إن مُستقبل العالمَ الإسلامي لا يزال قيد التشكل بشكل كبير، بل هذه هي حالة ماضِي هذا العالم أيضاً الذي لم ينقضِ حقاً، ما دام معناه مثار نقاش، ونتيجته غير محددة[1]

من هذه الكلمات استقى نوح فيلدمان فكرته حول محاولة إعادة تفسير أسباب سقوط الدولة الإسلامية الممثلة في الدولة العثمانية؛ وذلك بهدف فَهم واقع العالم الإسلامي كما جاء في كتابه «سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها». ونوح فيلدمان أستاذٌ للقانون بجامعة هارفرد، متخصص في الدراسات الدستورية وتاريخ النظرية القضائية؛ وتحديدًا علاقة الدين بالقانون. كما أنه خدم كمستشار للحاكم الأميريكي في العراق بعد الغزو، كما شارك في صياغة كلٍ من الدستور الأفغاني المعمول به حاليًا، ومسوّدة الدستور العراقي المؤقّت عام 2004م. والتي دخلت حيز التنفيذ عام 2006م [2]. إن محاولة فيلدمان لإعادة تفسير أسباب سقوط الدولة الإسلامية هي محل العرض في هذا المقال.


«العلماء ورثة الأنبياء»[3]

يبدأ فيلدمان كتابه بمحاولة إعادة النظر حول مسألتين جوهريتين: دور الشريعة ودور العلماء في التاريخ الإسلامي؛ إذ سيبني عليهم عرضه لأسباب نهوض الدولة الإسلامية، ثم أسباب سقوطها بعد ذلك. أما دور الشريعة فكان دوراً سياديًا؛ بمعنى أن الشريعة هي الأساس الذي يُبنى عليه أي نظام اجتماعي أو سياسي في التاريخ الإسلامي، وبمقدار التزام الخليفة بها يُبرر حكمه أو يُصبح فاقدًا للأهلية. ويعطي فيلدمان مثالاً كاشفاً على ذلك: فتوى ابن تيمية ضد المغول؛ فعلى الرغم من أن المغول كانوا يُظهرون الإسلام إلا أنهم سعوا لتطبيق عرفهم التقليدي ممزوجاً بالشريعة، وهو الأمر الذي رآه إبن تيمية سبباً كافياً لإصدار فتوى بتكفير المغول؛ إذ الشريعة وحدها هي الأساس للسيادة في التقاليد الإسلامية.

ويفتح هذا المثال مجالاً للنظر في دور العلماء في التاريخ الإسلامي. فبعد وفاة نبي الإسلام، انقطعت الواسطة المباشرة بين الأرض والسماء؛ ففي حين كان يلجأ الناس للنبي لطلب حُكمه في مسألة بعينها أثناء حياته، أصبح الأمر معقداً بعد وفاته؛ مما فتح الباب لأن يُصبح الخلفاء الراشدون خلفاءً لشخص النبي يوضحون الأحكام للناس. ثم بمرور الوقت، نشأت «مؤسسة» فقهية تعتمد على آليات معينة لتبيين الأحكام؛ مؤسسة قوامها في الجملة القرآن والسنة والقياس والإجماع. وبدأ عند هذه النقطة ظهور «علماء» متمرسون في آليات هذه المؤسسة، وقد تمتع هؤلاء العلماء بسلطة وضع القانون، لا بمعنى اختراعه وإنما بمعنى تفسيره وفقَ سلطة عظيمة أُوكلت إليهم. وبما أن العلماء أصبحوا هم القائمين على الشرع تفسيراً، فقد دار النظام الإسلامي بأكمله حولهم. وأدى هذا لبروز كفتيْ ميزان في نظرية السلطة الإسلامية. فمن جهة يقوم العلماء بتبيين الشرع والحرص عليه، ولكن من أخرى فإن من بيده «الأمر» كان الخليفة؛ وبما أن مسئولية «الأمر» كانت مسئولية كبيرة فقد ناب عن الخليفة من يقوم بها؛ ألا وهم «القضاة»” الذين ينتمون بدورهم لطبقة العلماء.

وبما أن أساس شرعية الخليفة هو تطبيقه للشرع، فإن طبقة العلماء كان يجب عليها لعب دور الرقيب عليه. وبالرغم من وجود القضاة، إلا أن هذا وحده لم يكن كافياً لضمان امتثال الحاكم للشرع، مما جعل العلماء يطوِّرون نظرية «أهل الحل والعقد» التي بموجبها يُختار الخليفة، إن لم يُعينه سابقه، وفقاً لإجماع مجموعة «ناخبين» من الأمة ككل. وتقوم أيضاً جماعة العلماء بضمان التزام المجتمع وامتثاله للخليفة ما لم يحِد عن الشرع؛ وبالتالي فموافقة العلماء على الخليفة أمر ضروري لاستمراره. وبما أن منصب الخليفة كان محل نزاع في بعض الفترات، فكان كل شخص يريد الوصول لهذا المنصب عليه أن يلجأ للعلماء ويبتغي رضاهم؛ لأن المراسيم غير المؤكدة للخلافة تطلبت تأكيداً على الشرعية. فالعلماء يؤكدون شرعية الخليفة وضمان اتباع الأمة له، مقابل أن يؤكد هو بدوره امتثاله للشرع.

ثم مع الوقت ومع توسع الدولة الإسلامية، ظهرت الحاجة لوجود تنظيمات إدارية جديدة لم ينصّ عليها الشرع صراحةً. هذه التنظيمات، كالضرئب غير المنصوص عليها، والموازين وما إلي ذلك، وكان يجب أن تستند على أساس شرعي حتى تدخل حيز التنفيذ؛ وقد انبرى لذلك العلماء مما جعل الخليفة يعتمد عليهم بصورة تتخطى مجرد توكيد شرعيته، فهو الآن بحاجة إليهم لأسباب إدارية أيضاً. ونتج عن هذه التنظيمات الإدارية دور أكبر للعلماء؛ فقد أصبح لهم دور أساسي ودائم في المسائل الإدارية بغض النظر عن شخص الخليفة، الأمر الذي أدى بدوره لظهور مساحة جديدة تؤكد على سلطة العلماء، ومكانتهم المترسخة يومًا بعد آخر: فالحاكم إذا ما أراد أن يطغى أو يستبد كان يجب عليه أن يُبرر ذلك بسببٍ شرعي لكيلا يثور العلماء ومن وراءهم الناس عليه؛ وقد نشأ عن هذا حاجة أكبر لدى الخليفة للعلماء، فمثلاً يُعطي العلماء الحق للخليفة بأن يجمع ضرائب لم ينص عليها الشارع صراحة، وقد استغل بعض الخلفاء ذلك في فرض ضرائب باهظة على الناس من أجل زيادة ثروتهم الخاصة.


السقوط العثماني

كانت هذه البنية المعقدة من العلاقة المتبادلة بين الخليفة وطبقة العلماء تكبر وتزداد بمرور الوقت، وقد ترتب على هذه العلاقة وجود تنظيمات إدارية كانت تشغل مساحة تبدو غير شرعية بالكلية – كمؤسسات الضرائب – لكن العلماء اختاروا أن يستوعبوها ويضبطوها ويضفوا عليها الشرعية؛ خشية من اختلال التوازن الاجتماعي ككل. ومع الخلافة/لإمبراطورية العثمانية بدأ دور العلماء كطبقة مستقلة يتراجع مقابل ظهور دور لهم أكثر تنظيمًا من قبل الدولة؛ فقد بدأ الأمر بتأسيس منصب المفتي الرسمي الذي اتخذ مع الوقت طابعاً إلزامياً؛ فالفتوى الآن، ولأول مرة، أصبحت مُلزمة بشكل منظّم. كما بدأ هذا المنصب بإعطاء الترخيص للآخرين بالعمل كمفتين أدنى مرتبةً. ثم بدأت هذه النزعة التنظيمية تطال العلماء ككل؛ فالوظائف الشرعية لجماعة العلماء أصبح يتبوأها العلماء الخارجين من رحم المؤسسات المعتمدة من الحكومة، وبمرور الوقت دخل الشرع بأكمله داخل هذه النزعة التنظيمية تحت إدارة الدولة. فما الذي حدث؟ وما الذي ترتب على ذلك؟

بعد النكسات العسكرية التي تكبدها العثمانيون بدايةً من عام 1827م. أصبحت الإمبراطورية مقتنعة بضرورة «الإصلاح الداخلي». فقد بدأ الإصلاحيون العثمانيون بمحاولات طمأنة الغرب حتى يتمكنوا من الحصول على الدعم اللازم لبقائهم؛ الأمر الذي دفع بحزمة من الإصلاحات بين عاميْ 1839م. و1876م. عُرفت بال«تنظيمات»[4]. وقد شملت إصلاحات عسكرية واقتصادية وضريبية بهدف إعادة الإمبراطورية لوضعها القوي، والأهم هنا هو الإصلاحات القضائية. ويرى فيلدمان أن هذه الإصلاحات القضائية تنقسم لنوعين: ابتكارات قانونية تهدف إلى تقنين الشريعة واختزال مضمونها في محض قواعد، وابتكارات دستورية تهدف لإنشاء مؤسسات لم تكن موجودة من قبل.

فأما التقنينات، فقد جمع العثمانيون كل «القوانين» التي أصدرتها الإمبراطورية لضبط الضرائب والتنظيمات الإدارية في سلسلة محدودة من الوثائق على شكل النماذج الأوروبية المبكرة. فقُننت العقوبات سنة 1858م، بصورة تحاكي القانون الجنائي الفرنسي، وقد اقترح هذا التقنين مجموعة من القواعد المحددة يتبعها الموظف القانوني للبت في القضايا المعروضة عليه، وهو أمر مضاد لما كان عليه الوضع قبل ذلك؛ فكان القاضي غير ملزم بمصدر محدد ووحيد للحكم. ثم بدأ تقنين الأحوال المدنية في الشريعة الإسلامية فيما يُعرف بالـ«مجلة” بين عاميْ 1869م. و1876م. ليطبقها القاضي؛ وهي خطوة جذرية حوّلت جانب مهم من الشرع الإسلامي إلى قوانين وإجراءات تُستخدم بخلاف ما كانت عليه سابقاً. وقد مثّل تحول الشريعة من مجموعة مبادئ تُستنبط بالاجتهاد إلى مجموعة قواعد يُطلع عليها لتُـنَفَّـذ فقط تحولاً في دور العلماء. فالآن، لم يعد المجتمع بحاجة للعلماء لفهم الشرع؛ لأن الشرع أصبح موجوداً بوضوح في «المجلة». كما عنى أن الدولة هي من أصبحت تُحدد مضمون الشرع؛ فلا معنى لحجية الشريعة ما لم ترد في «المجلة» التي أصدرتها الإمبراطورية؛ ولأن العلماء أصلاً بدأوا يدخلون في النزعة التنظيمية قبل صدور «المجلة»؛ ولأن «المجلة» احتوت في الأخير على مضمون إسلامي غير «مستورد» فقد قَبِل العلماء هذه النقلة الجديدة.

كما حدثت نقلة أخرى في دور العلماء، تمثل في إنشاء مجلس أعلى للتنظيمات القضائية عام 1839م؛ حيث أصدر السلطان قرارًا بإنشاء هذا المجلس كهيئة لصياغة الدستور الجديد بإشراف من العلماء غير المنتخبين، وبأمر من السلطان. شكل هذا «الحدث» كسراً لدور العلماء؛ فلم يعودوا الطبقة التي تُضفي الشرعية على الحاكم، بل الحاكم أصبح هو مصدر السيادة الذي يعترف للعلماء بوجودهم من عدمه، وعلى كلٍّ مثّلت هذه الهيئة أملاً بوجود توازن بين القوى، إلا أن السلطان عبد الحميد الثاني في عام 1878م قضى بتعليق عمل الهيئة التشريعية، كما علّق العمل بالدستور؛ وبالتالي لم يعد هناك أي مجال للعلماء كرقيبٍ على الحاكم أو مسوّغ لشرعيته؛ بل أصبح الحاكمُ بهذا التعليق الجديد هو السلطان الذي يعترف لكل الممارسات والقواعد بشرعيتها، وفي غياب العلماء وظهور السلطان كمصدر السيادة، أصبح الشرع يُتصور على أنه ببساطة «سلطة السلطان».

ينقلنا هذا التحول التاريخي إلى فهم حقبة العالم الإسلامي المعاصر بصورة مغايرة، ويمكن مد هذا العرض لآخره لفهم مسألة سقوط الإمبراطورية العثمانية، فالبرغم من أن فيلدمان لم يتعرّض لهذه النقطة صراحةً في كتابه، إلا أنه يمكن فهمها من تحليله؛ إذ لمّا كان العلماء هم الرابطة الفعّالة بين الحاكم والمحكوم، فقد كان يعني عزل العلماء وتحويل سلطتهم إلى مجرد فعل رمزي؛ انهيار الرابطة السياسية للإمبراطورية ككل. وفي ضوء وقائع الديون والنكسات العسكرية الخارجية للإمبراطورية، يُصبح السقوط أمراً منطقياً للغاية.


ما الحل؟

بعد إعلان نهاية الدولة العثمانية في 3 مارس عام 1924م. بدأت الدولة القُطرية الحديثة في العالم الإسلامي في الظهور تدريجياً، ويرى فيلدمان أن منطق سيادة السلطان وغياب الرقابة الذي وُلِد في الإمبراطورية العثمانية امتد في هذه الدول القُطرية حديثة النشأة، بل يصر فيلدمان، عكس ما تُصَوِّر كثير من الأدبيات الغربية، أن غياب التصور الإسلامي بعد الإصلاحات العثمانية والاستعمار؛ هو ما أدى لفشل الدول والمؤسسات الإسلامية التي نشأت بعد سقوط الخلافة، فالثقافة الإسلامية ليست ثقافة خضوع أو لامبالاة سياسية، وإنما هي ثقافة مشحونة بالقيم السياسية، لكنها تعرضت لنقلات عزلت الفاعلين المجتمعيين الرئيسيين في ممارسة هذه القيم بشكل جذري؛ ألا وهم العلماء، وفي هذه الصورة يبدو شعار «الإسلام هو الحل» وما على شاكلته من شعارات الحركات الإسلامية جذاباً للساحة التي شهدت هذه النقلات، إضافةً إلى الاستبداد والفشل السياسي والاقتصادي.

ويُـبدي فيلدمان تحليلاً مهمًا لمنطق الحركات الإسلاموية. فتلك الحركات في رأيه تتشابه مقترحاتها مع الأيديلوجيات الشمولية التي ظهرت في القرن العشرين؛ فهي تسعى لإمساك زمام الحكم ثم تحويل المجتمع ككل إلى مجتمع «مثالي» من خلال مجموعة من القوانين وقواعد السلوك، وفي هذا المسعى تشدد الحركات الإسلاموية على المساواة. ويرى فيلدمان أن المساوة كما تعرضها تلك الحركات لا تدع أي مجالٍ لبروز طبقة العلماء بشكل فعّال مرة أخرى. ويضرب لذلك مثلاً بالآباء المؤسسين للحركات الإسلاموية، كسيد قطب وغيره، الذين رأوا أن للمسلم العادي القدرة على العودة للقرآن بنفسه دون أية وسائط.

إن غياب العلماء عن تصور الحركات الإسلامية يُبرز مفارقة عصية حتى الآن على الحل البسيط: فكيف للحاكم أن يحكم وفقاً للشرع بدون وجود العلماء الذين هم أصلاً مُفسرون ومبينون لهذا الشرع؟ فإذا كان الجواب هو توفير هيئات تشريعية أصبح «الشرع» تحت رحمة صاحب السيادة؛ مما يعني إعادة انتاج مساوئ نُظم الحكم مابعد الاستعمارية، والتي بنت على تركة العثمانيين في الأصل، في إعادة لمسلسل الفشل مرةً أخرى.

إن هذا التحليل الذي يقدمه فيلدمان يضع العلماء بمنزلة القلب النابض للممارسة الإسلامية السياسية والمجتمعية والشرعية؛ فبموت العلماء رمزياً دَنت ساعة الإمبراطورية العثمانية من الأفول، وباستمرار دول ما بعد الاستعمار في العالم الإسلامي في التوكيد على هذا الموت انفجرت الأزمات السياسية، وبعدم تفطن الحركات الإسلاموية لضرور «إعادة إحياء» هذا القلب النابض فقدت بوصلتها ولم تعد قادرة، إلى الآن، على تقديم صيغة تُعيد الاستقرار وتحقق «العدالة» في المجتمع.


[1] نوح فيلدمان، «سقوط الدولة لإسلامية ونهوضها»، ترجمة: الطاهر بوساحية، (بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى 2014م.)، صـ:41 [2] للمزيد حول نوح فيلدمان انظر:http://hls.harvard.edu/faculty/directory/10257/Feldman و: http://www.nytimes.com/2003/05/11/world/aftereffects-the-law-american-will-advise-iraqis-on-writing-new-constitution.html[3] سنن أبي داود، المجلد 25، الحديث رقم: 3634 [4] للمزيد حول هذه التنظيمات: Erik Zuercher, “Turkey: a modern history”, (London: I. B Tauris, 1994) pp. 52-74