نشأت السينما في البداية كوسيلة للترفيه وتسلية وقت المشاهد، ثم تحولت تدريجيًا لوسيلة تناقش قضايا المواطن ومشكلاته الاقتصادية والاجتماعية والعاطفية، حتى تطور الأمر وأصبحت تناقش القضايا السياسية سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، سواء كانت مهاجمة للسلطة أو مؤيدة لها.

وبدأت القيادة السياسية أيضًا في إدراك مدى أهمية وخطورة السينما وتأثيرها باعتبارها من وسائل القوى الناعمة الفعالة، فبدأت تستخدمها كوسيلة لنقل رسائل معينة للشعب وللتأثير على الشعب أحيانًا وجعله ينصاع لإرادتها بشكل غير مباشر، كما أنها أقل تكلفة من استخدام وسائل القهر المادية المباشرة، كما استخدمها المعارضون للسلطة أيضًا لمهاجمتها وفضح عيوبها بشكل أكثر أمنًا من المعارضة المباشرة لها والتي تعرضهم للاعتقال أو الإعدام أحيانًا. نتيجة لذلك زاد الاهتمام بصناعة الأفلام السياسية في جميع دول العالم ومن ضمنها مصر، والتي لم تخلُ أفلامها من تناول القضايا السياسية وتحتك بشكل مباشر مع السلطة.

ونظرًا لأهمية الدور الذي تلعبه السينما في الحياة السياسية، ونظرًا لأنها أصبحت من مصادر التنظير السياسي غير التقليدية، سأتناول عرضًا لواحد من أهم الأفلام في السينما المصرية؛ ألا وهو «أنا حرة» وذلك لأهمية القضايا التي يتناولها. فهو يناقش إشكالية الفرد مع المجتمع، هل تكون القيمة العليا هي الفرد –المبدأ الليبرالي- أم المجتمع –المبدأ الاشتراكي-، كما يعرض أزمة المفاهيم أيضًا من خلال عرضه لإشكالية مفهوم الحرية.

ويتناول أيضًا علاقات السلطة ومستوياتها، كما يتناول رؤية المجتمع للمرأة وأهم القضايا التي تعاني منها، ويقدم نموذجًا مختلفًا للمرأة «أمينة»، فهل ستنتصر أمينة «أنا حرة» أم ستبقى أمينة «سي سيد» هي النموذج الذي يفرضه المجتمع؟، وهو ما سيتم إيضاحه بالتفصيل.


عناصر التنظير السياسي:

1. القيمة العليا

في بداية الفيلم تتمسك البطلة بحريتها وتسعى لنيلها بأي طريقة وتعارض دائمًا تقاليد وعادات المجتمع، وترفض البقاء في المنزل والخضوع لأوامر زوج عمتها وتختار التعليم والعمل، وترفض منظومة الزواج المقدسة لدى ذلك المجتمع، وهو ما يوضح لنا مدى تأثر البطلة بالنهج الليبرالي نتيجة الاحتلال، والذي ينظر للفرد كقيمة عليا ويضع مصلحته في المقدمة. وإن كان المجتمع وتقاليده سيقفان عائقًا أمام حرية الفرد ورغباته ومصلحته فيجب الثورة عليه وعدم الخضوع له وهو ما تحاول البطلة فعله.

وبمرور الأحداث يبدأ المؤلف يعرض مساوئ النهج الليبرالي وذلك يظهر من نقد المجتمع للبطلة «الجيران وزوج عمتها وعمتها»، كما يبرز مساوئ اختياراتها فيبدأ في نقدها واحدة تلو الأخرى، بدءًا من إبراز مساوئ العمل وسيطرته الكاملة على حياتها.

مشهد العريس المرفوض وهو يمر أمامها مع زوجته وأولاده في سعادة والذي يعكس أن تقاليد المجتمع واتباع آرائه –اتباع منظومة الزواج- يؤدي إلى الاستقرار والسعادة وهو ما لا يفعله الاستقلال والعزوبية والعمل. وعند سجنها يقول زوج عمتها «شايف اللي بيتمرد على التقاليد بيحصله إيه»، وهو ما يعكس عقاب السلطة المجتمعية لمن يخالفها بالسجن.

وفي آخر الفيلم توافق البطلة على الزواج من عباس وفق النظام السائد في المجتمع وهو ما كانت ترفضه في بداية الفيلم، وهو ما يوضح موافقتها على الخضوع لتقاليد المجتمع والتي من خلال الامتثال لها ستحقق السعادة وتصل إلى أهدافها.

وفي جانب آخر، البطلة كانت تسعى في البدء لمصلحتها هي، تسعى لنيل سعادتها واستقلالها، تهدف للحصول على التعليم والعمل، تهدف لنيل حريتها؛ أي يعلي المؤلف من قيمة الفرد، ولكن تبدأ في تغيير موقفها وتعلي من حرية الوطن على حريتها، تستغني عن عملها مقابل مصلحة الوطن والمتمثلة في نيل الاستقلال ومواجهة الاحتلال.

بذلك يصبح المجتمع هو القيمة العليا وليس الفرد وهو ما يجسد المبدأ الاشتراكي، ولكن المؤلف لم يرد أن يبدو الفرد منهزمًا أمام المجتمع ولكن يعرض فكرة أنه لا يوجد تعارض بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع، وأنه إذا تحققت مصلحة المجتمع ستتحقق بالضرورة مصلحة الفرد وهو ما عبّر عنه أفلاطون في جمهوريته والتي تتحقق فيها سعادة الفرد عندما تتحقق سعادة الدولة.

2. أزمة المفاهيم «مفهوم الحرية»

انتهى تتر البداية بمقولة إحسان عبد القدوس «ليس هناك شيء يسمى حرية، وأكثرنا حرية هو عبد للمبادئ التي يؤمن بها، وللغرض الذي يسعى إليه…. إننا نطالب بالحرية لنضعها في خدمة أغراضنا، وقبل أن تطالب بحريتك اسأل نفسك: لأي غرض ستهبها»، وستكون تلك المقولة منطلق تحليل هذه الفكرة.

في بداية الفيلم تعتقد البطلة أن الحرية غاية وليست وسيلة، وأنها مطلقة، لا يتبعها مسئوليات والتزامات ولا يتبعها أضرار. فبدأت تأخذ من الحرية قشورها فترتدي ما تشاء وتسهر وترافق الشباب وتشرب الخمر، تظن أن الحرية ستحصل عليها بالتعليم والعمل ورفض الزواج وتفضيل الاستقلالية.

وهو المفهوم الغربي الذي تأثرت به وحاولت تطبيقه لأنها رأت مزاياه في حياة صديقتها فيكي، وهو ما نفعله الآن؛ نقوم باستيراد المفاهيم الغربية الآتية من مجتمعات مختلفة عن مجتمعنا ومن ثقافات وعادات مختلفة عنا، ونتجاهل أنها جاءت لبيئة معينة لمجتمع معين به أفراد يعتنقون أفكارًا غير ملائمة لنا، لا نفهم جوهر المفهوم بل نأخذه كما هو بآليات تطبيقه الغربية ونحاول تطبيقه، فلا ننجح في تطبيق إلا شكله، وهو ما يتناوله الفيلم.

ثم يبدأ في إيضاح مساوئ وعيوب المفهوم الغربي للحرية المطبق شكله وليس جوهره، وذلك يتمثل في البدء بإدراكها أن الحرية ليست في السهر والخروج، كما يعرض نقد المجتمع لهذا النموذج الليبرالي، ويبدأ في إبراز مساوئ العمل والرأسمالية والتي جعلت من الموظف سجين مصلحتها وأفكارها؛ أي أن الفرد أصبح عبدًا للمبادئ التي يؤمن بها الفرد وللغرض الذي يسعى إليه كما قال إحسان، كما يوضح أن الحرية سلبت من الفرد حريته في حياته وبذلك فقدت جوهرها وقيمتها.

وتتحول الأحداث بإدراك البطلة أن الحرية هي وسيلة لتحقيق غاية وليست غاية في حد ذاتها، وأن الغاية هنا كانت حرية الوطن.

3. علاقات السلطة

في هذا الفيلم تواجه أمينة مستويات عدة من السلطات، يحاول بعضها بشكل مباشر أن تفرض عليها الهيمنة لتسير في ذات الاتجاه المقبول أسريًا ومجتمعيًا، وما بين سلطات بشكل غير مباشر تحاول أن تجعلها تمشي في الاتجاه السائد ولكن بلا مواجهات صريحة ومباشرة، وتنقسم هذه السلطات إلى سلطات خارجية وداخلية

السلطات الخارجية، تمثلت بشكل مباشر في علاقات متداخلة ومتشابكة بين الأب والعمة وزوج العمة والعريس المرفوض المهندس أحمد حلمي، بعض هذه الشخصيات كانت تتسلط على أمينة وتحاول قمعها كنتيجة مباشرة لما يحدث معها من قمع وتسلط؛ أي أن الجلاد كان ضحية قبل أن يصبح جلادًا، وهذا كان جوهر شخصية عمتها.

عمتها: وكانت سلطتها بتفويض مباشر من الأب (صاحب السلطة الأصلي في نظرهم ونظر المجتمع والقانون)، وكانت تحاول أن تروض أمينة لكي تسير في ذات الطريق الذي مشيت فيه هي قبلها، وفي نفس الوقت كانت تتعرض للقمع والتسلط من زوجها من جانب مباشر، ومن الجيران والمجتمع بشكل غير مباشر لأن أمينة تتمرد وتفعل ما لا تفعله الأخريات، وتجلى اقتناع العمة بالعادات والتقاليد، ما قالته لنهر أمينة «هو جوز الواحدة مش سيدها»، حتى تجعل من أمينة فردًا في قطيع المجتمع.

ويتغير موقفها بعد ذلك فيتجلى رفضها للفكرة وحسرتها على ما مر من حياتها عندما رأت أمينة قد نجحت فيما كانت تصبو إليه، ووجدت أن مرتب أمينة أكبر من مرتب زوجها أو أخيها، وقالت «يا خويا بلا جواز بلا هم، الواحدة هتاخد إية من الجواز غير وجع القلب»، ثم استطردت قائلة لتفادي غضب الزوج «غيرش أنا بس اللي بختي حلو».

زوج عمتها: كان شديد التسلط على أمينة وعلى ابنه علي، وذلك لأن التقاليد والعادات التي يعتقد فيها جعلت منه مراقبًا ومنفذًا لهذه العادات ويقمع كل من يخرج عنها، وفي نفس الوقت إذا خرج هو عليها أو لم يقم بدوره يبدأ المجتمع في نبذه، وتجلى تسلطه عندما قال «بكره يخلصه منها أزواجًا وأفرادًا» تعقيبًا على محاولة أمينة ممارسة حريتها مع خطيبها، ثم أكد تمثيله للنظام الاجتماعي في نهاية الفيلم بعدما سُجنت أمينة، قائلاً «شايف اللي بيتمرد على التقاليد بيحصل له إيه»، وكأن السلطة المجتمعية تعاقب كل من يتمرد عليها بالنبذ في البداية والسجن في النهاية.

العريس المرفوض المتحرر بشكل كبير، إلا أنه في نفس الوقت يريد زوجة تتناسب مع درجة أفكاره المتحررة ولا يريدها مستقلة بشكل كامل، حاول أن يطوّعها من خلال رفضه لدخولها الجامعة والعمل بعد ذلك ولكنها صممت على الجامعة.

العمل: تلك السلطة الجديدة التي استعبدت أمينة، الشركة الخاصة والتي تحتكر وقت الموظف بالكامل، وتفرض عليه قيودًا غير منطقية، وتستحوذ على وقته بالكامل داخل وخارج الشركة، وفي هذه الزاوية كانت دعاية من أسرة الفيلم للتوجة الاشتراكي الذي كانت تتبناه الدولة آنذاك.

أما السلطة الداخلية فكانت عبارة عن صوت الضمير “ضمير أمينة” والذي قام به محمد الطوخي، وكان دائم اللوم والتوجية لها؛ لكي تستغل حريتها بشكل أفضل، ولا تتناسى المسؤولية التي تترتب على حريتها واختياراتها.

4. المعضلة المكيافيلية:

تتمثل المعضلة المكيافيلية في المفارقة بين اعتبارات المصلحة والأخلاق. في الفيلم هنا نجد أنه يركز على أهمية الامتثال لتقاليد وأخلاقيات المجتمع وتفضيلها على مصلحة الفرد، كما تم إعلاء مصلحة الوطن على مصلحة الفرد. هنا المؤلف يحاول أن يقول إن مصلحة الوطن هي القيمة العليا وإعلاؤها شيء أخلاقي يجب أن يلتزم به كافة الأفراد؛ أي أنه حاول الجمع بين الاثنين في ذات الوقت «الأخلاق والمصلحة» دون اختيار أحدهما وترك الآخر، ولكنه لا يقصد أي أخلاق أو أي مصلحة، هو يقصد أخلاق المجتمع فقط دون غيرها، ومصلحة الموطن فقط دون غيرها.


من خلال العرض السابق يتضح لنا مدى أهمية الدور الذي تلعبه السينما بوجه عام في التنظير السياسي بشكل أكثر فعالية من المصادر التقليدية، وذلك لأن الفن غير مقيد بالقيود التي يخضع لها المفكر السياسي، كما أنه يتسم بالبراعة في الكشف عن المسكوت عنه وفضح مساوئ السلطة ونقدها ونقد المجتمع وإبراز مشكلاته بشكل مباشر وغير مباشر.

وختامًا أحب أن أوضح أن الحرية هي وسيلة لتحقيق هدف نسعى إليه ولكن لا يجب أن نجعلها سجنًا لنا ولحياتنا، كما أني أرى أنه لا يوجد نموذج أمثل على الفرد أو المجتمع أو الدولة أن يطبقه، لا يجب أن يتم استيراد نماذج غريبة عنا لحل مشكلاتنا أو لتحسين أوضاعنا، الأفضل أن نبتدع لأنفسنا نماذجنا وحلولنا المتماشية مع قيمنا وبيئتنا والكف عن الاستيراد الشكلي الذي يجعلنا سجناء له.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.