لم تكن المستعمرات الصهيونية الأولى في فلسطين يهودية، بل مسيحية وبكلمات أدق «مسيحية صهيونية» وذلك قبل أن يبدأ هرتزل بكتابه «دولة اليهود». وقبل أن تُبنى المستوطنة الصهيونية الأولى، تكوّنت في جنوب غرب ألمانيا جماعة «الهيكليين» الألمان وبدأت دعوتها للعودة إلى فلسطين وإقامة الهيكل. ولم تمضِ إلا بضعة سنوات حتى أُقيمت أول مستعمرة الألمانية في حيفا ثم في يافا والقدس وغيرها.

تميّزت هذه المستعمرات بتطورها التقني حينها لتكون نموذجًا احتذت به المستعمرات الصهيونية اليهودية لاحقًا؛ إلا أن التجربة الألمانية فشلت لفشل ألمانيا في الحرب العالمية الأولى والثانية، وحلّت نكبة بهؤلاء الألمان لا تختلف كثيرًا عن النكبة الفلسطينية، لكن إسرائيل قامت بتعويضهم، علمًا بأن كثيرين منهم كانوا نواة الحزب النازي في فلسطين!

في التقرير التالي سنطلع على عدة جوانب من تاريخ المستعمرات الألمانية في فلسطين وصور من حياتهم ومساهماتهم.


العودة لبناء هيكل الرب!

لم تكن أرض فلسطين يومًا بمعزلٍ عن أطماع المُحتلين، فقد احتلها الروم والفرس والفراعنة كما احتلها الصليبيون ثم حررها صلاح الدين، ثم عادوا وسيطروا عليها أكثر من مرّة، حيث استطاع الإمبراطور الألماني فريدريك الثاني Frederick II أن يسيطر على القدس بطريقة سلمية وذلك بعد أن تنازل له الملك الكامل (الأيوبي) عن القدس فيما يُسمى بـ «اتفاقية فريديك الكامل» التي عُقدت يوم 18 فبراير/شباط 1229.

فريدريك الثاني
«فريدريك الثاني» إمبراطور الرومانية المقدسة

في زمن الأشرف خليل بن قلاوون حُررت فلسطين من الصليبيين، وهكذا بقيت في أيدي المُسلمين، حيث انتقلت إلى حكم العثمانيين الذين حكموها لأكثر من 400 عام، حتى بدأت تضعف إلى أن وصلت الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابورت إلى فلسطين عام 1799، ولم يكتفِ نابليون حينها بارتكاب المجازر في يافا فقط، بل راح يدعو اليهود لإقامة وطنٍ لهم على أرض فلسطين.

رغم فشل حملة نابليون أمام أسوار عكا، إلا أن الأطماع بأرض فلسطين لم تهدأ، ففي عام 1853، ومع انتهاء حرب القرم، برزت في أوروبا «حركة الأتقياء» التي تنبأت بسقوط الدولة العثمانية، وبدأت تُحضّر للعودة إلى «الأرض المقدسة»، ومن بين «الأتقياء»، ظهرت جماعة اختارت لنفسها اسم «جماعة الهيكليون» – Tempelgesellschaft بالألمانية – وهي تسمية من وحي «فرسان الهيكل» الذين ظهروا مع وصول الحملات الصليبية إلى بلاد الشام قبل حوالي 1000 عام.

في عام 1861، اجتمع 64 رجلًا من رجال الدين في ألمانيا وقرروا تأسيس لجنة «الهيكل الألماني Deutscher Tempel»، ليترأس دافيد هارديج لجنة بناء الهيكل في القدس. ونوايا هؤلاء يُمكن تلخيصها من خلال «خطاب أحد» لزعيمهم هارديج وجهه لزُعماء أوروبا وجاء فيه: «إن ظروف شعبنا أقنعتنا بأن الوقت قد حان لبناء هيكل الرب في الأرض المقدسة؛ فأقوال الأنبياء في العهدين القديم والجديد تعتبر بناء الهيكل الوسيلة الوحيدة لسعادة الشعوب والأفراد على حد سواء».


المستعمرة الأولى: في حيفا

المستعمرة الألمانية في حيفا
المستعمرة الألمانية في حيفا

قبل حوالي 10 أعوام من بناء مستوطنة «بيتاح تكفا» اليهودية المُلقبة بـ«أم المستوطنات اليهودية»، وبعد 8 أعوام من تأسيس جماعة «الهيكل الألماني»، وتحديدًا في ربيع عام 1869، بدأ بناء المُستعمرة الألمانية الأولى، حيث قام كريستوف هوفمان وهارديج بشراء قطعة من الأرض مساحتها عشرة هكتارات عن طريق الاحتيال على القانون العثماني كما يذكر أ. علي محافظة في بحثه حول المستعمرات الألمانية في فلسطين.

ويضيف الباحث أنهما قاما بالاحتيال على القانون بتشجيع من القنصل البروسي – الألماني – بالأخص لأن شراء الأرض في فلسطين وبلا جنسية عثمانية لم يكن متاحًا للأجانب حينها، ولكنهما، ومن خلال شراء الأرض عن طريق وسيط عثماني، استطاعا شراء قطعة أرض مساحتها 10 هكتارات، وعلى هذه الأرض أقيمت أول مُستعمرة على تلّة الكرمل مع إطلالة بهية على شواطئ حيفا.

في عام 1870، ومع الافتتاح الرسمي للمستعمرة الألمانية، كان قد كُتب على مدخل المُستعمرة الجديدة باللغة الألمانية ما معناه «لتنسني يميني إن نسيتك يا قُدس» وهي كلمات من كتاب «مزامير داوود»، وهو من أشهر الكُتب لدى اليهود. تمامًا كما أن هذه المقولة هي من أشهر العبارات التي يستخدمها الصهاينة من اليهود والمسيحيين للتعبير عن حُبهم الأبدي للقدس التي يُسمونها «أورشليم»، وكانت تحتوي 12 منزلا ومدرسة وكنيسة، وكلها على الطراز الأوروبي.

مهمة أولئك الألمان لم تكن سهلة، خاصة أن ألمانيا كانت تسعى لإقامة تحالفات مع الدولة العثمانية، ولم يكن بإمكانها دعم فكرة «استعمار» فلسطين و«بناء الهيكل» بشكلٍ واضح، علمًا بأن طموحات استعمارية كانت لدى ألمانيا، مثلها مثل غيرها من الدول الأوروبية، حيث كانت لها مستعمرات كثيرة في أفريقيا والمحيط الهادي، ومن أبرزها مستعمرة الكاميرون وتنزانيا ونامبيا.


صديق المسلمين.. ودعم استعمار فلسطين!

المستعمرة الألمانية في حيفا ما زالت قائمة حتى اليوم، ويُمكن لأي زائر لمدينة حيفا أن يشاهد بيوت المستعمرين الألمان حتى يومنا هذا، وهي التي تشهد أنهم لم يكونوا مُجرد جماعة، حيث يبدو أنهم كانوا من الطبقة الغنيّة، فالبيوت مبنيّة بطراز معماري فريد، وقد تحوّل أغلبها اليوم إلى مطاعم فاخرة لفخامتها، وهذا يعكس ما أراده المستوطنون الألمان، أي أن يظهروا كنموذجٍ يُحتذى به في العمارة والصناعة وحتى الدين؛ ولهذا لم يستقدموا إلى فلسطين إلا أفضل عناصرهم.

صندوق بريد في مستعمرة سارونا مكتوب عليه بالألمانية
صندوق بريد في مستعمرة سارونا مكتوب عليه بالألمانية
المستعمرة الألمانية في حيفا في ليلة رأس السنة الميلادية ‫(1)‬
المستعمرة الألمانية في حيفا في ليلة رأس السنة الميلادية ‫(1)‬
المستعمرة الألمانية في حيفا في ليلة رأس السنة الميلادية ‫(1)‬ ‫‬
المستعمرة الألمانية في حيفا في ليلة رأس السنة الميلادية ‫(2)‬ ‫‬

في عام 1898، زار القيصر الألماني ويليام الثاني Wilhelms II إسطنبول ليؤكد صداقته للمُسلمين في تلك الأيام ووقوفه بجانبهم ضد الأعداء كالإنجليز والفرنسيين، وبالفعل لقيت هذه الرحلة أصداءً إعلاميّة وشعبية واسعة في ذلك الوقت، كما يُشير البروفيسور عبدالرؤوف سنّو في كتابه «ألمانيا والإسلام في القرنين التاسع عشر والعشرين» إلى وثائق تاريخية تكشف كيف أن بعض المسلمين في تلك الأيام راح يتوهم أن القيصر يرغب باعتناق الإسلام كما أن بعضهم راح يُلقبه بالسلطان، وآخرين سمّوه باسم محمد غليوم (فيليهلم)، كما أصدرت الفتاوى التي تؤكد ضرورة الجهاد الذي أعلنه القيصر والذي عُرف لاحقًا بالجهاد الألماني.

كانت زيارة فلسطين حينها ضمن برنامج الزيارة، واغتنم المستعمرون الألمان في حيفا الفرصة ليستقبلوه بحفاوة، ولم يكن هؤلاء وحدهم، فقد كان أكثر أهل فلسطين بانتظار سلطان الألمان و«صديق الإسلام والمُسلمين» كما كان يُعتقد حينها. وخلال الزيارة، قامت ثلّة من قيادة المستعمرين الألمان بزيارة القيصر وطلبت منه الدعم. لم يتأخر القيصر عن دعمهم، بل وتم الإعلان عن مبادرة جديدة في مايو/آيار 1900 باسم «تجمع دعم المستعمرات الألمانية في فلسطين»، وقام القيصر بالتبرع بمبلغ سخي جدًا في حينها، وهو 128500 مارك ألماني لصالح المستعمرات كما يذكر موقع جماعة الهيكليين Tempelgesellschaft. وبعد هذا بثلاثة أعوام فقط، في عام 1903، أقاموا مُستعمرة جديدة في قضاء يافا وسموها «فيلهيلما»، وهي مستوحاة من كلمة فيلهم أو «وليام» على اسم القيصر ليكون اسمها «الوليامية».


الهندسة الألمانية في خدمة الاستعمار

لم يعتمد «الهيكليين» على دعم القيصر فقط، فقد حاولوا أن يجلبوا معهم كُل التقنيات المتقدمة التي كانت ألمانيا قد وصلت إليها في مرحلة ما بعد الثورة الصناعية، وقد برعوا في صناعة النبيذ والصابون، بل وساهموا في تطوير زراعة البُرتقال بشكلٍ لم تعرفه البلاد من قبل وذلك بفضل تقنية السقاية والزراعة التي جلبوها معهم، بل إنهم كانوا من أوائل من أدخل شبكات المياه والكهرباء إلى البيوت في أرض فلسطين.

يذكر تقريرٌ بعنوان «القرية الألمانية في تل أبيب» نُشر على موقع صحيفة «Die Zeit» الألمانية، أن هذه القرية وغيرها كانت تحتوي على «أحدث التقنيات» وكانت تستفيد من بيع الماكينات والسلع المستوردة لليهود الذين كانوا قد بدأوا بالاستيطان والهجرة إلى أرض فلسطين، كما أن هذه القرى الألمانية قدّمت لليهود دروسًا في كيفية تجفيف المستنقعات ومكافحة الملاريا.

وفي نفس السياق، يذكُر الباحث الدكتور عبداللطيف الطيباوي في مقالة حول المستعمرات الألمانية في فلسطين: «أن بعض اليهود حاولوا إقامة أول مستعمرة لهم في «بِتَاحْ تِكفا פתח תקוה» فأخفقوا، ثم حاولوا ذلك بعد بضع سنوات فنجحوا، فكان بعض الفضل في نجاحهم عائدًا إلى الألمان الذين علَّموا اليهود كيفية ري الأرض في ماء نهر العوجا بواسطة المضخَّات». ومن الجدير بالذكر أن بيتاح تكفا هي أشهر المستوطنات الصهيونية وأولها وترجمة اسمها للعربية هي «فتحة الأمل»!

لولا المستعمرات الألمانية لما تطوّرت الكثير من المُدن الإسرائيلية بتلك السرعة. هذا ما يؤكده المؤرخ الصهيوني يعقوب آيسلر قائلا: «آثار المستعمرين ومساهماتهم لتطوير وعمارة هذه البلاد لا يُمكن إهمالها، فقد ساهموا في المجال التقني والزراعي والصناعي كما ساهموا في مجال المواصلات والسياحة وحتى البناء وشبكات المياه… لقد جعلوا كل شيء ممكنًا هنا، وهم يستحقون أن نعتبرهم روّادًا».


سارونا، القرية الألمانية في تل أبيب!

Sarona in Tel Aviv
قرية سارونا في تل أبيب

هذه الريادة لا تزال آثارها موجودة حتى اليوم، فحتى قبل أن يكون لمدينة تل أبيب أي وجود، وفي عام 1872، كان المستعمرون الألمان قد استعمروا بالقرب من نهر العوجاء عند مدينة يافا، وأطلقوا على مستعمرتهم الجديدة اسم «سارونا». وفي عام 1875، كان هناك 80 مستوطنًا ألمانيًا فيها، وكان أغلبهم يعمل في مجال الزراعة حينها، وساهموا في تطوير زراعة البرتقال.

وعن «سارونا» كتب الصحفي الصهيوني يوآل سلمون الذي عاصر تأسيس المستعمرة: «البيوت فيها مبنية بنظام لطيف، ككل المدن الأوروبية، الشوارع واسعة والمباني فاخرة، حتى أن الذي يتجول في أنحائها سينسى أنه في الأرض المقدسة وسيظن نفسه في شوارع أوروبا»، وقد احتوت أراضي المستعمرة فندقًا وحديقة حيوانات صغيرة، كما أن المعدات الزراعية التي كانوا يستخدمونها لم يكن أحد قد شاهدها من قبل، كما أدخلوا على أرض فلسطين زراعة العنب من أجل تصنيع الخمر.

Sarona by omar asi
سارونا – تصوير: عمر عاصي
سارونا - تصوير: عمر عاصي
سارونا – تصوير: عمر عاصي
سارونا - تصوير: عمر عاصي
سارونا – تصوير: عمر عاصي

ما زال هذا المصنع، وغيره من المنازل الفخمة كذلك، موجودًا، كما أن هناك شواهد على البيوت تعود إلى فترة التأسيس وعليها كتابات ألمانية مع ترجمتها العربية، ويُمكن لزائر سارونا أن يرى حتى اليوم ما كُتب فوق بوابة أحد بيوت تلك القرية، وهو آية من مزمور 99 من «العهد القديم» باللغة العربية والألمانية: «عِزُّ الْمَلِكِ أَنْ يُحِبَّ الْحَقَّ Im Reich dieses Königs hat man das Recht lieb». ومن الجدير بالذكر أن هذه البيوت استُخدمت لأهداف عسكرية وكمبانٍ للمخابرات لفترة طويلة جدًا، ثم تم إخلاؤها لاحقًا، واليوم تحولت إلى مركز تجاري يُعتبر من أفضل المراكز التجارية في تل أبيب، وقد بُذلت جهود «جبّارة» للحفاظ على هذه البيوت وعدم هدمها، في حين مُسحت البيوت والآثار الفلسطينية من تل أبيب بكل عشوائية.

آية من مزمور 99 من «العهد القديم» باللغة العربية والألمانية فوق بوابة أحد بيوت سارونا

أما أجواء الحياة في هذه المستعمرة فيبدو أنها لم تكن صافية من المشاكل، فالصراع على الأرض المقدسة كان ظاهرًا حتى في ألعاب الأطفال ومشاكساتهم، حيث كتب دافيد تدهار عن طفولته في أول الأحياء اليهودية في يافا قائلا: «كُنت أنظّم المعارك مع أطفال العرب في حي المنشية وكانوا يردون علينا بالمثل… لاحقًا، انضم طرف ثالث لهذه الجبهة العالمية، وهم الألمان، وكان الأطفال اليهود يخافون الألمان، ولم نستطع التغلب عليهم إلا بمساعدة أطفال العرب الذين كانوا يُساعدوننا على إسقاط الطائرات الورقية التي كان يلعب بها أطفال الألمان».

صحيح أن هذه تبقى مُجرد ألعاب أطفال، إلا أن التعقيدات في فلسطين كانت قريبة إلى حد بعيد من هذه «المشاكسات»، وإن اختلفت الأدوار، بالإضافة إلى دخول بريطانيا كلاعب رابع، حيث تشير أبحاث إلى أن بعض المُستعمرين الألمان حاربوا مع العثمانيين ضد الإنجليزي في الحرب العالمية الأولى، كما تشير أبحاث أخرى إلى دعم المستعمرين الألمان للثوار الفلسطينيين ضد الإنجليز لاحقًا، وبحسب الكاتبة الألمانية «جيزيلا داكس»، حيث تشير إلى أن الكثير من المستعمرين قرروا بعد عام 1938 وصعود النازية أن ينتموا كأعضاء للحزب لمقاومة الأطماع الإنجليزية واليهودية في المنطقة، كما تنقل تصريحًا لأحد زعماء الحزب النازي في سارونا يقول فيه: «إن سارونا هي شوكة في حلق تل أبيب»، ومن الجدير بالذكر أن المعلومات المتاحة في هذا الشأن باللغة العربية قليلة جدًا، بينما المصادر الألمانية تستفيض في ذلك.


نازيون في فلسطين!

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بهزيمة ألمانيا والدولة العثمانية، وقعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وكان من أوائل ما قام به الإنجليز أن دخلوا المستعمرات الألمانية عام 1918 في جنوب فلسطين وقاموا بترحيل أكثر من 800 منهم إلى مدينة حلوان المصريّة وسجنهم في معسكراتها في الصحراء، ثم قامت بترحيل 300 آخرين إلى المانيا، ويبدو أن ذلك كان عقابًا لهم لمشاركة بعضهم مع القوات العثمانية – حليفة ألمانيا – في الحرب ضد بريطانيا.

بعد الحرب وتوقيع معاهدة فرساي عام 1919 التي فرضت على ألمانيا عقوبات ماليّة تعويضًا للمتضررين من الحرب العالمية الأولى، لم يقبل الألمان الهزيمة ليظهر الزعيم النازي ادولف هتلر بفكرته لنهوض بألمانيا من جديد، وكغيرهم من الألمان لم يتأخر «الهيكليين» في فلسطين عن الالتحاق بالحزب النازي.

تحت عنوان «نازيون في فلسطين»، ابتدأ الباحث الألماني رالف بالكه مقالته في صحيفة «دير شبيغل» الألمانية متسائلا: «هل كانت الأرض المقدسة معقلا للنازية؟»، ثم راح يؤكد أن ثُلث المستعمرين الألمان في فلسطين كانوا أعضاء مُسجلين في الحزب النازي، ثم استعرض تفاصيل كثيرة حول تجذّر العنصرية في هؤلاء المستعمرين، وكيف قام الجسم المركزي لجماعة الهيكليين أو «فرسان الهيكل» بالتصريح بأن الأفكار التي يعمل الحزب النازي لنشرها، هي أساس الفكرة التي تقوم عليها مجموعة الهيكليين، كما كان هؤلاء ينظرون إلى صعود هتلر والحزب النازي بمثابة نهضة جديدة لألمانيا، وبالتالي فقد بدأت علاقة المستعمرين بالحزب النازي في وقت متقدم جدًا، كما يظهر في المراسلات من عام 1932، التي برز فيها مدى أهمية وجود تمثيل للحزب النازية في فلسطين.

بحسب نفس التقرير، فقد كانت القوات البريطانية دائمًا تشتبه بدعم الألمان النازيين للثوار الفلسطينيين، ويضيف الباحث الألماني الذي قام بأبحاثه في جامعة تل أبيب، أن أحد قيادات الحزب النازي كان يُشير إلى أنه عندما كان يقود سيارته من يافا إلى القدس وعلم الحزب النازي يُرفرف من فوقها، فإنه يمر من القرى العربية دُون مشاكل، ويذكر كيف أنه تعرض لإطلاق نار من قبل مركبة تابعة ليهود بسبب رفعه لعلم الحزب. كما يزعم الباحث أن العرب كانوا ينصحون الألمان خلال فترة ثورة 1936 وما بعدها برفع أعلام الحزب النازي كي يتم تميزهم عن اليهود والإنجليز.

وعمومًا، فقد كتب رالف بالكي كتابًا كاملًا بعنوان «Nazis in the Holy Land 1933-1948» يتحدث فيه عن تفاصيل نشاطات الحزب النازي في فلسطين قبل النكبة، وفيه يؤكد من أن «الهيكليين» اختاروا النازية بمحض إرادتهم.


إسرائيل .. دفعت التعويضات للـ«نازيين»

مع بدء الحرب العالمية الثانية، بدأت نهاية مشروع المستعمرين الألمان في أرض فلسطين، وفي تاريخ 17 أبريل/نيسان 1948، قبل إعلان إسرائيل استقلالها بشهر، هاجمت فرقة عسكرية صهيونية يهودية مستعمرة «فالدهيم» الألمانية، فقتلت اثنين من المستعمرين وأصيبت امرأة بجروح بالغة، ثم بدأت بريطانيا بترحيل أغلبهم إلى جزيرة قبرص حيث بقوا في مخيم للاجئين لمدة عام قبل أن ينتقلوا إلى استراليا، وفي ربيع عام 1950 قامت إسرائيل بترحيل آخر الألمان الذين بقوا على الأراضي التي احتلتها، وهكذا انتهت 80 عامًا من الاستعمار الألماني في أرض فلسطين.

لم يقف المستعمرون الألمان مكتوفي الأيدي حينها، بالأخص بعد أن هُجّروا إلى قبرص حيث مكثوا عامًا في مخيمات اللجوء قبل أن يُنقلوا إلى استراليا، ويذكر موقع «الانتفاضة الاليكترونية»، فقد قاموا بجمع كُل الوثائق والمستندات التي يُمكنهم جمعها وتقدموا لمنصات دولية من أجل تحصيل حقوقهم وممتلكاتهم التي سلبتها «إسرائيل» منهم، وقد قامت حكومة استراليا بالعمل لأكثر من 10 أعوام حتى وافقت إسرائيل على دفع التعويضات، وكانت النتيجة أن إسرائيل وضمن ما يُعرف بمعاهدة لوكسمبورغ Luxemburger Abkommen عام 1952، قامت في عام 1962 بدفع 54 مليون مارك ألماني للمستعمرين الألمان.

في المقابل، فقد قامت إسرائيل بطرد أكثر من 800 ألف فلسطيني من أراضيهم، وقامت بهدم وتهجير أكثر من 500 قرية فلسطينية، ولم تدفع لهم «إسرائيل» أي قرش، ولم يتم تعويضهم، بل ما زالت تُحاربهم، كما أن نفس الدول التي مارست الضغوط الدبلوماسية كي تدفع إسرائيل التعويضات لهذه الأقلية لم تحرك ساكنًا من أجل الأغلبية العربية الفلسطينية التي بلغ عدد أفرادها عام 1948 حوالي مليون وربع فلسطيني، بينما لم يبلغ تعداد الألمان إلا 3000 آلاف على الأكثر.


الصهيونية .. بين اليهودية والمسيحية!

هذه التناقضات في تعامل المجتمع الدولي مع تعويض المستعمرين الألمان وإهمال القضية الفلسطينية لا يُمكن فهمها بشكل كامل دُون فهم حقيقة الفكر الصهيوني وحقيقة جماعة الهيكليين، وهو ما يوضحه المفكر والباحث عبدالوهاب المسيري في موسوعته «اليهود واليهودية والصهيونية» من خلال عرض وجوه التشابه بين فكر الهيكليين وبين الصهيونية اليهودية، حيث قامت فكرة الصهيونية المسيحية على «خروج الشعب المختار – البقية الصالحة من أوروبا» و«دخول أرض صهيون» وذلك لإقامة «مجتمع مثالي صهيوني» سيكون منفصلا عن المجتمع العربي، وبالتالي مجتمعًا إحلاليًا.

وبالتالي ففكرة استعمار فلسطين لم تنحصر في اليهود فقط، وهو ما يؤكده المسيري بقوله أن هناك جماعات مسيحية أخرى كانت تعمل في نفس تلك الحقبة على هيمنة المسيحيين (الاستعمار الغربي) على فلسطين عن طريق الاستيطان السلمي أو ما يُسمى بالتسلل، كما يذكر أن «الصهاينة استفادوا من تجربة فرسان الهيكل في كيفية بناء المستوطنات والتنظيم على النسق الأوروبي»، ويشير إلى أن التشابه بين التجربتين مدهش، ويضيف: «العنف العسكري هو آلية حتمية لكلتا التجربتين لأن السكان الأصليين رفضوا المستوطنين».

ويختم المسيري حديثه قائلا: «إشكالية الصهيونية هي إشكالية كامنة على المستوى الحضاري والمعرفي في الحضارة الغربية، ولذا فهي نموذج نهائي قادر على التهام أشكال الخطاب الديني المختلفة (يهوديًا كان أم مسيحيًا) ليعيد إنتاجه على هيئة مشروع لا ديني يستخدم ديباجات دينية».


خلاصة

آية من مزمور 99 من «العهد القديم» باللغة العربية والألمانية فوق بوابة أحد بيوت سارونا
آية من مزمور 99 من «العهد القديم» باللغة العربية والألمانية فوق بوابة أحد بيوت سارونا

للأسف، إن الكثير من الأعمال الوثائقية والكُتب التي تتناول قضية فلسطين بالكاد تشير إلى هذا المشروع الاستعماري الألماني الذي كان مُلهمًا للمشروع الصهيوني، وهو ما يظهر واضحًا جليًا في السلسة الوثائقية الإسرائيلية «تاريخ تل أبيب». كما أن مسألة تعويض إسرائيل لنُشطاء نازيين – سابقًا – هي مسألة تستحق التوثيق أكثر باللغة العربية، بالأخص لأن إسرائيل ما زالت لم تعترف أصلا بنكبة الفلسطينيين، ولعل الأهم من كُل هذا هو ما ذكره المسيري بخصوص فكرة إشكالية الصهيونية في الحضارة الغربية التي لا بُد وأن تجعلنا نفكر أكثر في جدوى وكيفية العمل من أجل فلسطين في الغرب.

المراجع
  1. Nazis in Palästina: "Es ist schon eine ganz nette Hitlergemeinde
  2. Nazis in Palästina – SPIEGEL ONLINE
  3. Palästina – Deutsche Kolonisten
  4. Tempelgesellschaft | Geschichte | Meilensteine
  5. Israel – Spurensuche – Region Tel Aviv – Goethe-Institut
  6. Israel: Das deutsche Dorf in Tel Aviv | ZEIT ONLINE
  7. Jüdische Allgemeine Stadtgeschichte : Ein Stück Deutschland
  8. Tempelgesellschaft | Geschichte | Vom Land um den Asperg
  9. Israel – Templer im Heiligen Land
  10. מושבה של קניות, תרבות ובילוי במרכז תל אביב – Sarona TLV שרונה
  11. תל- אביב יפו" פרק 1 –
  12. موسوعة اليهود و اليهودية و الصهيونية
  13. كيف وصل المخامرة إلى سارونا- تل أبيب؟
  14. المستعمرات الألمانية في فلسْطين – ملتقى شذرات
  15. مجمع اللغة العربية الاردني