كشفت دراسة صادرة هذا العام عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عن صورة قاتمة لجودة قطاع التعليم في دول عربية عدة، شملت الدراسة تقييما لأوضاع التعليم في 76 دولة عبر العالم، من بينها 9 دول عربية، وذلك استنادا إلى النتائج المحرزة في الرياضايات والعلوم. وتتصدر القائمة خمسُ دول آسيوية، هي سنغافورة وهونغ كونغ وكوريا الجنوبية واليابان وتايوان.

وضمن 76 دولة، وهي ثلث عدد دول المعمورة المشمولة بالدراسة، تصدرت دولة الإمارات القائمة العربية، وجاءت في المرتبة (45) على الجدول العام، فالبحرين في المرتبة (57) ثم لبنان (58) فالأردن (61) وتونس (64) والسعودية (66) وقطر (68). وجاء قرب ذيل القائمة الدولية كل من سلطنة عُمان في المرتبة (72) والمغرب (73).

ولاحظت الدراسة أن قطاع التعليم يعيش أزمة حقيقية في جل الدول العربية خصوصا الفقيرة منها.

وأرجعت السبب في ذلك إلى الميزانيات المحدودة التي تخصصها الحكومات لقطاع التعليم، وغياب الفلسفة التعليمية والإستراتيجية الواضحة، وضعف الهيكل التنظيمي والبنى التحتية والتجهيزات المدرسية، وتخلف مستوى المناهج المدرسية، واعتمادها بشكل كبير على حفظ المعلومات وتلقينها للتلميذ عن ظهر قلب دون تحليلها أو فهمها، وغياب المواد التي تُنمّي الحسّ النقدي لديه، وتمكنه من أسلوب تفكير وتحليل منطقي [1].

ولأجل هذا التردي في المستوى التعليمي والتربوي في عالمنا العربي نقف في هذا المقال مع أمرين مهمين، هما كيف نظر علماء الحضارة الإسلامية للأطفال؟ وماذا كتبوا عنهم؟ والأمر الآخر الوقوف مع نظرية المربية الإيطالية ماريا مونتسوري (ت1952م) وهي نظرية لا يزال يُؤخذ بها وتُطور حتى اليوم في أوربا الغربية بل وكثير من بلدان العالم للمرحلة العمرية المبكرة للأطفال.


التربية في حضارتنا!

لقد كان المسلمون لمدة قرون سادة العالم على المستوى الحضاري والثقافي والمعرفي عمومًا، ولم يكن ليتسنّموا تلك المكانة إلا بتنشئة أجيال على مناهج تربوية خضعت في مجملها للتطوير والرقابة الصارمة من مؤسسات الدولة والمجتمع المدني على السواء، وهذا مبثوث مسطور في تراثنا العظيم.

إننا نجدُ ابن الحاج المصري (ت737هـ) يتناول في مؤلّفه القيم «المدخل» كثيرًا من طرائق التربية النافعة وأساليبها؛ فهو يكشف الصلة بين جودة المربي وجودة الصبي الذي يتخرج على يديه، قائلاً:

«ينبغي لآباءِ الصّبيان أن يتخيّروا لأولادهم أفضل ما يمكنهم في وقتهم ذلك من المؤدِّبين، وإن كان موضعًا بعيدًا فيختارون لهم أولاً أهل الدين والتقوى، فإن كان مع ذلك عنده علم من العربية فهو أحسن، فإن زاد على ذلك بالفقه فهو أولى، فإن زاد عليه بكبر السن فهو أجلّ، فإن زاد عليه بورع وزهد فهو أوجب، إلى غير ذلك إذ إنه كيفما زادت الخصال المحمودة في المؤدب زاد الصبي به تجملاً ورفعة»[2]. (اقرأ: ابن الحاج يصف مناهج التربية في عصره)

وقد أفرد العلامة ابن خلدون (ت808هـ) في مقدمته الشهيرة فصلاً عنوانه: «في أن الشدّة على المتعلِّمِين مضرةٌ بهم»، حلل فيه برؤيته الثاقبة للعواقب ونتائج الأفعال، الأثرَ السلبي الخطير الذي يترتب على التعامل مع الأطفال بالعسف والقهر؛ قائلا:

«إن إرهاف الحد بالتعليم مضر بالتعليم، سيما في أصاغر الولد؛ لأنه من سوء الملكة، ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين سطا به القهر، وضيّق عن النفس في انبساطها، وذهبَ بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحُمل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره؛ خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلّمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخُلقاً، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرن … وهكذا وقَعَ لكل أمة حصلت في قبضة القهر، ونال منها العسف … فينبغي للمعلم في متعلِّمه، والوالد في ولده أن لا يستبدّا عليهما في التأديب»[3].

واللافت أننا وجدنا اهتمام مؤسسات الدولة بما فيها السلطان بالأطفال ومعلميهم، ويذكر لنا القلقشندي (ت821هـ) في موسوعته «صبح الأعشى» بعض الرسائل التي كانت تُرسل للمؤدبين والمعلمين وأهل التربية من قِبل المؤسسات العليا في الدولة، يتضح فيها دور المسئولية العامة في التعامل مع الأطفال، قال:

«إن كان مدرسًا وُصّي بأن يُقبِلَ على جماعة درسه بطلاقة وجه، وأن يستميلهم إليه جهد استطاعته، ويُربيهم كما يربي الوالد ولده، ويستحسن نتائج أفكارهم التي يأتون بها في درسه، ويُقدّم منهم من يجبُ تقديمه، ويُنزل كل واحد منهم منزلته؛ ليهزّهم ذلك إلى الإكباب على الاشتغال والازدياد في التحصيل، ثم يأتي في كل مدرس بما يناسبه من أمور العلم الذي يدرس فيه وإن كان يدرس في علم خاص»[4].

والحق أن تراثنا الثقافي والفكري والفقهي يقدم لنا ملامح النظرية التربوية في النسق الإسلامي، وهي نظرية تجلت في مؤلفات الغزالي وابن حزم وابن خلدون والسمعاني وابن الحاج وغيرهم، وهي تكشف لنا كيف اهتم علماء المسلمين بتربية النشء وتقويمه، ووضع الضوابط والمعايير والوسائل اللازمة لتعينه وتؤهله في هذا المضمار [5].


منهج مونتيسوري التربوي!

تراثنا الثقافي والفكري والفقهي يقدم لنا ملامح النظرية التربوية في النسق الإسلامي وهي التى تكشف لنا كيف اهتم علماء المسلمين بتربية النشء وتقويمه

إننا يمكن أن نستفيد بالأمرين معًا؛ استفادة بما كُتب في تراثنا من نظريات تربوية لا تزالُ نافعة صالحة لأجيالنا حتى اليوم، واستفادة بمناهج التربية والتعليم في دول العالم المتقدم.

نظرية مونتيسوري تقوم على تربية الطفل من 6:3 سنوات وفق ميوله لتنميته روحيا وفكريا وحركيا عبر أنشطة تلبي حاجاته وتنمي إمكانياته داخل مؤسسات متخصصة

أما الجانب الأول فهو بحاجة إلى باحثين منقّبين في تراثنا لاستخراج النصوص التربوية المبثوثة فيه، وإعادة دراستها وتقديمها للمثقفين والمربين لأنها أصل هويتنا، وقاعدة ثقافتنا، وأحد الأسباب الرئيسة التي أدت إلى نهضتنا.

وقد حاولتُ بسط هذا في كتابي «كيف ربّى المسلمون أبناءهم؛ رحلة في تاريخ التربية الإسلامية»، وحاوله من قبلي الأستاذ الدكتور عبد العزيز الأهواني في كتابه الماتع «التربية في الإسلام»، والمستشرق الإسباني خوليان ريبرا في كتابه «التربية الإسلامية في الأندلس»، ولا يزال هذا المجال في حاجة إلى التنقيب عنه، وإبراز ملامح النظرية التربوية في الحضارة الإسلامية والتراث العربي شرقًا وغربًا.

أما الجانب الآخر؛ فإننا في حقيقة الأمر نملك رصيدًا ثمينًا من الدراسات والنظريات التربوية الحديثة التي أثبتت نجاحها في الغرب، لكننا في هذا المقال يمكن أن نقف مع إحداها، وهو منهج العالمة والمربية الإيطالية ماريا مونتيسوري (ت1952م)، وهو منهج ناجح حتى اليوم، رغم مرور أكثر من نصف قرن على وفاة صاحبته!

إن لبّ نظرية مونتيسوري يقوم على تربية الطفل ما بين ثلاث إلى ست سنوات، وفق ميوله لتنميته روحيًا وفكريًا وحركيًا عبر مجموعة أنشطة تلبي حاجاته وتنمي إمكانياته داخل مؤسسات متخصصة، منها مشروع بيوت الأطفال الذي أقامته في أحياء روما الفقيرة ولاقى نجاحًا كبيرًا.

لقد رأت مونتسوري أن «النظام الخارجي يُساعد في بناء النظام الداخلي»، وهي قاعدة تمكنت من تطبيقها في الفصول من خلال تجهيز أدوات التعليم بحسب المواضيع التعليمية، وتنظيم الأدوات بحسب تتابع تقديمها من السهل إلى الصعب ومن الرمز إلى المجرد.

فالتعليم حسب منهج مونتيسوري يجب أن يكون فعّالاً وداعمًا وموجهًا لطبيعة الطفل، باستخدام نظام بسيط من التعليم والابتعاد عن تراكم المعلومات والتلقين والحفظ؛ لأن الطفل يجب أن يتعرف على العالم من حوله من خلال حواسّه. فمنهج مونتيسوري هو منهج تعليمي يعتمد على فلسفة تربوية تأخذ بمبدأ أن كل طفل يحملُ في داخله الشخص الذي سيكون عليه في المستقبل.

وبيئة التعلم حسب منهج مونتيسوري تقوم على ستة مبادئ هي: الحرية الهيكلية والنظام والواقعية والجمال والجو العام وحياة المجتمع. وهكذا فغرف التدريس تراعي هذه النقط وعليه فهي بسيطة للغاية، جميع محتوياتها تناسب المرحلة العمرية للطفل، فلا وجود لسبورة ولا كتب، فالمتعلم هو المحور و ليس المعلم، وله حرية التعبير وممارسة كل نشاطاته، فينمى الطفل محبًا للتعليم مقبلاً عليه، مالكًا لحواس نقدية مؤهلة للانتهال والتطوير [6].

وإننا ننصح أن يعاد اكتشاف منهج السيدة مونتسوري وتدريسه للمراحل العمرية المبكرة، مع إعادة التنقيب في ميراثنا التربوي في الحضارة الإسلامية والجمع بينهما، فقد كان النظام المتّبع في الكتاتيب والمدارس أسبق في الاهتمام بملكات الأطفال الذاتية.

وإذا كانت السيدة مونتسوري قالت في إحدى كتُبها على سبيل القطع: «إن أهم ما يُميز التربية الحديثة (الغربية) هو احترام شخصية الطفل إلى حد لم يبلغه من قبل»[7]، فإن رد الأستاذ الدكتور الأهواني هو الأصدق وفقًا لمعطيات الحضارة الإسلامية؛ إذ قال: «نحن لا نتفقُ مع هذه المربية في الحكم على الماضي، فقد يكون هذا الرأي صحيحًا بالنسبة إلى التعليم في أوروبا، ولكنه غير صحيح على إطلاقه عن التعليم في الكتاتيب؛ ذلك أن شخصية الطفل كانت محترمة إلى حد كبير»[8]، وذاك ما يجب أن تتمحور حوله النظرية التربوية الحديثة في عالمنا العربي والإسلامي.

المراجع
  1. تقرير بعنوان «لماذا يظل مستوى التعليم ضعيفا في كثير من الدول العربية؟»، موقع بي بي سي العربية، بتاريخ 19 مايو 2015م. نقلا عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فرع التعليم
  2. ابن الحاج العبدري: المدخل 2/ 324. دار الفكر – بيروت، الطبعة الثانية، 1397هـ – 1977م
  3. ابن خلدون: المقدمة ص540. تحقيق علي عبد الواحد وافي، مطبعة دار الشعب
  4. أحمد بن علي القلقشندي: صبح الأعشى في صناعة الإنشا 11/ 97. دار الفكر – دمشق، الطبعة الأولى، 1987م
  5. انظر: سعيد إسماعيل علي: الفكر التربوي العربي الحديث ص9- 13. سلسة عالم المعرفة، العدد113 – الكويت، 1987م
  6. رشيد التلواني: مقال بعنوان «ماذا تعرف عن منهج مونتيسوري التعليمي؟»، موقع تعليم جديد، بتاريخ 13 إبريل 2015م
  7. وليام جيمس: محادثات حول علم النفس ص14، نقلاً عن عبد العزيز الأهواني: التربية في الإسلام ص194
  8. الأهواني: التربية في الإسلام ص195. دار المعارف – مصر