يستحوذ أنصار التجربة الليبرالية في السعودية على مساحة أكبر من التأثير في صنع القرار السياسي الداخلي والخارجي، بالرغم من حداثة التجربة، والتي تعود إلى تسعينيات القرن الماضي تحديدا، فقد بات جليا من التحولات السياسية داخل المملكة حجم التأثير الذي يلعب على وتره الليبراليون.

فما هي روافد هذا التيار؟ وما هي حقيقة وقنوات نفوذه داخل المملكة؟ وهل يبني محمد بن سلمان «مملكة ليبرالية»؟

يرى كثير من المؤرخين أن التجربة الليبرالية في المملكة ليست تيارا سياسيا أو اجتماعيا منظما، ولكنها تعبر عن مجموعة من الأفكار والأدوار المتناثرة والمتأثرة بالأفكار الحداثية المعاصرة، يتبناها مجموعة النخبة الثقافية والسياسية عبر قنوات إعلامية وثقافية متعددة، وهذه المجموعة إما من أبناء الأسرة الحاكمة أو موظفي الدولة والمثقفين الذين يشغلون مناصب أو وظائف إعلامية مختلفة.


كيف تأسست التجربة الليبرالية السعودية؟

وبالعودة إلى تاريخية التجربة داخل المملكة نلاحظ أنها لم تكن يوما ما بمعزل عن الحركة القومية والعلمانية العربية، وهو ما حكم علاقتها بالسلطات الحاكمة، وبالرغم من صدق مقولة إن التجربة ظهرت كرد فعل لتيار الصحوة الديني بالمملكة، فإن السردية التاريخية تشير إلى أن روافدها تعود إلى أبعد من ذلك بكثير.

النفط يعيد تشكيل البنية الاجتماعية للمملكة

ليس مستغربا أن تتولد تلك النخبة في صفوف أبناء الأسرة الحاكمة الراغبة في التغيير، ومثلت طرفا من الصراع السياسي.

أدى ظهور النفط بالمملكة وبمنطقة الخليج إلى مزيد من التحولات الاجتماعية والسياسية، أهمها التحول من نمط الحكم القبلي إلى منظومة الحكم الحديث للدولة المعاصرة، كما عملت تلك التحولات المحلية والإقليمية إلى إعادة تشكيل البنية الاجتماعية والسياسية داخل المملكة، في ظل سياسات الابتعاث والاستقدام التعليمي للخبرات العملية والثقافية العربية.

المخاض الأول للتجربة الليبرالية السعودية ارتبط بالمشروع الحداثي تحديدا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى هزيمة 1967

وعليه يمكن القول بأن المخاض الأول للتجربة الليبرالية بالمملكة ارتبط بالمشروع الحداثي والقومي العربي، وتحديدا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى هزيمة 1967. وقد تولد عن تلك المتغيرات نخبة ليبرالية إصلاحية رأت ضرورة الإصلاح السياسي داخل المملكة، ومناهضة لاستحواذ الأسرة المالكة على مقاليد السياسة والمال والأعمال.

وليس مستغربا أن تتولد تلك النخبة في صفوف أبناء الأسرة الحاكمة الراغبة في التغيير، ومثلت طرفا من الصراع السياسي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ومن بين تلك التحركات جماعة «الأمراء الأحرار» بقيادة الأمير «طلال بن عبدالعزيز»، وحركة «نجد الفتاة» بقيادة مجموعة من المثقفين السعوديين.

وعملت سلطات القصر الملكي حينها على انتهاج سياسة الاحتواء داخل أجهزة المملكة الرسمية، ومع ذلك تظل النبتة الأولى للتجربة مرتبطة بالصراع السلطوي ولم تتحول إلى حركة شعبية، بالرغم من دعواتها لإصلاح نظام الحكم وتطبيق مبادئ الديمقراطية وإطلاق الحريات العامة ومقاومة سياسة الشركات الأجنبية، ونقد المكون الديني والثقافي داخل المجتمع السعودي.

الليبراليون في مواجهة الصحوة الإسلامية

غير أن انكفاء الليبراليين على مناهضة الصحوة أدى إلى إصابة التجربة بالافتقار إلى التماسك الذاتي أو التنظمي. وكما أن تراجع المشروع القومي العربي في أعقاب هزيمة 1967 مثل الفرصة الأكبر لصعود التيار الإسلامي في الوطن العربي، وخاصة تيار الصحوة الإسلامية في المملكة، والذي صاحبه في البدء تراجع الخطاب والنفوذ الليبرالي.

وبالرغم من حالات الأفول والصعود للتجربة الليبرالية في المملكة في المرحلة التالية لهزيمة 1967، فإنها لم تشكل تيارا واضح المعالم ومنظما في حركات أو جماعات معينة، ولكن ظلت التجربة تقوم على النخبوية الثقافوية والإعلامية داخل مؤسسات المملكة.

وفي ظل صعود تيار الصحوة في التسعينيات وتقديم مشروع الفكري والأيديولوجي «المنصاحة» للطرح العام، تركز جهد الليبراليين في نقد الصحوة ومشروعها، وبالرغم من محاولة البعض أمثال تركي الحمد إضفاء طابع ثقافي على المشروع الليبرالي، فإن انكفاء الليبراليين على مناهضة الصحوة أدى إلى إصابة التجربة الليبرالية بالافتقار إلى التماسك الذاتي أو التنظيمي.


هل العاهل «عبدالله» أكثر ملوك المملكة ليبرالية؟

استفادت التجربة الليبرالية السعودية من السياق العالمي في ترسيخ أركانها، فقد شهدت تلك الفترة حدثين مثلا منعطفا فاصلا في تاريخ التجربة الليبرالية في المملكة، وهما حرب الخليج الثانية في التسعينيات وأحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001.

ويعتبر البعض الملك «عبدالله بن عبدالعزيز» أكثر الملوك ليبرالية، كونه عمل على إدارة الملف الليبرالي بشكل مؤسسي، وذلك من خلال تكليف «خالد التويجري»، رئيس الديوان الملكي، بإدارة استراتيجية تحويل المجتمع إلى الليبرالية الاجتماعية، كما تميز خطاب وسياسة الملك عبدالله بن عبدالعزيز بميوله الليبرالية، كما أنه دشن علاقات متسامحة مع الغرب والولايات المتحدة جعلت من المملكة طرفا للقوى المعتدلة بالشرق الأوسط.

ولكن بالرغم من ذلك فإنه لا يمكن التغاضي عن سياسات انتهاك حقوق الإنسان ضد النشطاء السياسيين والمدونين وحجب التنظيم السياسي والمجتمع المدني، في ظل الدور الذي لعبه الإسلاميون وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستمرار احتجاب الحريات العامة وحرية واستقلال المرأة السعودية.

ولكن تظل حقبة العاهل عبدالله الانطلاقة الأقوى لتمدد أنصار الليبرالية داخل مؤسسات الدولة، خاصة الإعلامية، وشهدت أيضا ظهور اتجاه جديد داخل التجربة الليبرالية نفسها أطلق عليه الليبرو إسلامي في محاولة للتكيف بين الليبرالية والإسلام.


الليبرو-إسلاموية : كيف هاجر الإسلاميون إلى الليبرالية؟

في الوقت الذي عانت فيه الليبرالية السعودية من الانقسام بين الليبرالية الاجتماعية والليبرالية السياسية والصراع الفكري والثقافي بينهما، شهدت الليبرالية تحولا بارزا تضمن هجرة كثير من أبناء الصحوة الإسلامية إلى صفوف الليبرالية السياسية، وكان من بين هؤلاء «عبدالعزيز القاسم»، و«عبدالله الحامد»، و«منصور النقيدان»، و«جعفر الشايب»، وغيرهم الكثير.

استطاع أنصار «الليبروإسلامي» توظيف الأداة الإعلامية والفضاء الإلكتروني في نشر مشروعهم السياسي والاجتماعي، ومثلت جريدة الوطن منبرا لعقد مناظرات بين التيارات المختلفة، وكذلك تدشين عدد من المنتديات مثل طوى والوسيطة، وذلك كمنابر خطابية ودعوية للفكر الإصلاحي المعتدل كما يرون.

بالرغم من محاولات أنصار التجربة الليبرالية التمسك بالمتخيل السياسي الحداثي، فإنها لم تستطع أن تمثل تيارا معارضا أو مناهضا للسلطة، ولكن اكتفت بمكاسبها الشخصية، ومن ثم اتسمت علاقتها بالولاء التام للقصر الملكي، مع محاولات تقديم مشروع إصلاحي مثل مشروع «رؤية لحاضر الوطن ومستقبله» في 2003، وغيره من المشروعات التي قدمت في عهد الملك عبدالله.


محمد بن سلمان: هل من مستقبل للتجربة الليبرالية؟

لا يمكن التغاضي عن سياسات انتهاك حقوق الإنسان ضد النشطاء السياسيين والمدونين وحجب التنظيم السياسي والمجتمع المدني في عهد الملك عبد الله

لا تبدو التحولات داخل المملكة ببعيدة عن السياقات المتغيرة في الوطن العربي فيما بعد الربيع العربي، وفي ظل صعود التيار الديني سواء المعتدل أو الراديكالي كان لابد من وجود ظهير سياسي وثقافي إعلامي لمواجهة هذا المد المتصاعد، خاصة بعد ظهور الدولة الإسلامية والتحالفات الدولية لمواجهة هذا التطرف.

كما أن وفاة الملك عبدالله، وتولي سلمان من بعده ساعد على مزيد من التحول في الحركة السياسية السعودية، خاصة مع بروز نجم الشاب الطموح محمد بن سلمان وإدارته لخطة الإصلاح الاقتصادي «رؤية السعودية 2030»، وهو سرعان ما حصل على منصب ولي العهد بعد إقالة «محمد بن نايف»، ويعد محمد بن سلمان من أكثر المعادين للإسلامين وميلا إلى الأوساط الليبرالية في المملكة.

وبالرغم من استمرار التنكيل بالنشطاء السياسيين أمثال «تركي الحمد»، و«رائف بدوي» مؤسس الشبكة الليبرالية السعودية الحرة، وغيرهما الكثير، فإن تمدد الليبراليين داخل مؤسسات الدولة وبرعاية القصر الملكي، تظل الأطروحة الأكثر جدلا حول مدى قدرة الليبراليين على توظيف علاقتهم بالسلطة لتحقيق مبادئ الليبرالية، وعلى رأسها الديمقراطية وإطلاق الحريات العامة والحوكمة الرشيدة.

إن تعنت ولي العهد الشاب في التعامل مع ملف الإسلاميين وحسمه مع القوى المناوئة للمملكة ونظام الحكم بها، يظهر، لكنه لن يكون أقل تعنتا مع قوى ليبرالية معارضة للنظام الملكي السعودي، بالرغم من الرهان على الضغوط الغربية على المملكة لتطبيق الحد الأدنى من مبادئ الليبرالية.

المراجع
  1. وليد بن صالح الرميزان، الليبرالية في السعودية والخليج: دراسة وصفية نقدية، روافد للطباعة والنشر، 2009