في فيلمه «سنترال» (2006)، يحكي لنا المخرج «محمد حماد» قصة حي بأكمله وما يحمله من علاقات جنسية خفية من خلال تجسس عاملة إحدى السنترالات الشعبية على مكالمات الزبائن، استخدم حماد الـ«Voice Over»في فيلمه كطريقة سردية لرواية الأحداث والمكالمات. ولكن بعد مضي أكثر من 10 سنوات على فيلم محمد حماد، تغير شكل السنترال، الهاتف، وطرق الاتصال نفسها. أصبح من الممكن إجراء مكالمة صوتية أو مكالمة فيديو بمنتهى السهولة، انتهى عصر السنترالات فعليًا، والفضل يعود إلى التكنولوجيا بالطبع.

أصبحت هواتفنا الذكية جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، الكل يحمل هاتفًا من تلك الماركة أو من شبيهتها. حتى المقاهي الشعبية أصبحت تتمتع بخدمة الإنترنت الهوائي، واتخذت الدردشة والتواصل بين البشر -حتى هؤلاء الجالسين مع بعضهم على نفس الطاولة- شكلاً مغايرًا.

ولكن هل غيرت الهواتف الذكية من شكل حياتنا اليومية فقط، أم أنها تغير أيضًا من شكل الدراما التلفيزونية التي نشاهدها؟، كيف غيرت تلك التكنولوجيا من شكل السرد الفيلمي ذاته؟، وكيف لعبت دورًا هامًا في تغيير شكل الحبكات الدرامية ذاتها؟، هذا ما نحن بصدده في هذا المقال.


حكايات من نوع آخر

من الواضح تمامًا أن الهواتف التي نحملها اليوم تختلف كلية عن تلك الهواتف الثابتة التي استخدمناها في زمن لاحق. الهاتف اليوم هو هاتف، كاميرا، مشغل موسيقى، مشغل فيديو، منبه، كومبيوتر مصغر إلى حد كبير، ومخبأ للأسرار في المقام الأول؛ نحتفظ عليه بكل صورنا، وتسجيلاتنا الصوتية. أن يستطيع أحدهم الوصول لمحتويات هاتفك هو أشبه بأن يسرق أحدهم دفاترك الخاصة في زمن سابق.

ففي فيلم «غرباء كلية»لباولو جينوفيزي، تُبنى دراما الفيلم كلية على وجود الهواتف الذكية. مجموعة من الأصدقاء، يجلسون سويًا لتناول العشاء، يبدو أنهم أصدقاء منذ زمن بعيد، ويبدو كل منهم عارفًا بالآخر تمام المعرفة. يقترح أحدهم أن يتركوا هواتفهم على طاولة العشاء، وأي رسالة تأتي، يقرؤها متلقيها بصوت عالٍ؛ تتكفل هذه اللعبة بتدمير كل ادعاءاتهم عن معرفتهم ببعض.

وفي مسلسل «هذا المساء»، لتامر محسن، تُبنى الدراما بشكل كبير على وجود الهواتف الذكية في حياتنا، حيث يستخدم المخرج فكرة التلصص على حياة البشر التي سبق تقديمها في فيلم سنترال، ولكن هذه المرة من خلال التطبيقات التي تسمح لبعض أبطال المسلسل بالتجسس على الهواتف وهي في مكانها، أمر مخيف بالطبع.

فبالرغم من وجود مسلسلات تشويق أخرى مثل «30 يوم»، و«كلبش»، و«كفر دلهاب»لمحبي مسلسلات الرعب الخيالي المبني على الأساطير، إلا أن «هذا المساء»هو المسلسل الأكثر رعبًا حيث يبني منطلق الخوف من حوادث قد تحدث للجميع، جميعنا يمتلك تلك الهواتف، ويمكن أن نصبح في مأزق بمجرد ضغطة خاطئة على أحد الروابط؛ ضغطة قد تؤدي إلى عرض حياتك كفيلم لأحدهم بينما يستمتع بكوب من الشاي!.

ليس هذا فقط ما يجعل الهواتف أبطالاً للمسلسل، فالمخرج ينجح في خلق علاقات درامية أخرى مبنية على شبكات التواصل الاجتماعي، الهاتف يصل بشرًا لم يكن أبدًا في مخيلتهم التلاقي مجددًا، مثل تجمعات دفعات المدرسة القديمة. الهاتف هنا ليس ذلك الهاتف القديم، الهاتف هنا بطل لا محالة، قد يكون سببًا في زواج اثنين، أو سببًا لانفصالهم، أو حتى في قتل أحدهم.


التغير على مستوى الشكل

في الأفلام القديمة، عندما كان يكتشف أحدهم جثة قتيل، كان الاختيار السردي لهذا الموقف هو أن يتفوه الممثل الذي وجد الجثة باسم القتيل بعد أن يستخرج أوراق هويته، أو أن تصور لنا الكاميرا بطاقة المقتول في لقطة أخرى مصحوبة بصوت الممثل، هذه الاختيارات وقتها كانت الحل الوحيد لسرد موقف كهذا، وفي موقف مثل هذا نعلم نحن الجمهور ما حدث.

أما في يومنا الحالي، فمع وجود بعض المؤثرات البصرية البسيطة، نتعرف على الرسائل النصية التي تصل لأبطال العمل التليفزيوني أو الفيلمي من خلال نص مكتوب في نفس اللقطة، الأمر الذي نراه واضحًا في فيلم «العهد الجديد تمامًا» للمخرج البلجيكي «جاكو فان دورمايل»والذي يدمج من لقطة الفعل/رد الفعل في لقطة واحدة. نستطيع أن نشهد على ما يصل للممثل من رسائل نصية، وعلى رد فعله على هذه الرسائل في نفس اللقطة.

يضرب مسلسل «ريح المدام»لأحمد فهمي مثالاً جيدًا. في اللقطة الأولى نرى أحمد فهمي يستيقظ من نومه، نستمع إلى نغمة الرسائل، ثم تتوالى رسائل عشيقاته في الظهور في نفس اللقطة، الأمر الذي يوفر كثيرًا في الوقت والتكلفة الإنتاجية لمعرفة أن بطل المسلسل زير نساء منذ اللقطة الأولى.

ما يميز هذه الطريقة، بخلاف الدمج بين لقطة الفعل/رد الفعل، والتي لطالما كانت مستخدمة بشكل واسع في السينما والتليفيزيون، هو أن ظهور النص بهذه الطريقة هو بمثابة وسيط بصري، الرسائل بينما تظهر تتحرك أعيننا معها ونتفاعل معها تفاعلنا مع الصورة بخلاف صوت الممثل المصاحب للقطة الذي يجعل من الصورة شيئًا ثانويًا.

شكل آخر للدمج بين لقطات الفعل/رد الفعل يظهر في مسلسل «هذا المساء» عندما تتحدث «نادين» مع والدها من خلال تطبيق سكايب عن طريق هاتفها، الاختيار هنا يجعلنا نراقب وجه نادين ووجه والدها في نفس اللقطة، حتى وإن وجدت لقطات رد فعل أخرى، فإن هذا الاختيار يغير من طريقة السرد البصري للحكايات الفيلمية أو المسلسلات.

قد يقول البعض إن اختيار الخطابات المكتوبة قد يعطي نفس الأثر، نعم ولكن الخطابات لم تكن أبدًا بنفس سرعة الرسائل النصية الخاصة بتطبيق واتساب أو فيس بوك. فلنفترض أننا سنرى مضمونًا واحدًا بشكلين مختلفين: خطاب ورسائل نصية، ماذا يصنع الفارق؟.

هناك عدة اختلافات بين الطريقتين، فالخطاب لكي نقرأه لابد أن يكون ثابتًا، بينما تتحرك الرسائل النصية بسرعة هائلة نعتاد عليها في زمننا الحالي. لقطة الخطاب لا تستطيع أن تُظهر الارتباك الذي يحدث وقت كتابته دون أن تُظهر البطل يقوم بتمزيق عدة خطابات.

بينما في حالة الرسائل النصية، نستطيع أن نرى كل تعديل أو حذف من الرسالة، دون داعٍ للانتقال إلى لقطة أخرى، وفي النهاية استخدام شكل الرسائل النصية يفتح لنا العديد من الأشكال المختلفة لطريقة الكتابة ذاتها، والتي قد تكون إخبارية، أو قد تكون فنية في حد ذاتها من جانب رسم الخط، بينما يبقى شكل الخطاب تقليديًا إلى حد بعيد.

في النهاية، يشكل هذا المقال نظرة على ذلك التغير الذي تقوم به الهواتف الذكية على مضمون وشكل السرد السينمائي والتليفيزوني، العالم يتطور بسرعة لا متناهية؛ الأمر الذي يدفعنا للتفكير في أشكال الأفلام عند انتشار تقنيات الواقع الافتراضي، والأفلام المصورة بها، وعن مضمون الأفلام الذي قد يتولد عن وجود مثل هذه التكنولوجيا، فأفلام مثل «المنظومة»والذي كان فيلم خيال علمي في وقت ليس بالبعيد، قد يتغير شكله عندما تصبح نظارات الواقع الافتراضي في يد الأغلبية من البشر.