لا يخفى على أي متابع للمشهد السوري الراهن، أن الثورة السورية أدت إلى تدفق أعداد كبيرة من النازحين السُّنة إلى المنطقة الساحلية في الشمال الغربي التي ظلت معزولة حتى اليوم عن الدمار واسع النطاق الذي شهدته مختلف أنحاء سوريا.

وكما هو معروف فإن سكان تلك المنطقة من العلويين في غالبيتهم، ولذلك ظلت هناك العديد من التساؤلات المطروحة حول طبيعة العلاقات الطائفية السائدة هناك الآن.

في ظل ذلك الوضع الطائفي المتوتر في سوريا خلال السنوات الماضية في هذا الإطار أعدت مؤسسة «فريدريش إيبرت شتيفتونغ/ Friedrich Ebert Stiftung» الألمانية دارسة قام بترجمتها إلى العربية معهد العالم للدراسات في فبراير/ شباط الماضي، بعنوان «الساحل خلال النزاع: الهجرة، والطائفية، واللامركزية في محافظتي طرطوس واللاذقية السوريتين».

تناولت الدراسة استراتيجيات البقاء والتكيّف التي اتّبعتها المجتمعات المحلية في محافظتي طرطوس واللاذقية الساحليتين منذ اندلاع الثورة السورية، وتأثير الصراع الدائر على أرض سوريا ليس على العلاقات الاجتماعية-الاقتصادية بين طوائف سوريا فحسب، بل أيضاً على آليات نظام الأسد التقليدية في الحكم، والإكراه والسيطرة، كما أشارت الدراسة.


الساحل السوري وبنيته السكانية والطائفية

الشكل (1) التركيبة الإثنية والكثافة السكانية لمنطقة الساحل. الشكل (2) التركيبة الإثنية والكثافة السكانية.
الشكل (1) التركيبة الإثنية والكثافة السكانية لمنطقة الساحل. الشكل (2) التركيبة الإثنية والكثافة السكانية.

تتألف المنطقة الساحلية السورية من محافظتي طرطوس واللاذقية، ويحدّها من الجنوب لبنان، وتركيا في الشمال. كما تمتد تلك المنطقة من البحر الأبيض المتوسط في الشرق إلى سلسلة الجبال الساحلية في الغرب، والتي تعرف أيضاً باسم «جبل العلويين».

وهي منطقة يجعلها مناخها وتربتها الخصبة منطقة زراعية كثيرة الإنتاج، تُنتِج محصولاً يُصدَّرُ إلى أرجاء سوريا وإلى الخارج عبر موانئها المتعددة على شواطئ المتوسط. تنتمي غالبية السكان في منطقة الساحل إلى الطائفة العلوية، مع وجود أقلية كبيرة من السنة وبعض المجموعات الدينية الأخرى.

هناك سبب للاعتقاد أن النظام حرض الكتل السكانية السنية على النزوح، بعد أن استهدف مراكز ثقلهم الحضرية من أجل إرغامهم على الرحيل

قبل تأسيس الدولة السورية الحديثة عام 1946، كانت المدن الساحلية، وتشمل اللاذقية، وطرطوس، وبانياس، وجبلة، إلى حد كبير موطناً للسنة وبعض المسيحيين الذين اشتغلوا بالتجارة، وربطوا المناطق الداخلية الزراعية بالأسواق الخارجية عبر التجارة البحرية، بينما كان محيط الجبال مأهولاً بغالبه من قبل العلويين العاملين بصورة رئيسية بالزراعة.

وتساعد الأسباب التاريخية على تفسير هذا التوزّع الديمغرافي: إذ كان محظوراً على العلويين العيش في مدينة اللاذقية إلا بوصفهم خدماً حتّى زمن الانتداب الفرنسي.

أما اليوم، فقد أدي خليط التحديث الاقتصادي وهيمنة شخصيات علوية على النظام السياسي منذ سبعينيات القرن الماضي، بالعديد من العلويين إلى ترك قراهم في الجبال متجهين إلى البلدات والمدن الساحلية.

وبشكل خاص جذب نمو القطاع العام وتوسّع التوظيف في الدولة العديد من العلويين إلى المدن، فأقاموا على مشارف «وسط المدينة» التقليدي. وتدريجياً، تحولت هذه المستوطنات إلى جزء من النسيج الحضري الشامل، بينما بقيت مراكز المدينة التاريخية سنيّة في غالبها.


نزوح السنة إلى منطقة الساحل بعد الثورة

منذ عام 2011، بقيت المنطقة الساحلية معزولة نسبياً عن العنف مقارنة مع بقية البلد. ولذلك انتقل عدد هائل من السوريين من المناطق المتأثرة بالنزاع واستقروا هناك. حيث خلق هذا أنماطاً جديدة من التفاعل بين المجتمعات المحلية في الساحل وبين الوافدين، مما غيّر جذرياً في كلا الطرفين.

حيث استقبلت المنطقة تدفقاً هائلاً من البشر ينتمون بالدرجة الأولى إلى الطائفة السُنّية، وتشير الدراسة إلى أن هناك سبباً للاعتقاد أن النظام حرّضهم على النزوح السكاني عن عمد، بعد أن استهدف مراكز ثقلهم الحضرية وأحيائهم المكتظّة بالسكان من أجل إرغامهم على الرحيل والبحث عن ملاذات آمنة، في مناطق يملك النظام فيها أكبر قدر من الدعم.

وقد صبّت بالنهاية نتائج تدفقات تلك الهجرات الداخلية بالفعل في صالح النظام ، إذ إنها أفقرت المناطق التي في قبضة الثوار من سكانها، وزادت عدد السكان الذين يعيشون في ظل سيطرة النظام.

حيث أجبر على سبيل المثال القصف الواسع للنظام على مدن الداخل في الشمال السوري مثل حلب، وإدلب، وجسر الشغور، سكان هذه المناطق على الفرار من بيوتهم واللجوء إلى تركيا والمناطق الساحلية الخاضعة للنظام، التي كانت من أكثر المناطق القريبة إليهم أمناً.

على مستوى آخر تحول تدفق وافدين سنة فقراء إلى مناطق الطبقة الدنيا السنية في اللاذقية الانقسامات الطائفية –الموجودة بين المجتمعات المحلية والتي كانت بالكاد ظاهرة قبل النزاع، إلى عامل محفز لإذكاء التوترات الطائفية، حيث فاقم وصول هؤلاء الأفراد الانقسامات المحلية بين السكان العلويين والسُنّة في المدينة. بعد أن تداخلت الأبعاد الطبقيّة مع الانقسامات الطائفية وتقاطعت معها.

فمع بداية الموجة الجديدة للهجرة، انتقل هؤلاء السُنّة إلى مناطق شعبية حيث استقر أقاربهم قبل 30 عامًا، مثل الرمل الجنوبي وقنينص. وربطت العلاقات العائلية، والهوية الطائفية، والظروف الاجتماعية – الاقتصادية هؤلاء الوافدين مع المستقرّين السابقين.

وبإعادة اتصال المجتمعات المحلية مع أصولهم من خلال أقاربهم، وطّدت هذه المجتمعات هويتها في مواجهة النظام ومحيطها العلوي – رغم عدم مشاركتها في نشاطات المعارضة المسلحة.

في هذا الإطار شهدت على سبيل المثال منطقة الرمل الجنوبي، مظاهرات منذ بداية الثورة السورية. كما زاد من جهة أخرى تأجيج مشاعر الاستياء الطائفي للسنة هناك، الجرائم التي تُرتكب بدوافع طائفية من قبل قوات موالية للنظام، مثل الإعدامات الميدانية للمدنيين السُنّة في بانياس والبيضة في مايو أيار 2013 .


العلاقة بين السنة والعلويين في السنوات الماضية

الشكل (2) هجرة النازحين حسب النواحي

نظر سكان اللاذقية الحضر ولاسيما أفراد الطبقة الوسطى بازدراء عادةً إلى أحياء الضواحي، التي نادراً ما زاروها بكل الأحوال. كما زاد وصول النازحين السنة المحمّلين بالاستياء السياسي ضد النظام من هذا الميل. حيث فاقم الخطاب الطائفي المتزايد للنظام من هذا الشعور من خلال وصمه لكل المجموعات الإسلامية السُنيّة بالإرهابيين.

وكنتيجة لهذا الأمر سيطر على تلك الضواحي ضبّاط أمن النظام بصرامة وطُوّقوها بحواجز أمنيّة فعلى سبيل المثال، إذا أراد ساكن من الرمل الجنوبي أن يصل إلى مركز مدينة اللاذقية، عليه أن يمرّ من خلال سبعة حواجز على الأقل. وفي كل من الرمل الجنوبي وقنينص حاجزان أمنيان عند مدخليهما للدخول وللخروج. كما اخترق أمن النظام أيضاً الأحياء، مختاراً عدداً من المخبرين من أجل مُراقبة الحيين وسكانهما.

في المقابل ورغم أن الصراع الراهن على أرض سوريا قد أدى إلى تعمق التوترات السُنيّة – العلوية، إلّا أنه من جهة أخرى وفّر أيضاً مسارات جديدة لتضامن وتعاون اقتصادي عابر للطوائف.

إذ بدلاً من إحداث تغيير جذري في بنية العلاقات الطائفية في الساحل، فقد وطّد النزاع المديد العلاقات الطبقيّة والتجارية الموجودة سابقاً بين بعض أبناء كلتا الطائفتين.


النظام وعلويو الساحل: مراكز تجنيد الميليشيات والجمعيات الخيرية

الشكل (2) هجرة النازحين حسب النواحي
الشكل (2) هجرة النازحين حسب النواحي

وطّدت الثورة السورية ترابطَ المجتمعات العلوية الساحلية مع النظام بطريقة جديدة لم يسبق لها مثيل. إذ عزل النزاع الساحل والعديد من المجتمعات المحلية العلوية عن باقي سوريا، مما سمح لهم بتطوير آليات حكم محلي من جهة، ولكن من جهة أخرى جعلهم أكثر اعتماداً على شبكات رموز النظام من أجل المحافظة على هذه الاستقلالية.

ونتيجة للظروف التي مر بها جيش النظام السوري، التي أثّرت أيضاً على المجتمعات المحلية التي زودته بالكثير من طاقته البشرية، مثل المجتمعات العلوية في الساحل.

كان هناك حاجة لكلا الطرفين لمعالجة آثار خسائر المعارك على المجتمع المحلي من جهة، ولضخ المزيد من الطاقة البشرية في المجهود الحربي من جهة أخرى، ولذلك توجّهت منظمات خيرية محلية متعددة نحو مساندة المجتمعات التي فقدت العديد من شبانها، كما ظهر 25 مركز تجنيد جديدًا للميليشيات على طول الساحل.

الشكل (3) تأسيس مراكز تجنيد للميليشيات ومنظمات اجتماعية، حسب الناحية.
الشكل (3) تأسيس مراكز تجنيد للميليشيات ومنظمات اجتماعية، حسب الناحية.

هذه المؤسسات الجديدة تفعل أكثر بكثير من مجرد تزويد النظام بطاقة بشرية جديدة أو إعانة الأُسر المتأثرة بالنزاع. فقد عمّق انتشارها عبر الساحل شبكات الدعم والاتصال بين النظام والمجتمع الساحلي، كما عزّز من قاعدة النظام الاجتماعية بين المجتمعات العلوية.

وقد كان التحول من الاعتماد على الجيش إلى الاعتماد على الميليشيات أساسيًا لضمان قدرة نظام الأسد على تعبئة الشباب العلويين، من أجل مواجهة نقص القوات البرية في ظل عدم القدرة على التجنيد عبر الآليات الرسمية للتجنيد العسكري الإلزامي، وهو ما يعد بمثابة إعادة استثمار للشبكات الاجتماعية لضباط جيشه العلويين.

وخلافاً لجيش المجندين الوطني، الذي يعتمد على جنود من كل المناطق والخلفيات الاجتماعية والدينية، فإن الميليشيات هي وحدات محلية ترتبط بالأرض التي يشكّل الدفاع عنها سبباً لوجودهم.

هناك حالة على أرض الواقع تتجه بسوريا نحو اللامركزية، بشكل أعاد فتح قنوات تفاعل اقتصادي وعلاقات اجتماعية بين المناطق والمجتمعات المحلية.

أشارت الدراسة في الختام إلى أن الوضع في المناطق الساحلية يشير بالنهاية إلى صمود المجتمعات المحلية التي لم تتغير علاقاتها وأدوارها بشكل جذري حتى بعد خمس سنوات من العلاقات الطائفية المتوترة منذ اندلاع الثورة السورية.

كما أشارت أيضاً إلى أن النزاع السوري وطّد مجموعة سابقة من العلاقات على المستوى الأفقي، بين طوائف تعيش بجانب بعضها. أضفت تدريجياً طابعاً محلياً على العلاقات بين مجتمعات الساحل ومؤسسات الدولة والنظام.

فإذا كانت سابقاً علاقة علويي الساحل مع مؤسسات الدولة التي مقرها في دمشق والمخابرات بيّنت نفسها أفقياً بوصفها علاقة بين الهامش والمركز، فاليوم تتجلّى هذه العلاقة بشكل متزايد على المستوى المحلي، بين المجتمعات المحلية ووكلاء شبكات النظام.

و هو ما يشير إلى أن هناك حالة خلقتها الظروف على أرض الواقع تتجه بسوريا نحو اللامركزية، بشكل أعاد فتح قنوات تفاعل اقتصادي وعلاقات اجتماعية بين المناطق والمجتمعات المحلية المختلفة رغم كل ملابسات الوضع الطائفي.

وبعبارة أخرى كما ذكرت الدراسة، سوف تعيد استراتيجية اللامركزية التي خلقها الأمر الواقع على أرض سوريا بناء قنوات بين المجتمعات المحلية التي تقطّعت بسبب النزاع، سيكون دور السنة والعلويين في المنطقة خلالها استمرارية لعلاقتهم في الماضي وللروابط التاريخية العابرة للطائفية بينهم.