إن العالم يعيش اليوم كله في جاهلية من ناحية الأصل الذي تنبثق منه مقومات الحياة وأنظمتها، جاهلية لا تخفف منها شيئًا هذه التيسيرات المادية الهائلة وهذا الإبداع المادي الفائق. هذه الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض وعلى أخص خصائص الألوهية .. وهي الحاكمية .. إنها تسند الحاكمية إلى البشر فتجعل بعضهم لبعض أربابًا، لا في الصورة البدائية الساذجة التي عرفتها الجاهلية الأولى، ولكن في صورة ادعاء حق وضع التصورات والقيم والشرائع والقوانين والأنظمة والأوضاع بمعزل عن منهج الله للحياة وفيما لم يأذن به الله.

تلك الكلمات تعبر عن فكر سيد قطب؛ الأستاذ الأول للجماعات الجهادية وباعث فكر الحاكمية في القرن العشرين. سيد قطب هو أفضل من عبر عن مفهوم الحاكمية في القرن العشرين، أفضل من حسن البنّا الذي لم يتحدث عنه بهذا الوضوح إما رفضًا أو حذرًا.

و كذلك أثر هو أكثر مما أثر أستاذه أبو الأعلى المودودي مؤسس الجماعة الإسلامية في باكستان، تأثيرًا كبيرًا ارتكز على قدراته كأديب حقيقي وتحدثه العربية في عالم إسلامي يقدس لغة القرآن ووجوده بالطبع في بلد بثقل مصر.

هذا التأثير بدأ يتضح مع شكري مصطفى ولن ينتهي مع تنظيم الدولة الإسلامية داعش، مرورًا بعمر عبد الرحمن الذي أكسبه بعدًا فقهيًا أعمق يكاد يتسق مع قواعد الفقه التي يعمل بها الأزهريون أو علماء الفقه المسلمون عمومًا.

ما حدث أن هذا الفكر قد أعيد إنتاجه بطريقة جذابة تضع العالم دومًا بين فسطاطين؛ فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر، ليس فسطاط الاحتلال والمحتل أو بين فسطاط الحاكم والمعارض أو المستبد والثائر ولكنه دومًا بين المؤمن والكافر، فإن كان دائمًا العالم ما بين اثنين فليس هناك في مصر أوضح لتلك الجماعات من ثنائية المسلمين والأقباط.

تبدلت رقعة الصراع دائمًا وطرفيه تبعًا للمكان وإمكانيات من هم على رقعة اللعب، فَلَو كان هناك مال بترولي ودعم أمريكي فيمكن مواجهه السوفييت، ولو كان هناك تنظيم منتشر وملاجئ منيعة في الجبال يمكن مواجهة الأمريكان. مواجهة قوة احتلال لا يثير الاستغراب بل قد يدعو إلى الإعجاب، ولكن عندما تحدث الهزيمة أو النصر أيهما أقرب يجب البحث عن عدو جديد.

بدون التعبئة على أساس الأبيض و الأسود تتلاشى تلك التنظيمات الجهادي فيها خصوصًا والأكثر اعتدالاً تاليًا. فَلَو لم نكن في أرض حرب مع قوة احتلال فهناك خصومة مع الطاغوت كما وصفة سيد قطب، ولو كان هناك مجال للدعوة كما حدث في عهد السادات يجب أن يقمع اليسار ولو لم يكن يحكم.

ولو لم يكن هناك كل هذا فلدينا الأقباط، الأقباط في مصر هم الخط الدفاعي الأخير الذي يقوم عليه هذا الفكر و بقاؤه.

فقد تمنع معايير القوة الصراع الكوكبي مع الغرب، وقد تحد الخسائر المتوقعة من المواجهه المباشرة مع الأمن، وقد يؤثر استهداف المسلمين على التعاطف مع مظلومية الجماعات في بعض الأوساط المؤيدة لهم، لذا سنجد دسًا للأقباط في كل صراع مع السلطة كنوع من الدعاية و إظهار للفرق بين الفسطاطين، فهذا فسطاط المؤمنين وهذا فسطاط الأقباط أو (الكفار).


في رد للدكتور عمر عبد الرحمن على اتهامات النيابة في قضية الجهاد تحت عنوان (كلمة حق) والتي نشرتها دار الاعتصام، لفت نظري أثناء رده على تفسير النيابة لبعض الآيات القرآنية ما ذكرته النيابة عن آية «لا إكراه في الدين».

و أرادوا الاستدلال بها على أن العقيدة لا تفرض بالقوة وأن الإسلام لم ينتشر بالقتال. يقول القاضي ابن العربي: إن في هذه الآية ثلاثة أقوال: الأول أنها منسوخة بآية القتال. الثاني: أنها مخصوصة بأهل الكتاب الذين يقرون على الجزية. الثالث: أنها عامة في نفي الإكراه الباطل أما الإكراه بالحق فإن ذلك الإكراه من الدين.

«يعني هتموت هتموت يا معلم»، لن أقع في فخ التفسير لآية من القرآن الكريم لأنني لست أهلاً لذلك، ولكن ذلك المثال يوضح لك أيها القارئ مفهوم البحث عن العدو، ولو غاب كل الأعداء أو عجزنا عن المواجهة فيجب أن يكون هناك القبط، يجب البحث دومًا عن وجهة للهجوم.

بدأ الاستهداف المدون بوضوح في أواخر السبعينيات بمناوشات بين طلبة الجماعات الدينية والطلبة المسيحيين في أسيوط بصعيد مصر عام 1978، وآخر عمليات الاستهداف كانت تلك التي استهدفت أطفالاً في صعيد مصر في غرة شهر رمضان مرورًا بأحداث أسيوط عام 1981، وتكاد تكون هي الأحداث الأكثر وضوحًا وعنفًا بالإضافة لأحداث أخرى لا يتسع المجال لذكرها.


في حوار مع منتصر الزيات، محامي الجماعات الإسلامية، سأله «وائل فوزي» في كتاب نشرته دار تسمى خلود للنشر والتوزيع:

كان تنظيم الجهاد في بدايته يعتمد في تمويله على التبرعات من المساجد، ثم اتفق مجلس شورى الجماعة على تطوير عملية التمويل عن طريق قتل بعض المسيحيين الذين يتاجرون في الذهب ونهب وسرقة محلاتهم، وقد نفذت هذه الخطة فعلاً في بلدة نجع حمادي ثم في شبرا الخيمة وغيرها. أين هذا السلوك من قوله ص: «من أَذى ذميًا حد يوم القيامة بسياط من نار، وقوله:«من أَذى ذميًا فأنا خصيمه»؟!. في رد منتصر الزيات رفض الرجل هذا السلوك وحصره في حادثين في نجع حمادى والآخر في شبرا الخيمة، و دلل بذلك على وجود رفض من مجلس شورى الجماعة. وكان رد المحاور عليه أنها تكررت من جماعات أخرى فحصرها في جماعة الشوقيين. وعندما سأله المحاور عن دور عمر عبد الرحمن في حوادث السرقة، رد ببساطة أنه مسؤل الفتوى في الجماعة.

نشرت دار الاعتصام شهادة لعضو مجلس الشعب صلاح أبو إسماعيل تحت عنوان «الشهادة .. شهادة الشيخ صلاح أبو اسماعيل في قضية تنظيم الجهاد».

لن أذكر إجابات الشيخ لأنه شيخ وطبيعي أن تكون إجاباته في الإطار الفقهي سواء اتفقنا معها أو لا، ولكن سأذكر بعض أسئلة المحكمة:

-ما هو الحكم الشرعي بالنسبة «لكتابي» يرفع السلاح على المسلم؟ -حكم من اعتدى على المسلم؟ -ما حكم الشرع في الكتابي الذي يخزن السلاح ويعاون في شرائه لمحاربة الإسلام؟

بنظرة سريعة على الحوار نجد أن الجماعات الدينية في هذا الوقت وضعت الجميع في خانة الدفاع عن النفس، فكريًا على الأقل، ستجد أدبيات الحوار في المحاكمة واتهامات النيابة وحتى أسئلة الصحفي لمنتصر الزيات تعتمد رئيسيًا على الموروث الديني من القرآن ومن السنة النبوية، كأنها تحاول التأكيد على إيمان القاضي والنيابة والمحاور.

لم تستخدم المصطلحات القانونية لأي جريمة قتل أو سرقة أو ترويع، كأن الخلاف فكري بين ندّين وكأن الفكرتين لا تعلو إحداهما على الأخرى، فهل هذه رؤية الجماعات التكفيرية فقط أم تمتلئ مصر بالتكفيريين؟!

لقد انتقلت أرض المعركة الفكرية من محاولات الإمام محمد عبده وصدمات طه حسين العنيفة في اتجاه التنوير إلى دفاع مستميت لإثبات أننا مسلمون أمام مجموعة من المتطرفين يقودهم شيخ أزهري مغمور في حينه.

محاولة الدولة في ذلك الوقت والآن التدليل على أن إسلامها أصح من إسلام هؤلاء بدلاً من أن تؤكد أنها حكومة المصريين لا المسلمين أو الأقباط كان وقوعًا في فخ شعبوية تضع الأقباط كآخر.

مودتهم تخضع لرأي رجل دين وحمايتهم في إطار حماية ذمي أو كتابي لا في إطار حماية مصري لا تختلف حقوقه عن مصري آخر، ذلك التعامل هو الذي سيبقي الباب مفتوحًا لآخرين لينتهجوا طريق العنف في التعامل مع الأقباط، ذلك هو الفشل الأكبر.