تستعرضُ هذه المقالة مفهوم السلطة في البعد الاجتماعي، عبر الخطاب الروائي، للكاتب المصري نجيب محفوظ. حيث تبحث في تصور الأديب نجيب محفوظ عن طبيعة السلطة وتجلياتها في المجتمع المصري وما أعقبهُ ذلكَ من تحولات. فما هو تصور نجيب محفوظ للسلطة؟ ما هي إرهاصات هذا المفهوم في الخطاب الروائي لنجيب محفوظ؟ وما هي تجلياته في روايتهِ اللص والكلاب ويوم قتل الزعيم؟ وما هي الرؤى الايتقية التي تعكسها هاتان الروايتان؟


إرهاصات السُّلطة في خطاب نجيب محفوظ الروائي: مقاربة أولية

يقسمُ النقاد [1] أعمال الروائي نجيب محفوظ إلى أربع حقب، الأولى: الحقبة التاريخية – الرومانسية، الثانية: الاجتماعية – الواقعية، الثالثة: السيكولوجية – التحليلية، الرابعة: الرمزية، وكل هذه الحقب تدشنها رواية جديدة تعتبر هي المنعطف في بداية أو نهاية مرحلةٍ جديدة. لكن في اعتقادي أن جميع هذه المراحل تتآلف في آن ولا تنفصل، فالشخوص والأحداث في رواية ما قد تعكسُ هذا التصور التوليفي الذي نظنُ أنهُ ما يميز أعمال نجيب محفوظ، فليسَ هناكَ مجال للقطائع كما ذهبت بعض الكتابات، في أن نجيب محفوظ حينَ انقطعَ عن الكتابة ليصدر بعدها «أولاد حارتنا» أنهُ كان يبحث عن الشكل الجديد الذي يقطعُ فيه مع الرواية الاجتماعية، ويدشن مرحلة جديدة تنفتح على أفق إنساني أوسع. صحيح أن النجيب اعترف أنه كان يبحث عن شكلٍ جديدٍ لروايته، لكن هذا لا يعني أنّ هناك وجودًا لقطيعة في تفكيره بين هذه المراحل.

من هنا سنعقد اتصالاً بينَ روايات النجيب، وبينَ المفهوم الذي نقاربه، فتقديرنا للمسألة أنّ إرهاصات المفهوم بدأ يتشكلُ في رواياتهِ المحسوبة على المرحلة التاريخية (عبث الأقدر 1936 / رادوبيس: 1937 / كفاحُ طيبة: 1938) ذلكَ أن الأبعاد المتعددة لهذه الروايات يمكنُ أن تعطينا انطباعاً ولو أوليًا بأن حضور هذا المفهوم موجود في هذه المرحلة.

بينما تأتي ثلاثيته الشهيرة (بينَ القصرين: 1948/ قصر الشوق: 1950/ السكَّرية: 1952) تعكسُ التصور الاجتماعي الذي يعيشهُ المجتمع المصري بما فيه من تقاليد اجتماعية وأنماط العلاقات، والتصورات الذهنية، حتى إن كل شخصية في الروايات الثلاث تشكل بنية اجتماعية معينة. الشيء الذي مكن محفوظ من بناء لكل شخصية معمار سيكولوجي يعكسُ طبيعة الإنسان المصري، الذي يعيش في زقاق وحواري القاهرة. ولعل هذا هو البعد المتفرد الذي أتاحَ لنجيب خلق شخصيات تُعبر عن أنماط العلاقات الاجتماعية للمجتمع المصري. ذلك أن الشخصيات الرئيسة في الثلاثية، والتي تتسمُ بالكشف عن خبرة نجيب بخبايا الإنسان المصري، في هذه المرحلة بالذات يرتسمُ وعي محفوظ بعوالم مجتمعهِ، لكنهُ يقتصر على الجانب الاجتماعي، الذي تكونُ فيه السلطة محصورة في أنماط القرابة والعلاقات الاجتماعية، كديمومة تقليدية في حياة الانسان المصري/ العربي.

ويمكنُ أن نقول: إن تبلور هذا المفهوم بدأ يزداد بوعي محفوظ، بتناقضات مجتمعه الذي دخل مرحلة جديدة، إبان حركة الضباط الأحرار سنة 1952. التي طبعت حياة المصريين بأحداث ترتبت عنها نتائج عديدة بعد ذلك. فتبني الثورة لمبادئ الاشتراكية، ومحاولتها القضاء على معالم مِصر المَلكية، ولّد وعياً آخر حوصر بهِ المجتمع المصري، الذي دخل سريعاً في لعبة السلطة، دونَ أن يدرك المجتمع خطورة هذا الدخول السريع واللامتكافئ، ولعل نجيب محفوظ هو من أحد أبرز الكتاب المتحمسين للتصور الثوري الذي تبناهُ الضباط الاحرار.

إن خيالا جامحاً دفع بالنّجيب لكتابة روايتهِ الرمزية «أولاد حارتنا» سنة 1959 التي كانت تصدر تباعاً في مجلة الاهرام، وربما تلك المجادلة التي خلقتها الرواية بينَ أواسط مختلفة، باعتبارها رواية مسيئة للذات الإلهية أو تسخر منَ الأنبياء [2]، وهو في نظري ما أفقدَ الرواية بُعدها الصحيح والتي تتوجهُ إليه.

لكن هذا جدلٌ واسعٌ لا يمكنُ البث فيهِ هنا، غير أن ما هو مهم، هو ذلك التحول الاجتماعي في الرواية. ووضوح رؤية النّجيب ووعيه به، ووعيه أيضاً بتناقضات السلطة وبداية التعرف على مأزقها، صحيح أنه يقيمُ نسجاً بينَ المخيال الديني وما يحفلُ بهِ من دلالات رمزية، لكن هذه الرمزية تقتضي تجسيد صورٍ دلالية مطروحة على جسد المجتمع. وهنا يتبدئ الرهانُ المحفوظي في روايته، فهي من جهة تعكس التحول الاجتماعي في مصر، ومن جهة أخرى تعكس تمثلات السلطة وأدوارها في المجتمع، فلا يعني الأمر أكثر من هذا. سوى رصد فروقات المجتمع وانفتاحه على أفق أوسع، ولا شك أن شخصية «الجبلاوي»[3] التي تمثل التقليد بمعناه الواسع، أي السلطة الزمانية في المجتمع والذي يضطلُع بأدوار السلطة المستبدة والحكم والقضاء، يجب أن يقطع معه المجتمع بتبني قيم العدالة والمساواة، والطموح نحو المعرفة والعلم. وهو ما ترمز إليه شخصية «عرفة»، الذي تمكن من قتل الجبلاوي. وكأن الّنجيب يوحي على ذلك التحول الذي يجب على المجتمع أن ينحوه.

لكن هل حقاً نحا المجتمع المصري بعد تبني الثورة والنظام العسكري منحا تغييرياً؟ والأهم من ذلك ماهو موقف نجيب محفوظ من الثورة وما بعدها من أوضاع؟ كيف عبرت روايتاه «اللص والكلاب» و«يوم قتل الزعيم» عن تصوره؟


مفهوم السُّلطة بين «اللص والكلاب» و«يوم قتل الزعيم»

في هذا المحور سندخل عوالم النّجيب، من خلال روايتيه «اللص والكلاب» سنة 1973 و«يوم قتل الزعيم» سنة 1985. ستتبدى لنا في هاتين الروايتين ملامح تصور محفوظ للسلطة، ولسيرها ولنموذجها، الذي حاد عن المبادئ التي أعلنتها حركة الضباط. وما من شكٍ في أن نبوة النّجيب في روايتهِ يوم قتل الزعيم تظلُ الصيغة الأبرز على هذا المنزع. ثانياً سنبدي القول حول الروايتين في بعدها الاستطيقي (الفني/ الأخلاقي)، وكذا الأبعاد التي ترمزُ إليها الروايتان.

مورفولوجيا اللص والكلاب

تبدأ رواية اللص والكلاب بنقطة [4] وتنتهي بنقطة، تبدأ بلحظة البداية مباشرة دونَ تأثيث أو فرشٍ أو وصفٍ لمعالم معمارية، أو حتى نمط سردي على طريقة فلاش باك flash Bach، بل تدخل في الحدث مباشرة، تدفعُ بالشخصيات نحو المواجهة المباشرة، ليجد القارئ نفسه متورطاً داخل النص. وتنتهي بنقطة بموتِ البطل «سعيد مهران» حتى يسدل الستار على الركح، ويتركُ النّجيب للقارئ عتمات ظل ملؤها التساؤل والحيرة، ليعيد الترحال في متن الرواية، وليقف عند حدودِ خطاباتٍ تتشابك فيها صور الدراما، خطية السرد، اللغة العارية، بغاياتٍ في الخطاب المحفوظي الذي يرسم وجه مصر في بعدها الاجتماعي، في تناقض الطبقات، في تنامي الحقد الاجتماعي والمطالبة بالعدالة الاجتماعية. وما محاولة انتقام «سعيد مهران» من «رؤوف علوان» إلا صورة من الانتقام من منظومة الفساد السياسي، وخيانة زوجتهِ والمعلم عليش، إلا صورة عن تردي القيم الاجتماعية في المجتمع المصري.

يوحي إليك «سعيد مهران» من خلال شكلهِ الخارجي بنموذج الإنسان البسيط والفقير، وذلك عائد تحديداً لشبكة العلاقات الاجتماعية التي رسمها له النّجيب، وتبعاً لماضيهِ الذي يشحذُ ذهنهُ كل وقتٍ وحين، عائدًا بهِ الى سنواتِ طفولته وذكرياتهِ مع أبيه ورفقة «الشيخ الجنيدي»، وحياته في سن الشباب مع أستاذه «رؤوف علوان» الذي كان سنداً له في تسويغِ أعمال السطو والسرقة التي كان يقومُ بها سعيد مهران. مقنعًا هذا الأخير بأن هذه ليست بأعمال سرقة بل هو استرجاع لحقوق الفقراء لدى الأغنياء.

أما على المستوى الداخلي فسعيد مهران إنسان ذو طبيعة شكاكة مرتابة حتى من أبسط التعابير عفوية، ولعل هذا يعود من تجربتهِ في السجن التي تحفر في سيكولوجية الإنسان كل ما هو ذي طبيعة خائنة وعدوانية، ومن تجربة الخيانة التي تعرض لها من زوجتهِ وتلميذه وأستاذه، لكن بخلاف ذلك نجدُ في شخصيتهِ صفاءً يتجلى من البراءةِ الأولى لحياتهِ رفقة أبيهِ وترددهِ على الشيخ الجنيدي، كما أن علاقته «بنور» التي كانت الملجأ الأخير له في تنفيذ عملية الانتقام، تعكسُ روحه الأولى التي توارت خلف شخصيتهِ الانتقامية، وبما أن هذه طبيعة البطل في الرواية فإنّ المنحى الخفي الذي تقدمه الرواية، يكشف عن تصورات النّجيب لطبيعة المجتمع وللناس فيه. فالإنسان المحفوظي ليس شريراً ولا خيراً بطبعهِ، بل ظروفُ المجتمع هي من تحددُ هذه الطبيعة، انتماؤهُ للتراتب الطبقي في المجتمع، هو من يحدد غايتهِ الكبرى التي وجد لأجلها. لذا فالبطل سعيد مهران، تحددت أقدارهُ ساعة انتمائهِ الى طبقتهِ. وحضور الشخصيات التي لعبت دوراً ثانويًا في الرواية بالمقارنة مع سعيد مهران، تثبت أن حياة مهران كلها، نتيجة انتمائه الطبقي الذي يظل في أعين البيروقراطية المصرية أحد عوامل التخلف والتقهقر الاجتماعي، والمعيق الرئيس في بيروقراطية النظام، وهي أحد رهانات النّجيب في عملهِ هذا، وهو لحظُ جوانب الحياد عن مبادئ ثورة يوليو التي بشرت بالنظام الاشتراكي والعدالة الاجتماعية.

ثمةَ صورة أخرى رسمها محفوظ لبطلهِ الرئيس في الرواية، هذه الصورة عبارة عن مواجهة بينية بينَ طبقتين، طبقة الأغنياء وطبقة الفقراء، ولعل طبيعة هذه المواجهة في العمق هي مواجهة من أجل القيم، أي القيم التي يجبُ أن تؤطر المجتمع المصري. إذًا صراعُ القيم هو من يدفع البطل للتضحية بنفسهِ، مؤمنًا بهذا الدور التراجيدي الذي اختطهُ لنفسهِ منذ عزمهِ على الانتقام؛ هذه هي صورة البطل في النص، لكنها تعكس تيمة فلسفية أيضًا، فالإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يستطيع التضحية بنفسه من أجل قيمة ما، إنهُ الكائن الوحيد الذي خلق القيمة وأعطاها بُعدًا تجريديًا وعقديًا، وأعلنَ حروباً للدفاع عنها، إنها مأساة الإنسان، قدر تراجيدي يشبهُ أبطال اسيخليوس فعنده تتبدى «سخرية إلهية تمكر بالإنسان في عالم هباء في هباء»؛ لذا فمهمة الفكر أن يكسر القيمة، ويقلل من حضورها في الذهن، وربما يقترنُ هذا بعمل نجيب محفوظ، حتى وإن لم يكن وعيًا بهذا، فشروط القراءة تستوجب التركيز على هذه التصورات التي تحايث معالم الكتابة المحفوظية.

مورفولوجيا يوم قتل الزّعيم

زمنُ اليأس والمعاناة والانهزام النفسي والاجتماعي، زمنُ المفارقات والتناقضات، زمنُ الضياع والتمزق. تلك هي التيمة الأساس في رواية «يوم قتل الزّعيم»، الزمن هو مركز الأحداث وتسلسلها، فالشخصيات جميعها دارت حول ركح الزّمان، اشتبكت فيهِ ثلاثة أجيال: الجيل الأول يمثلهُ الجد «محتشمي»، والجيل الثاني: يمثله الآباء، والجيل الثالث: علوان ورندة جيل الشباب، تتواطأ الشخصيات في إقامة معمار الزمن الذي لا يرحم، فهو إذ يطرح على هذه الشاكلة أي باعتباره مشكلًا، فهذا يعني أن نجيب محفوظ، يعي عُمق أزمة المجتمع المصري. الذي رصد تحولاتهِ المبكرة منذ، «اللص والكلاب» سنة 1961، «الطريق» سنة 1964، «الشحاذ» سنة 1965، «ثرثرة فوق النيل» سنة 1966، «الباقي منَ الزمن ساعة» سنة 1982، إلى أن نصل إلى «يوم قتل الزعيم» سنة 1985، إنها إنجاز لرصد فعل الزمن في الإنسان المصري، تحول شمولي في البنيات السيكولوجية بالدرجة الأولى. ألمٌ وكم رهيب من المعاناة السيكولوجية، التي بات الإنسانُ المصري يعيشها على اختلاف بنياتهِ العمرية، هذا الإحساس بعدمية الزمان وتفاهته لا يأتي من كونهِ، إحساس وجودي أو إرهاق معرفي، بل هو نتيجة الدّمار الذي خلفتهُ السلطة السياسية في المجتمع المصري، الانفتاحُ على السوق، هو آخر مسمارٍ يدق في نعش المجتمع المصري. لذا أتت أحداث الرواية مرهقة للشخصيات، الزمن هو العبء الأكبر على كاهلهم خصوصاً علوان ورندة، لأنهما ضحايا هذا الانفتاح والتحول الاجتماعي والاقتصادي [5]، تحول أتى على البقيةِ من مبادئ الثورة.

الثورة التي ذهبت سراباً كما سارت أغاني مطرب الثورة أوهاماً[6]. ترّصدُ الواقع لأبناء المجتمع الذي تحولت مشاكله وتفاقمت فلم تعد تكفيهم ماهيةُ عملهم حتى يضمنوا لأنفسهم حياة كريمة، بل أصبحت الوظيفة ذاتها مصدر قلقٍ وتعب، يضيعُ هذا الجيل بتبدد أحلامهِ بالانفصال بين رندة وعلوان، ورضوخهما للواقع المرير الذي حشروا فيهِ حشراً. تمضي أحداث القصة في تأرجح تامٍ للوقائع فهي منذ البداية من عُقدة إلى أخرى، لا يوجد انفراجٌ في أحداثها أبداً، بل كل سياقٍ يؤدي إلى أزمة، وكل أزمة هي إعلاء لنبرة اليأس التي يرصدها النّجيب في روايته. لذا أتت النهاية أكثر تأزمًا، فعلوان سيقتل أنور علام، كما سيُقتل الزعيم، ستحل المفارقة والمُشاكلة بموتِ صور الأزمة في الرواية، شخصية الزعيم السياسي الذي سيقتل في أحد استعراضاته، ومقتل علام كمركز للبيروقراطية والخسة الاجتماعية، ستضبب بعد ذلك الرؤية أكثر، فهل حقًا سيخرجُ علوان محتشمي من السجن؟ وهل سيحقق نبوة جده؟ أم أنّ للقدر كلمة أخرى؟

البُعد الإيتيقي في الروايتين

كل فهمٍ لا يجب أن يخرجَ عن مقولاتي الزمان والمكان، والقصدية كرؤية فينومينولوجية تفسر العمل الفني كأثر يظل راسخًا دونَ أن ينضب أو يجف بريقه؛ لأنه غير محصور في وظيفتهِ التصويرية أو التعبيرية، بل في مدى حضوره عبر الزمان باعتباره نصاً إبداعياً. وهنا يخلق التفاعل بين الذات الساردة والذات المتفاعلة، حيث يلعبُ الخيال دوراً رهانيًا في خلق مساحات التأويل واستمرار السرد عبر ديمومة الوقائع والأحداث، وهنا يأخذ الأدب بصفة خاصة صيغة التأويل المنفتح على كل زمنية وحداثية، تخلدُ حِكائيتهُ، مادامت النصوص تتفاعل مع الذات القارئة وترزحُ لأسئلتهِ وآفاقه. ولا شك في أنّ أعمال محفوظ تحتفظ بهذا البريق الذي يخلدها ويعكسُ ألقها في أبعاد عدة. فرواية «اللص والكلاب»، مازالت تختمر فيها بنيات متصارعة فاعلة تلقي بظلالها على النسيج الاجتماعي للشعب المصري وهي طبقة البيروقراطية. أما رواية «يوم قُتل الزعيم» فتتميز بالطابع السياسي وما حمله من أوضاع عاصفة انتهت بقتل الزعيم. ويكمن البعد الايتقي في الروايتين من خلال تجلي ذاك الحس الوقائعي الذي يضطلع به محفوظ، كاشفًا أشكالاً فنية ابتداء من الشخصيات مروراً بالفضاءات المكانية والتنويعات بين نظام الزمن في حركة سردية دقيقة، تسفر – في الغالب – عن أنظمة جد متطورة في البنية السردية، من حذف وفصل وتأثيث المشهد درامياً، بالإضافة إلى الأسلوب المحفوظي الذي يتسمُ بالبساطة اللغوية في تعبيراتها العارية من رطانةِ العبارة المجازية. إنهُ نقش على جسم اللغة بصور الحياة والوجود، استطاعت هذه اللغة «المحفوظية» أن تتفلسف وبالتالي، تمكنت من رد كل ادعاء يقصي اللغة العربية كلغة بعيدة عن التفلسف، وأنّ إطار الوعي فيها محدود بحدّ الشعرية، مع النجيب نلاحظ العكس على مستويين:

  • الأول: لغة نجيب محفوظ لغة حسية بل وامبريقية في أقصى حدودها متاخمة للواقع.
  • ثانيا: قارب النجيب أعتى المشكلات الفلسفية تجريداً واستطاعَ أن يعبر عن ذلك في نظام حكائي وسردي، يتيح للغة العربية شروط إنتاج أدب فلسفي بامتياز.

من خلال هذه الأبعاد التي تناولنا فيها النّجيب في أفقه الايتقي، فإنّ النظام السردي في أدب محفوظ هو نظام يرسم المفارقات الواقعية بدقة، وينفتحُ على قضايا المحل والعالم، وكل ذلك لم يغادر حارتُه ومقهاه وجماعة الحرافيش التي تتحلق حوله.

سبق وأشار لوسيان غولدمان Lucien Goldmann، في كتابه «من أجل سوسيولوجيا روائية»، أن على الأدب أن يكونَ عاكساً للبنيات التحتية، الاجتماعية والاقتصادية، أي تمازج البنيتينِ النصية والاجتماعية [7].

من خلال هذا فإنّ الروايتين تعكسان هذا التصور انطلاقاً من معالجة النّجيب الذي انفتح على مقاربة هموم الواقع والمعيش المصري من خلال أعماله الروائية، فالمعالجة الأدبية انطلاقًا من إفرازات البنيات التحتية، التي تكشف على الأقل تصور محفوظ للسلطة كإيديولوجيا لإنتاج البنيات الاجتماعية والاقتصادية [8].

بهذا الشكل يكونُ الأدب تجلى كأفضل ما يكون للواقع وللسلطة، كأداة للهيمنة ولبث خطابات الأيديولوجية عبر قنواتها، وهذا ما يبرر قيام الشخصيات المحفوظية بدورِ التفسير الواقعي لإنتاج مقولات السلطة في أبعادها المتعددة.


خاتمة

ماذا بعد الذي قيل، هل يمكن إضافة المزيد؟ حتمًا نعم، فهذه مقدمات للنقر في التعالق الأدبي والفلسفي، وهذا بلا شك القصد من وراء عقد هذه المقاربة، جسر الفلسفي بالأدبي والأدبي بالفلسفي، باعتبارهما جسدًا بأعضاء مختلفة!


[1] مصطفى التواتي، دراسة في روايات نجيب محفوظ الذهنية: «اللص والكلاب» «الطريق» «الشحاذ»، (بيروت-لبنان-دار الفارابي الطبعة الثالثة:2008)، ص 11- 12- 13-14-15.[2] أنظر جورج طرابيشي، الله في رحلة نجيب محفوظ، (بيروت – لبنان، دار الطليعة للطباعة والنشر الطبعة الثالثة 1988). قارب فيها في الفصلين الأول والثاني، تصور نجيب محفوظ لتاريخ البشرية، والله في أولاد حارتنا باعتبارها تجربة رمزية فريدة في الادب العربي.[3] نجيب محفوظ، أولاد حارتنا، (بيروت- لبنان، دار الآداب الطبعة السادسة 1986) ص 14- 15-16-17 و34-35-36.[4] نجيب محفوظ، اللص والكلاب، (القاهرة: مصر، دار الشروق الطابعة الثامنة 2014) ص 9 – 10. يبتدأ نص قدوم سعيد مهران إلى الحي بهذا المشهد من الفصل الأول: «عندما أقطع هذا الشارع ذا البواكي العابسة، طريق الملاهي البائدة، الصاعدة إلى غير رفعة (…)» و«في هذه الزاوية البريئة سيكشف العدو عما أعده للقاء، فادرس طريقك ومواقعه، وهذه الدكاكين التي نشرئب منها الرؤس كالفيران المتوجسة».[5] نجيب محفوظ، يوم قتل الزعيم، (القاهرة- مكتبة مصر الجديدة) ص12. بصيغة pdf، على الموقع التالي: http://www.books4arab.com، اخر يوم دخول الموقع هو: 2017/01/15.[6] نجيب محفوظ، نفس المصدر، ص 23.[7] Lucien Goldmann, para una sociología de la novela, traducción de la edición corregida y aumentada: jame Ballesteros y Gregorio Ortiz, (editorial Ayuso 2 edición 1975), p 29-30.[8] هذا لايعني أنّ جميع روايات النجيب، تتحدد بهذا الشرط وإنما قاربنا المسألة بتسليط الضوء على الروايات التي اقتصرنا على معالجتها في المقالة.