تتصاعد موجة العداء والاعتداء على المسلمين بالغرب في أعقاب كل اعتداء مسلح في إحدى المدن الأوروبية. فمع استمرار الاحتجاج الألماني المعادي للمسلمين ضد ما يطلق عليه «أسلمة أوروبا»، جاء الاعتداء على جريدة شارلي إبدو الفرنسية ليزيد الاحتقان في أوروبا.

نحن أمام ثلاثة أطراف رئيسية، على الأقل، مسؤولة عن الأزمة وعن معالجة تداعياتها، طرفان عاجزان أو غير راغبين في معالجة الظاهرة، وهما الحكومات الغربية والأنظمة العربية، وطرف يمتلك مقومات المساهمة في تغيير المعادلة ويجب العمل معه، ويتمثل في القوى الحية في مجتمعاتنا العربية. وهذا الطرف الأخير هو موضوع هذا المقال.

كان الأمل معقودا، في أعقاب ثورات العرب، أن تظهر حكومات عربية وطنية تقوم بمعالجة تداعيات تلك السياسات والظواهر، إلا أن موجة الثورات المضادة والحروب الأهلية أخرت إلى حين هذا الأمر. ومن هنا يأتي دور القوى الحية في المجتمعات العربية من حركات شبابية ومجتمع مدني ومنظمات حقوقية ومجموعات ومنتديات ثقافية وغيرها.

المطلوب هو إدانة كل أعمال العنف، ثم العمل على ترجمة الغضب من سياسات الغرب إلى عمل منظم يستهدف التعبير بشكل حقيقي عن مصالحنا وقيمنا وتعرية الممارسات الغربية

إن حركة العداء للمسلمين لابد أن تستغل، لا بإعطاء أي شرعية لأعمال العنف، أو بالتظاهر وإحراق الأعلام واقتحام السفارات في المدن العربية كما حدث في السابق، فهذه الأفعال لن تعالج قضايانا العادلة، والعالم يستهجنها، بل ويتم استغلالها من قبل البعض لإظهار العرب والمسلمين كمناصرين للعنف وأعداء للحرية.

إن المطلوب هو إدانة كل أعمال العنف والارهاب أولا، ثم العمل على ترجمة الغضب من سياسات الغرب المزدوجة وتجاوزات الحمقى بالصحف الغربية إلى عمل منظم يستهدف المساهمة في التعبير بشكل حقيقي عن مصالحنا وقيمنا وتعرية الممارسات الغربية وإجبار الحكومات هناك على تعديل مواقفها واحترام مصالحنا. فالقوة لا توقفها الا القوة.

ويحتاج هذا الجهد الى مشروع مقاومة شامل تقوده حكومات وشعوب، إلا أنه يمكن التمهيد له، بل ويجب التمهيد له، بعمل شعبي متعدد الأبعاد، وعلى مستويين رئيسيين على الأقل داخلي وخارجي.


الجبهة الداخلية

تتصل الجبهة السياسية الداخلية بضرورة الاستمرار في مقاومة الثورات المضادة وتعبئة الجماهير للقيام بموجات ثورية جديدة بهدف تأسيس حكومات وطنية حقيقية تعرف كيف تتعامل مع مصالح شعوبها في الداخل وتقف لسياسات الهيمنة في الخارج.

لابد أن يركز خطابنا في هذا الإطار على الربط بين الاستبداد وانتهاكات حقوق الإنسان وقمع الأحزاب والمجتمع المدني وقتل أحلام الشباب في الداخل وبين ظهور الأفكار المتطرفة وحركات العنف والإرهاب في الداخل والخارج.

ولابد أن يركز خطابنا أيضا على أن المسؤول الأول عن التطرف هم حكامنا المستبدون الذين قمعوا الحريات وأجهضوا كل محاولة لتمكين المجتمع ومؤسساته وحاربوا قيم الدين الإسلامي الحقيقية التي تدعو إلى الحرية والعدالة وحكم القانون والتسامح والتعددية والشفافية والمساءلة.

لابد أن يركز خطابنا أيضا على أن المسؤول الأول عن التطرف هم حكامنا المستبدون الذين قمعوا الحريات وأجهضوا كل محاولة لتمكين المجتمع ومؤسساته

لابد من إظهار أن كل هذه القيم قيم إسلامية ومارسها المسلمون لقرون قبل الغرب وأن ما يحول بينها وبين المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة الآن هو الاستبداد ومن يدعم الاستبداد والحكومات العسكرية والثورات المضادة.

وفي هذه الجبهة الداخلية، هناك قضية عادلة لابد من الانتباه إليها، وهي قضية فسطين، التي لابد أن تعود كما كانت دوما قضية مصرية محلية، وقضية محلية في كل قطر عربي. ولن يتم هذا إلا بإعادة تعريف الصراع في فلسطين والمنطقة كلها، وتشكيل فرق عمل حقوقية واعلامية وتوعوية لفضح ممارسات قوات الاحتلال وأساطيره ومخططات التطهير العرقي والعزل العنصري أمام كافة شعوب الأرض من جهة، ومعالجة الآثار السلبية المترتبة على تجاهل أنظمتنا السياسية والتعليمية والإعلامية أبجديات هذا الصراع وطرق معالجته حضاريا ونفسيا واعلاميا وعسكريا وذلك من جهة اخرى.


الجبهة الخارجية

وهذه الجبهة الخارجية بها مساحات عمل متعددة ولابد من التواصل فيها مع كل القوى والحكومات الحية والمنظمات الإقليمية والدولية في جميع أنحاء العالم.

المساحة الأولى تتصل بإظهار الوجه الحقيقي للإسلام وبالطريقة التي يفهمها الغربيون وذلك بالعمل على إبراز قيم ومبادئ الإسلام وإزالة كل ما علق بها من تشوهات وإعادة تأهيل المنابر الدينية أو إقامة منابر جديدة.

ويتطلب هذا أيضا نصرة الاسلام بالتمسك بكل السلوكيات التي دعانا إليها الرسول عليه الصلاة والسلام، والتقيد بأبجديات الاسلام في الحرام والحلال، وقيادة الأمة نحو امتلاك أدوات القوة في هذا العصر كالتسلح بالعلم والمعرفة والتمسك بالحقوق والحريات والعمل على تأسيس دولة المؤسسات والقانون ومحاربة الفساد والاستبداد والإقصاء.

لابد من إظهار أن المقدسات لابد أن تختلف باختلاف الثقافات والأديان وأن الاحترام المتبادل هو الحل الأمثل لضمان التعايش

وهناك مساحة ثانية لإظهار حقيقة التطرف والعنف في العالم وكشف حقيقة الجماعات المتطرفة في بقية الأديان والمجازر التي ترتكبها هذه الجماعات. بجانب إظهار أعداد الضحايا الذين سقطوا على يد الجيوش الغربية في القرن العشرين فقط وعلى يد الحكومات الشمولية والعسكرية التي دعمتها أمريكا والغرب لعقود طويلة ليس في الشرق الأوسط فقط وإنما في آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية.

وهناك مساحة ثالثة فكرية، وهي إظهار أن هناك قيود على حرية التعبير في الواقع الغربي على عكس ما يشاع، وأن الفصل بين العام والخاص في مسألة الحريات صعب نظريا وعمليا. فنظريا لا يمكن فصل سلوك الإنسان في المجال العام عن سلوكه في الخاص لأنه كائن حي بمشاعر وأحاسيس وقيم. كما أن الممارسة الواقعية تشهد العديد من القيود على الحريات الخاصة ليس فقط تجريم انكار الهولوكوست، وإنما أيضا قيام الدولة لأول مرة في تاريخ الإنسانية (وبفعل فلسفة الحداثة الغربية واحتكارها أدوات العنف والجيش والمخابرات أولا ثم بفعل تعاظم قوة الرأسمالية وتقدم التكنولوجيا ووسائل الإعلام والدعاية ثانيا) بالتدخل في الحريات الشخصية ووضع القيود (بالقانون أو بغيره) في مسائل شخصية كالزواج والعلاقات الجنسية والإجهاض وغيرها. ولابد من إظهار أن المقدسات لابد أن تختلف باختلاف الثقافات والأديان وأن الاحترام المتبادل هو الحل الأمثل لضمان التعايش.

فالعلمانية على سبيل المثال (والتي نجحت في إيقاف تجاوزات رجال الكنيسة بأوروبا وأبعدتهم عن التحكم في السياسة) لم توقف دور القيم والدين والأحزاب ذات المرجعية المسيحية في الحياة السياسية، بل وتحولت العلمانية عند البعض إلى ايديولوجيا تتحكم في مصير الناس وتحدد لغير الغربيين المعايير التي يجب التقيد بها للولوج في زمن الحداثة.

إن العلمانية الشاملة (كما أسماها المسيري) عند هؤلاء تقوم في الواقع بالوظائف التي تقوم بها الأديان لأنها تحدد للناس الصواب والخطأ وتحدد لهم الغايات النهائية من الحياة. والمسلم الجيد -طبقا لهذا المنظور وعند بعض الدوائر الغربية السياسية والإعلامية وليس كلها-هو المسلم الذي يتجاوز الإسلام نهائيا إنْ أراد اللحاق بالحداثة.

إذا أحسنا تقديم قيمنا وحلولنا الاجتماعية والاقتصادية للمشكلات التي تمر بها شعوب الأرض لساهمنا بقوة في إظهار حقيقة الإسلام الذي ننتسب إليه

وهناك مساحة رابعة وهي مشتركة مع كافة شعوب الجنوب والفئات المهمشة في الغرب، وهي تتصل بمقاومة تداعيات العولمة والهيمنة ومواجهة الفساد والاستغلال ومنتهكي حقوق الانسان. هذه جبهة مهمة للغاية وإذا أحسنا تقديم قيمنا وحلولنا الاجتماعية والاقتصادية للمشكلات التي تمر بها شعوب الأرض لساهمنا بقوة في إظهار حقيقة الإسلام الذي ننتسب إليه.

وهناك مساحة خامسة ذات طابع حقوقي ودولي وهي الضغط بكل الوسائل الممكنة من أجل سن قوانين محلية وتوقيع اتفاقيات ومواثيق دولية تحد من سياسات الاستغلال وتحدد المقدسات الخاصة لكل ثقافة وتمنع الإساءة إلى الأديان والرموز الدينية، وتضع آليات ووسائل للمتابعة والرقابة.

وربما تحتاج هذه الجبهة الخارجية إلى منتدى دولي شعبي يجمع كافة القوى الحية في العالم، المناهضة لكل صور التعدي على حقوق الإنسان من فساد واستبداد وهيمنة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.