ليس لها حق، وأنها لا تستحق، وتجتهد في حجب الوثائق التي تثبت حقها وفي إظهار وتأويل أنها ليست مستحقة، وتجند الإمكانيات القانونية لمحاميها ورجال القانون التابعين لها في أن يثبتوا أنها ليس لها حق.

نحن نعرف في القانون أن الحق يتضمن المصلحة، وأي دعوى يرفعها شخص ويثبت أنه ليس له مصلحة فيما يطلب، يحكم القاضي بعدم قبولها، وهذه أول مرة أجد شخصًا -وهو الدولة المصرية- يجتهد في أن مصلحته في ألا يكون له “حق”!! هذا موقف -كما يقول الشعراء- (هذا محال في القياس بديع)!!

المهم في الموضوع (تيران وصنافير) ليس تبعية الجزيرتين لمصر أو للسعودية، ولكن المهم هو الأثر الذي يفرضه القانون الدولي على هذا الأمر.

فتبعية الجزيرتين -وخاصة تيران- للجانب المصري تعني أن المياه البحرية إقليمية مصرية، أي تابعة لمصر وليست مياهًا دولية، وهذا هو الممر الوحيد الذي يمكن أن تدخل منه السفن من البحر الأحمر إلى خليج العقبة. وتبعية الجزيرتين لمصر تقتضي وتفرض سيطرة مصر على هذا المضيق، وسلطتها القانونية في السماح وعدم السماح بالمرور فيه لأي سفن أجنبية.. وهذا ما يضع قيدًا على حرية الملاحة الإسرائيلية من خلال خليج العقبة.

أما إذا قيل بأن الجزيرتين تابعتان للسعودية، فإنه يصير هذا الممر دوليًا، ليس لمصر أي سيطرة قانونية دولية عليه؛ ولا للسعودية.

والأثر الوحيد المترتب على الخلاف حول تبعية الجزيرتين لمصر والسعودية يتعلق بالصالح الإسرائيلي في حرية المرور من خلال هذا الممر أو الامتناع إلا بموافقة مصرية.

وكل من يقف مع تبعية الجزيرتين لمصر إنما يدعم هذا الموقف الوطني المصري والعربي الخاص بحق مصر في السيطرة على حركة المرور من وإلى خليج العقبة.

وبالمناسبة الوطني والقومي عندي دائرتا انتماء متحاضنتان، والواقع هو الذي يفرض التعامل من خلالهما، وأنا أتعامل مع هذه الدوائر من مدخل كلمة الإمام الجويني -رحمه الله- ومعناها: (الأمر اللازم أو النافع إن كان ممكنا صار واجبًا). فكل دائرة تفيد الاستقلال والنهوض للأقطار والأمة فهي جديرة بالرعاية.

س: هل من دور للصراع العلماني الإسلامي فيما يجري اليوم، فثمة تحليلات أن الخليج –وبالأخص دولة الإمارات العربية- أصبح يتبنى أيديولوجية حداثية أقرب إلى العلمانية أو الإصلاح الديني، تتوازى مع ثورة دينية يجري الترويج لها في مصر، وأن هذا هو علة العداء الشديد للإخوان وحماس وقطر وربما تركيا-أردوغان أو التيار السياسي الإسلامي جملة؟

البشري: إن ما يحدث في الإمارات والخليج جدير بالاهتمام.. لكن البنية الثقافية للمجتمع هناك مختلفة عما هو قائم في مصر.

في مصر شيء مهم؛ هو أن هناك تيارًا فكريًا متماسكًا وقويًا يتبنى العلمانية، لا كحلول تطبيقية فقط ولكن كمرجعية فكرية، متأثرًا في هذا بما تربى عليه من أكثر من جيل سابق؛ من الأخذ بالفكر الغربي العلماني في أصوله النظرية، حتى صار بالنسبة لهم نوعا من الانتماء العقدي، وهو فصل الدين عن الدولة، ويسمونه في اللغة الدراجة هكذا؛ فصل الدين عن الدولة. هذا التيار بذاته يرفض أصول المرجعية الإسلامية فيما يتعلق بالنظرة الكلية التي يتبناها الإسلام رابطًا بين المرجعية الدينية والحياة المدنية.

وهذا التيار غير موجود بهذه القوة وبهذا التاريخ وبهذا التماسك في دول الخليج؛ لحداثة عهده بها هناك، ولأن من قام بالبناء الثقافي والسياسي هناك منذ نشأة الدول الخليجية كانوا من المعارين من بلاد أخرى، سواء كانوا مصريين أو فلسطينيين أو غيرهم. ولذلك يمكن أن تنشأ في الخليج محاولة تبني تيار حداثي يعيد صياغة الطرح الإسلامي بطرق تفكيكية تمكن للاستبداد والانحلال والتبعية السياسية والاجتماعية والثقافية فضلا على الاقتصادية التي تقول بها، وهو نوع من أنواع التغليف للموقف العلماني في صياغات أسلوبية.

أما عندنا في مصر فغالب الظن عندي –والله أعلم- أنه حتى في هذا الموقف سيقاوم مقاومة شديدة من التيار الغالب لدى العلمانية الثقافية في مصر، ومن يتبنونها ويعتقدون بها وممن يملكون زمام الأمور في التوجيه الثقافي والإعلامي والمدرسي وغيره على مدى عقود كثيرة؛ لأنهم لا يوافقون على إعادة تصدير الإسلام في صورة مختلفة، إنما يريدون إزاحة الدين جانبا بلا رجعة.

والحاصل أن العلمانيين لا يملكون قوة شعبية وسياسية، ولكنهم يتحيزون في مصر ويترابطون في مجال الإشاعة الثقافية العامة: التأليف والصحافة والإعلام والفنون والآداب كالقصة والمسرح وغير ذلك.. وهم من يشكلون القوى المعنوية الأساسية التي تتبناها سلطات الدولة المستبدة في مصر على مدى تاريخها الحديث. وهي لا تستطيع أن تستغني عنهم؛ لأنه لا توجد قوى ثقافية أخرى يمكن أن تقف معها وتمكنها من هذا الموقف المستبد ضد التغيير وضد الشعوب وضد الهوية المتميزة، وضد الشكل الثائر الذي هو حادث على مدى تاريخنا الاستبدادي المعيش منذ عقود عدة.

وهناك مصلحة متبادلة عندنا من حيث الوجود السياسي والاجتماعي والثقافي بين قوائم السلطة الاستبدادية، التي لا غنى لها عن الدعم الثقافي والإعلامي لتأكيد شرعيتها، هناك مصلحة متبادلة بين هذه القوى الاستبداية وبين الوجود العلماني العقيدي الفكري الذي يدعمها ويقف بجوارها ويقدم لها وجوه الشرعية التي تمكنها من سلاسة الحكم، وليس له هو في أي من أجنحته قدرة على الوصول إلى جماهير الشعب مهما ادعى من إيمان بالديمقراطية وبالحرية.. هو في النهاية يصوغ هذه المفاهيم –التي يكررها دائما- صياغات تدعو للاستبداد وتقف ضد الحركات الشعبية الواسعة المنظمة.

لذلك أتردد في الاقتناع بأن هذه المحاولة تنجح في مصر؛ أقصد محاولة وضع صياغة مصطنعة إسلامية، ليس فقط من قبل النخب، ولكن لدى الجماهير.

وعندي في ذلك دليل: أننا عندما ننظر في أي مشروع قانون تصدره الدولة، تتحدث عنه الصحف وتتعرض لأحكامه، وينال نوعًا من الدراسة أو النقد أو تبادل وجهات النظر بشكل لا يؤثر كثيرًا في استطاعة الحكومة إصداره على النحو الذي تريد حتى لو طغى على حريات الناس وحقوق البعض. ولكن إذا ظهر للمناقشة أي قانون له علاقة بالمرجعية الإسلامية، نجد الاهتمام الشعبي به قويًا جدًّا وفعالًا جدًا ومؤثرًا جدًّا، ومقيدًا جدًّا لسلطات الدولة على النحو الذي تراه.

ويمكن لأي باحث من شباب الباحثين أن ينظر إلى هذه الظاهرة وأن يراقبها من مصادر شعبية مختلفة خلال العقود الماضية، من حيث الأثر الفعلي للاهتمام الجماهيري والموقف الشعبي بالنسبة للتشريعات ذات المغزى الإسلامي وفاعليتها مقارنة بالأثر الأضعف كثيرًا بالنسبة للقوانين الأخرى.

أحدث الأمثلة لذلك النظر إلى ردود الأفعال الشعبية تجاه تعديل قانون الهيئات القضائية لمزيد من الهيمنة عليها وبين تعديل قانون الأزهر لذات الغرض. فأمكن إصدار الأول وصعب إصدار الثاني. وكذلك بالإشارة إلى مشروع قانون الطلاق الشفوي الذي أشارت إليه الحكومة.

س: تبدو مصر اليوم واهنة وتزداد وهنا على وهن، فإلى أين تراها تمضي؟

البشري: من أيام مبارك تسلط على مصر مشروع تدمير لها دولة ومجتمعا. مبارك أضعف كل إمكانيات الدولة، من النواحي الفنية والمهنية؛ من أجل السيطرة الفردية عليها، وبسياسات مثل نظام المعاش المبكر (الذي لم يفقد الدولة خبرات عزيزة جدًّا، وجيدة جدًّا، فقط، ولكنه أفقد الجيل التالي إمكانية الاستفادة والتعلم منهم؛ لأن الخبرات تنتقل في العمل بالممارسة والتعايش وتبادل المعارف بين الكبار والصغار)، فضلا على سياسات الخصخصة وشبكة العلاقات الاقتصادية الجائرة مع الخارج (مثل بيع الغاز)، والتفريط في قاعدة مصر الإنتاجية من زراعية وصناعية، إلى عدد من المشروعات الوهمية التي سرعان ما انقشع الغبار عن وهميتها بعد ترويج إعلامي استهلاكي.

أما حاليًّا فالدولة في حال أسوأ باستمرار ما سبق وزيادة. فالدولة تمارس عملها بهذه المستويات الضعيفة جدًّا من النواحي المهنية، مع انهيار في التعليم سابق ومستمر من أيام مبارك. إن إمكانيات الوصول إلى طبقة من المهنيين القادرين على إدارة المجتمع بكل مشكلاته الاقتصادية وغيرها صارت أضعف كثيرًا مما كانت من قبل. ومع زيادة تراجع القدرة الإنتاجية الذاتية، وزيادة حجم الديون للخارج الذي بدأ ويستمر أيضا من أيام مبارك فلم نلحظ حتى الآن بدايات لعلاجها، مما يزيد من إمكانيات اعتمادنا على الخارج.

ومع ذلك، فالأمل لا ينقطع، والعمل لا يتوقف، والتاريخ لا يعرف الكلمة الأخيرة إلا حين ينتهي هو نفسه. وإني لأرجو أن يخرج من هذه الأزمات المتراكبة جيل أقوى وأبصر وأصدق إخلاصا للوطن وأكفأ في تحقيق نهضته.