كنا قد تحدثنا في اللقاء السابق عن قصة سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه وهو يناقش الخوارج في حاروراء ووصلنا إلى إنكارهم عليه ما يلبسه من جميل الثياب وكيف أجابهم بأن هذا شرع الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأن إنكارهم إنما هو بسبب جهلهم وقلة علمهم، فلما انتهى من بيان ذلك قالوا له: فما جاء بك؟

قلت لهم: أتيتُكم من عند أصحاب النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – المهاجرين والأنصار، ومن عند ابن عمِّ النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – وصهره، وعليهم نزل القرآن، فهم أعلم بتأوِيله منكم، وليس فيكم منهم أحدٌ؛ لأبلغكم ما يقولون، وأبلغهم ما تقولون. (وفي هذا بيان للفرق الهائل بين علم الصحابة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم ، ومعهم علي بن أبي طالب وهو من هو علمًا وأدبًا وفقهًا وشجاعة وقربًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعهم كذلك عبد الله بن عباس نفسه وهو ترجمان القرآن الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يفقهه الله في الدين وأن يعلمه التأويل، وهؤلاء الخوارج ليس فيهم أحد من أهل العلم وإنما هي شعارات جوفاء ومظاهر خادعة ليس وراءها من الحقائق شيء، وقد كان هذا الفارق الكبير في العلم بين الطرفين كافيًا لأن يذعن الخوارج ويسيرون على منهج الصحابة العدول العلماء العاملين المخلصين رضي الله عنهم جميعًا؛ ولكنه التعصب والهوى عندما يسيطر على العقول والقلوب والعياذ بالله).

فقال بعضهم (أي بعض الخوارج): لا تُخاصِموا قريشًا؛ فإن الله يقول: ﴿ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾ {الزخرف: 58}.

(الله أكبر، هذا والله بيان للحق قبل أن يبدأ النقاش، فإنهم يقولون: لا تناقشوا ولا تجادلوا فإن هؤلاء الناس معهم من الحجة والعلم وقوة العقل ما يمكن أن يقنعوكم به ونحن نريد منكم أن تغلقوا رؤوسكم وعقولكم وقلوبكم ولا تفكروا إلا فيما نقوله لكم ولا تقتنعوا إلا بما نمليه عليكم!.

منهج أهل الانحراف عبر التاريخ أنهم يمنعون أصحابهم من التعلم والقراءة والبحث والاطلاع والمعرفة ويقولون لهم كما قال أهل الجاهلية من قبل: ﴿ لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾

وهو منهج أهل الانحراف عبر التاريخ أنهم يمنعون أصحابهم من التعلم والقراءة والبحث والاطلاع والمعرفة ويقولون لهم كما قال أهل الجاهلية من قبل: ﴿ لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ {فصلت : 26}.

وهذا ما ذكرني بموقف لا أملّ من تذكره والضحك من حال صاحبه عندما كان أحد الشباب في نقاش مع أحد العلماء فقال له هذا العالم: اقرأ كتاب كذا ثم تعال لنكمل النقاش فإن في ها الكتاب جواب سؤالك ولابد لك من هذا الكتاب لضبط بعض الأمور المهمة قبل أن نواصل النقاش، فما كان من هذا الشاب الطيب إلا أن قال: “أنا خايف أقرأ كي لا أتأثر!”.

إنه لا يريد أن يفهم، لكنه يريد فقط أن يكرر ما هو شائع من الجهل ثم لا يعطي لنفسه فرصة لكي يتعلم ويبحث ويتأمل ويتفكر وهذه من خصال من لا يريدون للناس علمًا ولا هداية وشعارهم شعار فرعون حين قال لقومه: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ { غافر : 29}.

قال ابن عباس يصف حالهم وشدة اجتهادهم في العبادة: وما أتيت قومًا قطُّ أشدّ اجتهادًا منهم، مُسهِمة وجوههم من السهر، كأنّ أيديهم وركبهم تثنى عليهم، (أي أنهم يقومون الليل ويصومون النهار حتى ظهر لذلك أثر على أجسادهم وظواهرهم لكن قلوبهم وعقولهم بعيدة عن العلم وأهله).


فقال بعضهم: لنُكَلِّمنَّه ولننظرنَّ ما يقول، (وهذا معناه أن من أهل الضلال من يريد الحق فعلًا ويبحث عنه لذلك يجب على أهل العلم أن يحاولوا البيان والتعليم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا).

قلت: هاتوا ما نقمتم على أصحاب رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – وابن عمِّه.

قالوا: ثلاث.

قلت: ما هن؟.

قال: أمَّا إحداهن، فإنه حكَّم الرجال في أمر الله، وقال الله: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ﴾ {الأنعام: 57}، ما شأن الرجال والحكم؟.

(هم بذلك يعترضون على قبول سيدنا عليّ أن يتم التحكيم بينه وبين سيدنا معاوية حين حدثت الفتنة ورفعوا بذلك بعض آيات القرآن لهم شعارًا من غير أن يفهموها على وجهها الصحيح الذي أراده الله سبحانه وتعالى).

قلت: هذه واحدة.

قالوا: وأمَّا الثانية، فإنه قاتَل ولم يَسْبِ ولم يغنم، إن كانوا كفَّارًا لقد حلَّ سبيهم، ولئن كانوا مؤمنين ما حلَّ سبيهم ولا قتالهم.

(وذلك أن سيدنا علي رضي الله عنه حين واجه جيش سيدنا معاوية ومن خرج معه ضد سيدنا علي رضي الله عنه وانتصر عليهم رفض أن يسبي نساءهم لأنه في مواجهة مع المسلمين لا مع الكفار، والخلاف في وجهات النظر وكل منهما يريد الحق لكن بطريقته، ومهما كان حجم الخلاف كبيرًا لكنه لا يكون ذريعة لتكفير المسلمين، أما الخوارج فيميلون إلى تكفير كل من يختلف معهم أو يواجههم ويعارضهم في مواقفهم).

قلت: هذه ثِنتان، فما الثالثة؟.

قالوا: ومَحَا نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أميرَ المؤمنين فهو أمير الكافرين!.

(وذلك أن سيدنا علي رضي الله عنه قبِل أن يترك الخلافة لكي يتم رد الأمر إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين مات رسول الله وهو عنهم راضٍ فاعتبر الخوارج أن قبوله هذا ونزعه لنفسه من إمارة المؤمنين معناه أنه لا يريد أن يكون أميرًا للمؤمنين وبالتالي فهو يريد أن يكون أميرًا للكافرين!، وانظروا معي إلى هذا الاستدلال العجيب والعقل الغائب عن هؤلاء القوم).

قلت: هل عندكم شيء غير هذا؟.

قالوا: حسبنا هذا.

قلت لهم: أرأيتكم إن قرأت عليكم من كتاب الله – جلَّ ثناؤه – وسنَّة نبيِّه – صلَّى الله عليه وسلَّم – ما يردُّ قولكم، أترجعون؟ (يعني تتركون تفسيق المؤمنين وتكفيرهم ومحاربتهم والخروج عليه وتعودون إلى التعاون مع المؤمنين على البر والتقوى).

قالوا: نعم.


الأمور لا تؤخذ بسطحية ونزق فنطلق أحكام التكفير والازدواجية في القيم والفساد في الرأي وعدم الالتزام بالمبادئ وغير ذلك من الأحكام الكبيرة لمجرد أننا رأينا موقفًا ما ولم نفهمه كما ينبغي له أن يُفهم.

قلت: أمَّا قولكم: حكَّم الرجال في أمر الله، فإني أقرأ عليكم في كتاب الله أن قد صيَّر حكمه إلى الرجال في ثمن ربع درهم؛ فأمر الله – تبارك وتعالى – أن يحكموا فيه، أرأيت قول الله – تبارك وتعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ [المائدة: 95].

وكان من حُكْمِ الله أنَّه صيَّره إلى الرجال يَحكُمون فيه، ولو شاء حكَم فيه، فجاز من حكم الرجال، أنشدكم بالله: أحكم الرجال في صَلاح ذات البين وحقن دمائهم أفضل، أو في أرنب؟.

قالوا: بلى؛ بل هذا أفضل.

وقال في المرأة وزوجها: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا﴾ [النساء: 35]، فنشدتكم بالله حكم الرجال في صلاح ذات بينهم وحقن دمائهم أفضل من حكمهم في بضع امرأة؟.

قالوا: اللهم بل في حقن دمائهم وإصلاح ذات بينهم.

(أي أن شعار ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ﴾ شعار صحيح لكن فهمهم له باطل، فإن الله تعالى قد كلف بعض العباد بأن يحكموا فيما بينهم بالعدل والقسط ولا يكون ذلك انتقاصًا من حكم الله تعالى أو تعدٍّ عليه بل هو عمل به وسير على نهجه).

ثم قال لهم: خرجت من هذه؟ (أي: اقتنعتم بما قلته لكم؟).

قالوا: نعم.

فقال لهم سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه: وأمَّا قولكم: قاتَل ولم يَسْبِ ولم يَغْنَم، أفتَسْبُون أمَّكم عائشة؟!، تستحِلُّون منها ما تستَحِلُّون من غيرها وهي أمُّكم؟، فإن قلتم: إنَّا نستَحِلُّ منها ما نستَحِلُّ من غيرها فقد كفرتم، وإن قلتم: ليست بأمِّنا فقد كفرتم؛ ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ {الأحزاب: 6}.

فأنتم بين ضلالتين فأتوا منها بمخرج،؟ فنظر بعضهم إلى بعض.

(وقد كانت السيدة عائشة رضي الله عنها على خلاف في الرأي مع سيدنا علي رضي الله عنه وخرجت مع سيدنا معاوية ضده ولا يقدح هذا في منزلة أو مكانة أي منهم رضي الله عنهم).

أخرجت من هذه؟.

قالوا: نعم.

قال : وأمَّا قولكم: محا نفسَه من إمرة المؤمنين، فأنا آتيكم بما ترضون، قد سمعتم أن نبي الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – يوم الحديبية صالَح المشركين، فقال لعلي: (اكتب يا علي: هذا ما صالَح عليه محمد رسول الله)، قالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتَلناك، فقال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: (امحُ يا علي، اللهمَّ إنك تعلم أني رسول الله، امحُ يا علي، واكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله)، فوالله لَرَسُولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – خيرٌ من علي، وما أخرَجَه من النبوَّة حين محا نفسه، أخرجت من هذه؟.

قالوا: نعم.

(يعلمهم بذلك أن الأمور لا تؤخذ بسطحية ونزق فنطلق أحكام التكفير والازدواجية في القيم والفساد في الرأي وعدم الالتزام بالمبادئ وغير ذلك من الأحكام الكبيرة لمجرد أننا رأينا موقفًا ما ولم نفهمه كما ينبغي له أن يُفهم).


فرجع منهم ألفان، وخرج سائِرُهم فقُتِلُوا على ضلالتهم، قتَلَهم المهاجرون والأنصار.

(وانظر إلى هذا الحال العجيب بعدما أكرمهم الله تعالى بمن يعلمهم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من هو علمًا وفهمًا عن الله ورسوله إذا بهم تعجبهم أهواؤهم وعقولهم ويستكبرون عن الحق ويستمرون على العماية والضلالة والجهالة حتى يُقتلون وهم على هذا الحال ويكون هلاكهم على يد أهل الحق والعلم من المهاجرين والأنصار أصحاب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لم يغتروا بما يظهر على هؤلاء الخوارج من أثر الإيمان والصلاح والتقوى والعبادة لأنهم يعلمون أن هذه قشرة ظاهرية غير حقيقية تحجب وراءها الضلال المبين والإفساد للمسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله رب العالمين) .


(القصة بتمامها أخرجها النسائي في “الكبرى”، والبيهقي في “الكبرى”، وعبد الرزاق في “مصنفه”، والطبراني في “الكبير”، والحاكم في “المستدرك”، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافَقَه الذهبي، وصحَّحه الهيثمي في “مجمع الزوائد”).