إنّ المتابعَ الجيّد لخرائط صناعة القرار في إيران، يدرك تمامًا أنّ مؤسسة الوليّ الفقيه ما زَجّت بثقلها الديني والسياسي «الممَثّل في حجة الإسلام السيد إبراهيم رئيسي» إلاّ لتنهي حقبة المعتدلين، نظرًا لمتطلبات المرحلة. علاقة السيد رئيسي معقدة ومتشابكة مع المجتمع الديني والحوزوي في قمّ ومشهد، وهو تلميذ مخلص للسيد خامنئي ودرس عنده أبحاث الخارج. وخامنئي نفسه هو الذي عيّنه سادن الروضة الرضوية في مشهد أغنى وقف ديني في العالم، وتتلمذ على آية الله مشكيني (ت: 2007م) وهو أحد أكبر رجال الدين وتولى رئيس مجلس الخبراء حتى وفاته.

كذلك المدقق في تطور وتسلسل المناصب التي تولاها السيد رئيسي يدرك تمامًا أن الرجل سيحسم المعركة صباح الغد في الانتخابات الرئاسية بينه وبين روحاني، فالرجل قد تولى المدعي العام في إيران، وتولى نائب رئيس السلطة القضائية من 2004م وحتى 2014م، وتولى نائبًا لرئيس محكمة رجال الدين وهو المنصب الأخطر في إيران بعد المرشد مباشرة، فمحكمة رجال الدين محكمة خاصة لها جهازها الأمني الخاص، ولها سلطتها الخاصة التي تُعين من المرشد الأعلى بطريق مباشر أو عن طريق رئيس السلطة القضائية، وهو أيضًا عضو الهيئة الرئاسية في مجلس خبراء القيادة.


بين روحاني ورئيسي

إذا قارنا بين مشايخ السيد رئيسي والشيخ روحاني سنجد أن الكفة تميل بكل قوة إلى السيد إبراهيم رئيسي ذلك لأنه ينتمي للمؤسسة الدينية الثورية المحافظة، وخرج من عباءتها، وتربى في كنفها، ووثقت فيه هذه المؤسسة ومن ثمّ تولى مناصب هامة وخطيرة في المحكمة الدينية “التي لا يدخلها الإصلاحيون، ولا يتولاها إلا الموثوق في ولائهم للمرشد”، وفي السلطة القضائية.

هناك غير معممين من رجال الدين كان يمكن للمحافظين أن يزجوا بهم في الانتخابات، وهناك من المعممين ممن ليسوا بنفس قوّة السيد رئيسي، بمعنى أنّ هؤلاء إذا هُزموا في الانتخابات فلن تكون بمثابة اغتيال أو إهانة لمكانة المرشد ولا للمؤسسة الدينية الموالية للمرشد. أما دخول شخص بثقل السيد رئيسي فذلك معناه أنّ المحافظين يرمون بآخر ما لديهم من قوّة.

وهنا نقرر أمرًا مهمًا، وهو أننا لم نلتفت إلى الصناديق ولا إلى الانتخابات، والجواب أنّ كلّ هذه الأمور ظواهر لا يمكن قراءتها إلا وفق المرتكزات الفلسفية التي يستند عليها نظام ولاية الفقيه، فالنظام اليوم يرى نفسه يمرّ بأخطر مرحلة وجودية منذ وفاة الخميني، حيث ربما تشهد الأسابيع أو الشهور القادمة موت القائد الأعلى «المريض بالسرطان والكبير في السن»، علاوة على التقلبات الجيوستراتيجية في المنطقة، وصعود ترامب إلى سدة الحكم في البيت الأبيض، كل هذه العوامل وغيرها من عوامل تمسّ البنية الداخلية والشبكة العنكبوتية للمجتمع الديني والحوزوي أولا ثم لمؤسسة الحرس الثوري ثانياً، أدت إلى قرار حاسم من صانع القرار الإيراني لإنهاء فترة حكم المعتدلين الذين يمسكون العصا من المنتصف، ويأملون في تغيير النظام من الداخل تحت ما يسمونه «تغيير سلوك النظام»، مما جعل القائد الأعلى، المرشد خامنئي يخرج بنفسه ويقول بأن أولئك الذين يدعون إلى تغيير سلوك النظام لا فرق بينهم وبين من يدعون إلى تغيير النظام برمته.

إن الإصلاحيين والمعتدلين يظنون أنه بالإمكان إصلاح النظام من الداخل، ويعتبرون –حسب سروش وكديفر- أنّ مرحلة ولاية الفقيه هي البداية والمقدمة للتحول إلى نظام ديمقراطي كامل يتوافق مع الدولة الحديثة. لكن هذا الطرح ربما يكون أقرب للمثالية؛ لأنه يصطدم بصخرة صُلبة على أرض الواقع، هذه الصخرة تتكون من المجتمع الحوزوي في قمّ ومشهد، أو أكثره على الأقل، وبيت المرشد، وقادة الحرس الثوري الموالين للمرشد الأعلى، وشبكة مصالح معقدة من رجال البازار وجماعات المصالح السياسية والاقتصادية، هذا كله يحول دون إنفاذ إصلاحات حقيقية داخلية، مع الوضع في الاعتبار أنّ أيّ مواجهة مفتوحة مع هذا النظام فلن يبال بالقمع والحسم مع أي مظاهر احتجاجية، ولا يمكن هنا تجاهل تماسك النظام الداخلي تماسكًا حقيقيًا، وذلك له أسباب أخرى لا مجال لذكرها الآن.


موقع الشعب في السلطة

المرتكزات الفلسفية لنظام ولاية الفقيه بقراءته الخمينية لا تعترف بموقع الشعب في السلطة، وترى أنّ الوليّ الفقيه من حقه أن يتدخل ليلغي بعض أحكام الشريعة فضلاً عن انتخابات رئاسية أو برلمانية، وتعطي الحق للوليّ الفقيه أن يعين رئيس الجمهورية رأسًا بدون انتخابات، أو عزله بعد انتخابه، ولا يبالي النظام السياسي –براجماتيةً وتقيةَ- من تزوير الانتخابات وتزييف إرادة الجماهير إذا رأى الوليّ الفقيه أن ذلك أسلم للأمن القومي للدولة، وأنفع للدين والمذهب.

وعندما تمّ تزوير انتخابات 2009م لصالح أحمدي نجاد، وقامت السلطات بقمع الحركة الخضراء، انتقد رفسنجاني المسار السياسي في خطبة الجمعة السابع عشر من يوليو 2009م، في جامعة طهران قائلاً: «ما الذي علينا فعله في هذا الوضع؟ إنّ مهمتنا الأولى هي استعادة الثقة التي كانت لدى الشعب والتي فُقدت اليوم إلى حد ما، ليس من الضروري في الوضع الراهن أن يتم سجن الناس، دعوهم يعودون لعائلاتهم، يجب علينا أن لا نسمح لأعدائنا بأن يلوموننا، وأن يهزأوا بنا بسبب الاعتقالات، علينا أن نسامح بعضنا البعض، إن عددًا كبيرًا من حكماء البلاد قالوا: إن لديهم شكوكًا حيال النتائج وعلينا إذن أن نعمل من أجل الرد على شكوكهم»[1].

ليردّ عليه المرجع الكبير آية الله مصباح اليزدي: «إن الصمت الطويل لهاشمي رفسنجاني والذي تجاوز 50 يومًا يوضح أن الرجل كان من وراء الاضطرابات التي حدثت في البلاد، إن هذا الرجل طرح أمس شبهات تتعلق بالانتخابات وموضوعات فقهية وأصولية، تتناقض وفكر الثورة السياسي والاعتقادي. إن شرعية الحكومة مستمدة من الله، موافقة الشعب لا تعني شرعية الحكومة، لقد أهمل رفسنجاني هذا المبدأ الإسلامي وتحدث وكأن الحكومات يعينها الشعب فقط»[2].

وهنا يُبرر مصباح يزدي تزوير الانتخابات، وأنّ هذا التزوير على فرض تحقّقه فلا إشكال فيه؛ لأنّ الشعب لا موقع له في تقرير مصيره، ولا محلّ له من الإعراب في نظام الحكومة الإسلامية بحسب يزدي. لكنه تجاهل الجانب الأخلاقي في تزوير الانتخابات، فلماذا إجراء الانتخابات في الأصل ما دامت الحكومة مستمدة من الله، وموافقة الشعب لا تعني شرعية الحكومة؟. القُبح الأخلاقي يتأتى ليس فقط بسبب انتباذ مركزية الأمة ومقبولية المؤمنين بل بالالتفاف على أصوات الشعب وتزييفها، ثمّ تبرير ذلك وتحميله محامل دينية وفقهية وتفلسفية.

أخيرًا نرى أنّ الأمر قد حُسم، وأنّ السيد رئيسي هو الرئيس القادم بعد يومين لإيران، وأنّ حقبة أخرى من التشدد والتطرف ستضرب المنطقة. وربما ما قررناه هو ما فهمه مبكرًا الشيخ روحاني، فألقى بكلّ أوراق يحملها، واتهم المحافظين بأنهم مارسوا القتل والاعتقال لأكثر من 38 سنة. وحذر بالأمس الحرس الثوري من التدخل في تغيير مسارات الانتخابات. وما كان لدبلوماسيّ مثله أن يصرح بمثل تلك التصريحات إلا لمعرفته المسبقة بما يدور في المطبخ الإيراني الآن، وأنّ الانتخابات كتحصيل حاصل، وأنّ مؤسسة المرشد حسمت أمرها، وبلورت خياراتها.

والمتوقع في الفترة المقبلة هو موجة تأجيج طائفي في المنطقة، خاصة في بؤر التوتر ونطاق الحزام الشيعي في سوريا ولبنان والعراق واليمن، والبحرين، هذا على المستوى الخارجي، وعلى المستوى الداخلي فربما تشهد إيران زيادة القمع وانتهاك الحريات وحقوق الإنسان، وإقصاء تام للأقليات الدينية والعرقية، كما هو معروف دائمًا عن فلسفة المحافظين في الحكم.


[1] د. جلال الدين صالح، ولاية الفقيه وإشكالية السلطة السياسية ف الفقه الشيعي، ط1/ مكتبة القانون والاقتصاد الرياض 2015م، ص463.[2] السابق نفسه.