عن الرسام «ديجو فيلاسكيز» (1599 – 1660): رسام إسباني في فترةِ حكم الملك فيليب الرابع، وواحد من أهم الرسامين في العصر الذهبي الأسباني وفي تاريخ الفن بشكل عام. عمل في سن 25 في بلاط الملك فيليب الرابع الذي قام بتحويل متحف القصر لمرسم خاص بفلاسكيز. يمكن تصنيف فيلاسكيز كرسام واقعي وتعبيري حيث قدمت العديد من أعماله يوميات العائلة المالكة في أسبانيا. يعتبر فيلاسكيز حتى اليوم أحد عملاقة فن الرسم، حيث حاول العديد من الرسامين محاكاه أعماله مثل: بيكاسو، سلفادور دالي، فرانسيس باكون.

هذه اللوحة يقول عنها لوكا جيوردانو: «إنها الأساس اللاهوتي لفن الرسم»، ويقول عنها توماس لورنس: «إنها الفلسفة الشرعية للفن».

اللوحة أثارت التأويلات الأكثر تنوعا في تاريخ الرسم، حتى أن ميشيل فوكو نفسه استهل بها كتابه «الكلمات والأشياء» قائلا:

إنه محض تبادل: إننا ننظر إلى لوحة وفيها رسام يتأملنا بدوره. لا شيء أكثر من وجه لوجه، من عيون تفاجئ بعضها، من نظرات مستقيمة، تتراكب حين تتقاطع. ومع ذلك فإن هذا الخيط الرفيع من الرؤية يحتوي بالمقابل شبكة معقدة من الشكوك، والمبَادلات والتهرب. فالرسام لا يتجه بعينيه نحونا إلا بمقدار ما نتواجد في مكان موضوعه الرئيسي، ونحن المشاهدين، لسنا إلا مجرد زيادة. وإذ نستقبل هذه النظرة، فإنها تطردنا، ليحل محلنا ما كان منذ بدء الأزمنة يتواجد هناك قبلنا: النموذج نفسه.

اللوحة اسمها الوصيفات (Las Meninas 1656) ويوجد بالفعل عدد من الوصيفات في اللوحة، لكن هل اللوحة عن الوصيفات؟ تتوسط الوصيفات ابنة الملك انفانتا مارجريتا، لكن هل اللوحة عن ابنة الملك؟ ألا يتوسط اللوحة أيضا مرآة تعكس صورة باهتة للملك والملكة؟ فهل هي عن الملك والملكة؟ لا أحد يستطيع ببساطة أن يجزم ما هو موضوع اللوحة؛ لأن لا أحد يستطيع أن يرى محتوى الجدارية التي يعمل عليها فيلاسكيز. لوحة فيلاسكيز أثارت جدلا واسعا بسبب محتواها شديد الغموض. في الأصل، فيلاسكيز يرسم الملك فيليب وزوجته الملكة؛ لكن مهلا، هذا لا يظهر بقوة في اللوحة، الحقيقة إن الملك وزوجته يظهران في بقعة باهتة بوجوه غير محددة الملامح في منتصف اللوحة فيما يبدو أنها مرآة. الأكثر من ذلك، أن فيلاسكيز رسم لوحة الوصيفات عنه هو، عن نفسه وهو يرسم الملك والملكة. على يسار الرائي جدارية من القماش لا يظهر منها شيء، إنها اللوحة التي يعمل عليها فيلاسكيز وعلى اليمين الأميرة الصغيرة وبعض الوصيفات. وفي المنتصف المرآة التي تعكس «المفروض» محتوى الجدارية التي يرسمها فيلاسكيز.

اللوحة كلها تنظر إلى مشهد هي بدورها مشهد بالنسبة له، في هذه اللوحة يتبادل الناظر والمنظور النظر بلا توقف. فيلاسكيز يحدق فينا جميعا بمجرد دخولنا حيز اللوحة. أنحن راؤون أم مرئيون؟ لا ندري. فيلاسكيز يحدق في النموذجِ الذي يرسمه، نحن بدورنا لا نرى النموذج الذي يراه، لكن لو اتبعنا خط النظر سنجد أن فيلاسكيز يحدق فينا نحن. هل كان فيلاسكيز يرسمنا نحن؟ والمرآة التي تتوسط الحائط عاكسة صورة الملك والملكة هل تعبر عن موضوع اللوحة الأصلي أم تعبر عن غيابه؟ لماذا رسم فيلاسكيز الملك والملكة في مرآة تعكس وجودهم بملامح بهاتة؟ ألا يعبر هذا عن الغياب أكثر من الحضور؛ الغياب المتمثل في صورة غير واضحة معكوسة في مرآة. ألا تعتبر أي من الوصيفات أكثر حضورا في اللوحة من الملك والملكة؟ ألا يستطيع الرائي للوهلة الأولى على الأقل أن يدّعي أن فيلاسكيز يرسمه هو؟ وهكذا، نجد أنفسنا أمام اللوحة عاجزين تماما عن إجابة سؤال بسيط، من يرسم ماذا؟

يعتبر تكنيك الحركة المبالغ فيها المستخدم في اللوحة تكنيك سائد في فترة الباروك. استخدمت الحركة الزائدة لخلق جو من الانفعال العاطفي والدراما في العديد من المجالات الفنية في تلك الحقبة. وعلى الرغم من أن لوحات فيلاسكيز قريبة من المدرسة التعبيرية إلا أنه في الوصيفات تجاوز عالم الباروك وقدم عملا يعتبر حتى اليوم الأكثر إثارة للجدل في تاريخ الفن. الجدل الذي وصل لدرجة جعلت بابلو بيكاسو وهو أحد أعمدة الفن في القرن العشرين يرسم سلسلة من 58 لوحة عام 1957 شارحا بها لوحة واحدة فقط: «الوصيفات». يقول الأديب والفنان الأسباني جيم سبارتس والمعروف بصداقته لبابلو بيكاسو، يقول في كتابه استوديو بيكاسو (L’ atelier de Picasso) والذي نشر عام 1952، أن بيكاسو خلال سلسلة الوصيفات لم يكن يقدم نسخ متعددة من لوحة الوصيفات في إطار المدرسة التكعيبية، بل أراد أن يقدم وصيفاته هو، تحليله هو.

ما قدمه فيلاسكيز في الوصيفات ليس مجرد حرفية عالية في الرسم. قدم فيلاسكيز مفهومه الشخصي ورؤيته للرسم خلال اللوحة. عند فيلاسكيز الرسم ليس مجرد مهنة أو حتى موهبة بل ما يرتقي بالرائي ويحرر عقله من أي مطلقات أو مسلمات. يرتقي الرسم عند فيلاسكيز ليس فقط بالحس الجمالي للمتابعين بل بقدراتهم العقلية أيضا. قدم فيلاسكيز عصارة عقله في الوصيفات فبدلا من رسم لوحة ذات موضوع واحد؛ قدم لوحة شملت الرسام (فيلاسكيز) والمرسوم (الملك والملكة) والحضور (الوصيفات) وأضاف على هذا ما لم يستطع أحد قبله أو بعده أن يضيفه؛ رسم فيلاسكيز كل من سيمر باللوحة. أنت وأنا وكل من ينظر لفلاسكيز وهو يرسم يصبح ببساطة موضوع الجدارية الموجودة على يسار الرائي.

هذا هو ما يحاول الرسم أن يقدمه؛ ما فشلت اللغة في تقديمه؛ علاقة أكثر رحابة وشفافية بين الإنسان والأشياء. تماما كما يقول ميشيل فوكو:

علاقة اللغة بالرسم علاقة لا متناهية، لأن الكلمة غير كاملة وتقع إزاء المرئي في عجز تجهد عبثا لتجاوزه، لأنهما لا يمكن أن يختزل أحدهما الآخر، فعبثا نقول ما نراه، لأن ما نراه لا يسكن أبدا فيما نقول، وعبثا عملنا على أن نجعل الآخرين بالصور والاستعاراتِ والمقارنات يرون ما نقوله الآن.

لذلك أمام هذه اللغة الرمادية، الموسوسة والمكررة دائما أضاء الرسم، كحل لعلاقة رمادية بين الكلمات والأشياءِ، علاقة يعمل الرسم على جعلهَا أكثر شفافية.