على الرغم من أن الموسم الخامس من مسلسل نتفليكس المشوق House of Cards لم يتطرق لرئاسة «دونالد ترامب» من قريب أو من بعيد كما كان متوقعًا، إلا أن جمهور المسلسل السياسي لم يسعهم سوى المقارنة الدائمة بين بطل السلسلة الرئيس الأمريكي «فرانسيس أندروود» –يقوم بدوره النجم المخضرم كيفين سبيسي- وبين الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب الذي لم يكمل بعد 150 يومًا في البيت الأبيض.

ومنذ أن أطلقت منصة نتفليكس الجزء الأول من المسلسل في عام 2013، والعمل يحظى باهتمام عالمي بالغ ليس فقط من جانب عشاق الدراما التليفزيونية، ولكن من جانب المهتمين بالسياسة الدولية عمومًا والأمريكية خصوصًا، حيث يلقي المسلسل الضوء بشكل غير مسبوق على تفاصيل دقيقة داخل أروقة صناعة القرار الأمريكي بكل جوانبها تقريبًا، بدءًا من البيت الأبيض ومرورًا بالكونجرس (بحجرتيه مجلس الشيوخ ومجلس النواب)، والبنتاجون، ومجلس الأمن القومي، وليس انتهاءً بالمؤسسات الصحفية والنقابات والقطاع الخاص وجماعات الضغط.


أندروود نحو القمة

المسلسل يتتبع سيرة «فرانسيس أندروود» وزوجته «كلير أندروود»، وهما ثنائي يعشق السلطة أكثر من أي شيء آخر في الحياة، ليس لهما أبناء، أو عائلة، أو اهتمامات حقيقية، أو مشروعات خاصة أخرى سوى حلم الوصول الدائم لأعلى سلطة ممكنة. بدأ المسلسل وأندروود عضو في الكونجرس، يطمح للوصول لمنصب في إدارة الرئيس الأمريكي الجديد «جاريت ووكر» والذي ساعده «أندروود» بشدة في حملته طمعًا في منصب وزير الخارجية الذي وعده ووكر به. لا يفي ووكر بوعده لمواءمات سياسية تخصه، وينقلب عليه «أندروود» بشكل ناعم ويضع خطة للتسلل رويدًا للبيت الأبيض وكسب ثقة الرئيس، ثم الحصول على منصب نائب الرئيس، وبعدها يعمل باستخدام نفوذه في الصحافة والكونجرس على الإطاحة بووكر وبالتالي يحل مكانه دستوريًا، حتى انتخاب رئيس جديد.

في طريقه لذلك لا يتورع «أندروود» أو زوجته عن استخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة للوصول لهدفهما، يسيطران على مجموعة مقربة من المساعدين الأوفياء، يمكن وصفهم بالـ Minions خدم يقومون بأي شيء من أجل خدمة أسيادهم Masters بدون أدنى تفكير، منهم واحدة من أهم الشخصيات المحورية في السلسلة «دوج ستامبر» -جسده في أداء اسثتنائي الممثل مايكل كيلي-، الرجل الذي يجد ذاته فقط في خدمة أندروود وإلا يشعر بتيه عظيم. ستامبر بدأ مساعدًا لأندروود وظل ذراعه الأيمن حتى وصل إلى الأخير للمكتب البيضاوي، ثم تولى أهم وظيفة في البيت الأبيض “كبير موظفي البيت الأبيض” Chief of Staff. ساعد دوج أندروود في قتل السيناتور «بيتر روسو» –بعد أن تحول الأخير من حليف إلى عبء قد يهدد مخطط أندروود-، وقام دوج بقتل عاهرة استخدمها أيضًا في تحقيق أهداف سياسية لصالح سيده. أندروود نفسه قام باستخدام صحفية شابة «زوي» لتسريب ما يريد من معلومات يستخدمها في الضغط على البيت الأبيض أو لفضح خصومه، وعندما انقلبت عليه قام بنفسه بإلقائها تحت عجلات مترو الأنفاق.


بيت الكوتشينة

تتوالى أجزاء «بيت الكوتشينة» –المأخوذ عن كتاب شهير للكاتب والسياسي الإنجليزي «مايكل دوبس» نشر عام 1989 وتحول لسلسلة تليفزيونية قصيرة بعدها بعام واحد- لتتبع كيف وصل آل أندروود إلى سدة الرئاسة المؤقتة، وكيف استعدوا لحملتهم الانتخابية لسيطرة دائمة على البيت الأبيض تستمر لمدة 4 أعوام، وخططهم لـ 4 أعوام أخرى، وأخرى وأخرى. وتستكشف الأجزاء مساحات رمادية في السياسة الداخلية، منها ما يخص علاقة الولايات المتحدة بروسيا وكيفية تأثير الأخيرة على السياسة الأمريكية، ومنها ما يخص الصراع بين الحزبين الرئيسيين الديمقراطي والجمهوري وعلاقة حزب الرئيس بالبيت الأبيض، ومنها ما له علاقة بالمؤسسات غير الحكومية NGOs بالتاثير على صناعة القرار.

وفي الجزء الأخير وبعد أن يتعافى الرئيس المؤقت أندروود من محاولة اغتيال، ترصد السلسلة استعداده هو و«كلير» لحملة انتخابية شرسة ضد مرشح آخر أكثر شبابًا وعصرية هو «ويل كونواي» وزوجته «هاناه كونواي» واللذان يطرحان أجندة وطنية لدعم الشباب والأقليات، ويستخدمان وسائل التكنولوجيا ووسائط التواصل الاجتماعي بشكل عصري، وفي نفس الوقت يبديان عداوة واضحة لـ «فرانك أندروود» وحملته الأخيرة التي يستخدم فيها التخويف ضد إرهاب مزعوم تقوده منظمة إرهابية تدعى «أيكو»، لدعوة الناخبين للتصويت له.

وبالفعل يحاول أندروود تجييش الأمة للتصويت من أجله كمرشح يكافح الإرهاب، ويؤمّن الأمة من الخوف والرعب، وأيضًا يستغل سلطاته في ترتيب حوادث وهمية –تبدو إرهابية- لتخويف الشعب، ويدهس في طريقه عشرات الساسة الصغار، ويُسكت بمساعدة كلير ودوج أصوات أخرى قد تمثل خطرًا على رئاسته، ومنها أناس شديدو القرب منه ومن زوجته، بل ويبيتون لياليهم داخل البيت الأبيض!.

أيضًا يصلح فرانك علاقته بكلير التي تعرضت لأزمة كبيرة في الجزء السابق كان يمكن أن يصلا بها إلى الطلاق وإلى طريق مسدود، إلا أنهما في هذا الجزء بدوا أكثر تصالحًا مع نفسيهما، حيث جددا العلاقة بناءً على الشيء الوحيد المشترك الذي يجمع بينهما: عشق السلطة، وليس أي شيء آخر. ولذلك لم يكن غريبًا أن لا يجد فرانك مانعًا في أن تبيت زوجته داخل البيت الأبيض كل ليلة في غرفة منفصلة، ومع شخص آخر غيره!.


ترامب فاق كل ذلك

ربما كان يبدو كل ما تناوله House of Cards صادمًا طوال سنوات عرض المسلسل المتزامنة مع إدارة الرئيس «أوباما» المعروفة بإيقاعها البسيط وخطابها السياسي المنضبط وتركيزها على برنامج داخلي محدود، إلا أن الأمر برمته تغير أثناء حملة الانتخابات الشرسة بين دونالد ترامب وهيلاري كلينتون ووصول الأول للبيت الأبيض مطلع العام. ذلك لأن ترامب تجاوز تقريبًا كل المفاجئات التي أدهشنا بها المسلسل، وفجّر سلسلة أخرى من المفاجئات التي أذهلت شعوب العالم بأسره –وليس الأمريكيين وحدهم. المرعب أن ترامب ليس شخصية خيالية ولا يعيش دراما تليفزيونية ولا حتى برنامجًا من برامج الواقع التي اشتهر بتقديمها – منها برنامجه الشهير «المتدرب» The Apprentice-، وإنما كل ما يحدث مع ترامب يحدث في عالم الواقع الذي نعيش فيه!.

ففي حين يحاول فرانسيس أندروود مداراة كل ما يخجل منه أو يشعر معه بالعار، لا يجد ترامب غضاضة في إهانة المرأة أو الأشخاص المعاقين أو أي من الأقليات الأمريكية بمنتهى التبجح. وفي حين يلجأ أندروود لألف حيلة وحيلة للتستر على كذبه المستمر على رفقائه من السياسيين، يقوم ترامب بالكذب علانية عشرات المرات يوميًا في تصريحاته وتغريداته المستمرة على تويتر، لدرجة بدأ بها في خلق حقائق ملتوية وواقع ملتوٍ، أو كما وصفه علماء الاجتماع بالـ Alternative Facts بدأ ملايين الأمريكيين في تحويلها من كذب إلى حقائق. وفي حين يستعين أندروود بدوج من وراء الستار للقيام بأعمال السياسة القذرة، يستعين ترامب بقبيلته كاملة بدءًا من زوجته وابنته وزوج ابنته «جاريد كوشنر» الذي يعلم الجميع بمنتهى الصراحة أنه كان على اتصال دائم بالروس الذين ساعدوا ترامب على الفوز في الانتخابات عبر تدخل مباشر لأول مرة في التاريخ في نظام الانتخاب الأمريكي. وفي حين يضيع أندروود وزوجته وقتًا طويلاً من أجل الحصول على مكسب سياسي ضيق من دولة أجنبية، يذهب ترامب إلى عقر دار العرب في الرياض ليحصل منهم الجزية في مقابل تأمين الأنظمة الخليجية، ثم يعود إلى بلاده حاملاً مئات الملايين من الدولارات ومتباهيًا بالصفقة السهلة التي عقدها في مقبل رئاسته. وفي حين يضع أندروود الصحافة تحت مراقبته بشكل هادئ وخفي، يعادي ترامب في تصريحاته شبكات إخبارية بعينها ويذكر بصراحة بالاسم شبكات مثل CNN و CBS و ABC و NBC News. وفي حين يستخدم أندروود القرصنة الإلكترونية أيضًا بشكل حذر جدًا، يستخدمها ترامب بشكل ضمني حين لا ينكر إطلاقًا أن القراصنة الروس ساعدوا في دعم حملته، بل ويعفي مدير FBI من منصبه بعد أن أبدى الأخير اعتراضًا على ذلك، وكل ذلك يحدث بشكل علني.

يفجائنا ترامب بعشرات الألعاب البهلوانية السياسية القذرة يوميًا بشكل يتجاوز كل ما ورد في House of Cards تمامًا، نجلس يوميًا أمام التلفاز وشاشات الكمبيوتر لنراقب كيف يستخدم ابنته في إسالة لعاب ساسة الخليج، وكيف يجلس مع أمير قطر يومًا مبتسما مصافحًا إياه، وفي اليوم التالي يدعم قرار الخليج في مقاطعة قطر ويصفها بداعم للإرهاب، وفي اليوم الثالث يعيد الأمور لمجاريها بعدما يدفع أمير قطر نصيبه في الجزية عبر شراء قطع سلاح أمريكية جوية لا يحتاجها.

ينكر برعونة مخاطر التغير المناخي، وينسحب –في شكل مرعب- من اتفاقية باريس للمناخ، ويستعدي إيران التي هادنها سلفه ويهدد بالخروج أيضًا عن الاتفاقية التي وقّعتها العام قبل الماضي مع الدول الست الكبرى بعد مفاوضات طويلة وشاقة.

منذ أيام قليلة هاجم مسلحون مجموعة من نواب الكونجرس الجمهوريين البارزين، وتسببوا في قتل وجرح 4، على رأسهم زعيم الجمهوريين بالكونجرس «ستيف سكاليس»، الرواية الرسمية في تفسير ما حدث تظل غامضة، لكن House of Cards يدفع المرء لتخيل رواية موازية، تندفع فيها أصابع الاتهام إلى البيت الأبيض، وأن الأمر قد يكون بدافع تسوية حسابات مع حزب الرئيس الذي طالما أعلن رموزه عن عدم رضاهم عن «ترامب» لتمثيل الحزب في الانتخابات.


عن الرعب القادم

مع كل مرة ستقوم فيها بتشغيل حلقة من House of Cards، ستطالعك مقدمة المسلسل الموسيقية التي تصاحب مجموعة مشاهد متنوعة من واشنطن العاصمة، مشاهد حية من الشوارع والأبنية لا يميزها سوى شيء واحد؛ خلوها التام من البشر!. المخرج العبقري بو ويليمون قام بشكل ذكي بتصوير العاصمة وكأنها كائن حي في حد ذاته يدير نفسه بنفسه كماكينة جبارة لا تتوقف عن العمل، تصعد الشمس وتهبط والعاصمة على حالها، تسير جحافل السيارات على طرقها ليل نهار والعاصمة على حالها. وكأن صناع العمل يشيرون إلى أن القوة هي من تحكم وليس الأشخاص، فترامب مثل أندروود ومثل أوباما يأتون ويذهبون، لكن ماكينة الصراع والسلطة دائرة، وتطحن معها المحكومين وتتحكم في مصائرهم. المرعب في حالة ترامب أنه يأخذ تلك الماكينة إلى مستوى جديد على خريطة الصراع، مستوى لا مثيل له في الجشع والطمع والشعبوية والتخويف والتخوين والكذب، لا يبشر إلى بشيء واحد فقط، إلى تحول واشنطن ليس فقط إلى ماكينة جبارة أكثر شراسة، وإنما إلا وحش جبار حقيقي، لا يعلم سوى الله كيفية إيقافه.

في House of Cards يركز صناع العمل على تجسيد غريزة السلطة المطلقة التي تسيطر على البشر، يبدو فرانك وكلير مدفوعين بشهوة أكبر من طاقتهما الفردية، ولكن بأمر أعلى يكاد يقترب من غريزة البقاء على قيد الحياة نفسها Survival التي دفعت البشر بشكل جمعي للحفاظ على نوعهم عبر مئات الآلاف من السنوات، ولذلك يعملان دومًا على «البقاء» في السلطة بشكل تبادلي، ويحاولان اكتشاف طريقة تمكنهم من الاحتفاظ بها طوال العمر.

هذا شيء مرعب إضافي، أن يجد ترامب وسيلة لتحقيق ذلك، عبر إتمامه لزواج ثلاثي بين السلطة والجيش والقطاع الخاص. ليرحمنا الله.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.