منذ فجر التاريخ، راود البشر حلم «الخلود»، يشهد على ذلك «ملحمة جلجاميش» التي تعود إلى حضارة العراق القديمة. ولما وصل هذا الحلم إلى طريق مسدود، حاول العلماء انتهاج درب أكثر واقعية، وأقل كلفة. أشهر تلك الطرق هو تجميد الأجساد.

للعلم، أول عملية تجميد في تاريخنا، قامت بها الطبيعة وليس الإنسان، وأعني ها هنا العصر الجليدي الذي أدمن هذا النشاط ومارسه بشكل جماعي على الكرة الأرضية بكاملها، فخلف لنا آلاف الأجساد التي أحيطت بقبر من ثلج؛ مما يفتح الباب أمام العلماء لإعادة بعضها إلى الحياة عن طريق استنساخها.

إدوارد بيج ميتشيل، كان من أكثر الناس سبقًا بأن تحدث عن تجميد البشرية في رائعته القصيرة «ابنة السيناتور». اللافت للنظر، أن قصص الإيقاف المؤقت للحياة شائعة فعلاً منذ القرن التاسع عشر.

قرأت مقالًا لـ د. سائر بصمه جي في مجلة «علم وخيال»، أرجع سبب ذلك إلى شيوع آثار درجات الحرارة المنخفضة جدًا على الخلايا، وهو ما أثمر قصص خيال علمي باكرة مثل «رجل هنيبعل» عام 1837م و«القرصان المجمد» عام 1887م لـ كلارك رسل، و«عشرة آلاف سنة في الجليد» لـ روبرت ميلان عام 1779م.

بعد أن صار التجميد حلمًا أقرب للمتناول خلال القرن الماضي، تغيرت طبيعة القصص لتطرح أسئلة مختلفة، نذكر منها العمل الأدبي «أوزيماندياس» عام 1972م الذي رمى مؤلفه تيري كار إلى وقوع أجساد المجمَّدين في نفس أزمة مومياوات الفراعنة، وهي وجود لصوص مقابر في الحالتين، وتوالت الأسئلة الأعمق، من أمثلتها: «لماذا نستردهم من السماء؟!» لـ كليفورد سيماك عام 1976م، و«علة جاك بارون» عام 1969م لـ نورمان بارون، و«التحرر من آثار البرد» عام 1979م. أما الكاتب (فيليب ديك) فاهتم باستعراض الآثار النفسية للتجمد، فمنحنا «رحلة مجمدة» عام 1980م.

سؤال آخر طرح نفسه: هل من الممكن استخراج ذكريات الرؤوس المجمدة دون الحاجة لفك الجليد؟

جاءت الإجابة بالإيجاب في قصة كـ «الرؤوس» لـ جريج بير قبيل التسعينيات.

انتهت الأمثلة المذكورة في المقال، ليقابلني سطر آخر بتوقيع روبرت هينلاين عام 1951م، عندما لفت النظر إلى نقطة ذات صلة عبر قصته «النوم البارد»، معروف -بالطبع- مصاعب السفر عبر النجوم، وفي مقدمتها: استغراق عقود طويلة، أكبر بكثير من متوسط أعمار البشر، لذلك تتضامن القصة «التجميد» كحل سديد لهذه النقطة.

فضلاً عن أن الظاهرة موجودة حولنا طوال الوقت، وتمارسها فصائل كاملة من الكائنات الحية المسماة بـ «الحيوانات ذات الدم البارد». ففي كل الشتاء، تدخل هذه الحيوانات في سبات عميق، تنخفض فيه حاجة خلاياها إلى الأوكسجين والغداء إلى الحد الأدنى، ثم تدب فيها الحياة مرة أخرى بانتهاء الفصل.

حاول العلماء حذو نفس الفعل مع ذوي الدم الحار، فقاموا باستحضار هذه الأجواء الثلجية في المعمل، وأطبقوا به على حيوانهم المفضل للتجارب «الفأر»، لكنها بعد إنهاضه من سباته البارد، لفظ أنفاسه الأخيرة في دقائق، وعند تشخيص السبب، اكتشفوا عدم قدرة أنسجتها على تحمل البرد الشديد، فأهلكها تمامًا، كما أن التغير الحراري المباغت أدى إلى تكون سرطانات؛ مما ساهم في النهاية السريعة.

هناك عوائق أخرى، ظهرت لاحقًا في تجارب متقدمة، فالخلايا تحتوي على كميات كبيرة من الماء كما نعلم؛ مما يجعل التجميد يؤدي بها إلى النتيجتين الطبيعيتين: انكماش الخلايا، وظهور بلورات ثلجية.

عصف العلماء أذهانهم بحثًا عن حلول، يطاردهم إلحاح عشرات المصابين بأمراض مستعصية، الذين تروادهم نفس الوعود، حلم تجميد الجسد، وإعادته للحياة مرة أخرى في المستقبل، عندما يكتشف الأطباء علاجات ناجعة للأمراض التي استشرت بهم.

وانضم إليهم كتفًا بكتف رواد الفضاء، الذين رأوا في هذا المجال الأمل في القيام برحلات طويلة، حينها سيدخل طاقم المركبة في سبات عميق، ثم يستيقظ عند وصوله إلى الهدف.

أعاد الباحثون معًا ترتيب أوراقهم، فتوصلوا في مطلع الألفية إلى مواد كيميائية مضادة للتجمد أسموها الـ (Cryoprotectants)، كما عرفوا عن الجليسرول تأثيرًا هامًا في منع تكون بلورات ثلجية داخل السيتوبلازم. الآن يجب مبدئيًا أن يتم التجميد بسرعة قبل أن تنهار الخلايا، ثم يستبدل الدم بالـ (Cryoprotectants)، ووضع الجسم في سرير من الثلج حتى تنحدر حرارته إلى 130 درجة مئوية تحت الصفر، أخيرًا يُدفع في وعاء صلب مليء بالنيتروجين السائل.

لو أردت أن تحظى بنظرة لهذا المشهد، يمكنك أن تزور معهد (كريونكس) في ولاية (ميتشيجن) الأمريكية، أو مقر شركة «ألكور» في ولاية (أريزونا). داخل السابقة تحديدًا بما أنها الأكبر، ستشاهد عشرات الحاويات الفولاذية تسبح فيها أجساد بشرية، جميع هؤلاء في نظر القانون موتى، أما في نظر الباحثين هم مرضى سيعاد إحياؤهم عندما يتطور الطب إلى إيجاد علاج لأمراضهم. لو أعجبك المنظر، وتفكر في حجز واحدة، أخبرك بأنها تختلف حسب اختلاف البلد واعتبارات السوق. الشركة الأمريكية (ألكور) مثلًا سيكلفك تجميد جسدك بها حوالى مبلغًا يتراوح بين 75 ألف دولار إلى مئة ألف.

أما في روسيا، تقدم شركتهم «كريونسيس» أسعارًا أقل بكثير، مع وجود عروض خاصة أرخص عند الرغبة في تجميد الرأس فحسب.

لماذا الرأس فقط؟!

لأن طموحات العلماء تتضمن تطوير طريقة لزرع الرؤوس في أجساد شابة.